​أضواء على جديد فردريك معتوق

Views: 100

د. نديم منصوري

طالَب عالِم الاجتماع اللّبنانيّ فردريك معتوق في كِتابه السابق “صدام العصبيّات العربيّة” (الصادر عن منتدى المَعارف في بيروت، والحائز على جائزة الإبداع لأهمّ كِتاب عربيّ لعام 2018 من مؤسّسة الفكر العربيّ) بمحو العصبيّة من المواطنة قبل الدخول في الدولة المدنيّة. ويبدو أنّ هاجس مخاطر العصبيّة بقيَ يُقلق الكاتِب، ما دفعه إلى استمرار دعواته في كِتابه الجديد “التقدّم الحضاريّ العربيّ المعصوب” من أجل اتّخاذ المجتمعات العربيّة “الخيار الحضاريّ الجديد” في قطع الجسور مع العصبيّة (المعطِّلة للتطوّر المعرفيّ العربيّ) ومدّ الجسور الحضاريّة الجديدة وفق أنموذج مُنفتِح ومُنتِج.

يقوم معتوق في هذا الكِتاب المهمّ، بتفسيرٍ مفصّل لمفهوم العصبيّة على مستويات الفهم الاجتماعي والثقافي والديني والتاريخي..، ما يجعل الكتاب مرجعاً علميّاً سوسيولوجيّاً لتشخيص مفهوم العصبيّة لينهل منه أهل القرار قبل أهل العِلم، مع ضرورة نفاذه إلى القيّمين على المؤسّسات الدينيّة والتربويّة للتوقّف مليّاً عند فهم العصبيّة التي يظهرها معتوق بأنّها أكثر المعوّقات لبنية المجتمعات العربيّة.

فألا يستحقّ الأمر مُعاودة قراءة ذاتنا وتكويننا الذهني والمعرفي لنتمكّن من الانتقال الحضاري بخطوات ثابتة؟

نَحن وهُم، مناطقنا ومناطقهم..

يبدأ معتوق كِتابه (الفصل الأوّل) في تفسير كلمتَين بسيطتَين هُما: نَحن وهُم، لِما تؤدّيانه من دَورٍ معرفيّ دفين في التداول العامّ. فهُما لا تعنيان ما تشير إليهما اللّغة، بل تشيران إلى “جسمَين اجتماعيَّين مستقلَّين تماماً عن بعضهما البعض في الإدراك والمُمارَسة”. ففي الفهم السوسيولوجي، ولاسيّما مع جورج غوروفيتش يضع “النحن والهُم” في باب أنواع المعرفة، كون معرفة الآخر هي معرفة نوعيّة، ذهنيّة وبشريّة التركيب، فيتمّ إدراكها على اعتبار أنّ العلاقة تتمّ بين الجماعة والفرد. في حين أنّ الوعي العصباني يضعهما في خانة مُختلفة من الإدراك فتُصبح العلاقة ما بين جماعة وجماعة أخرى.

وبالفعل فإنّنا في السياق المُتداوَل في الأوساط الاجتماعيّة العصبانيّة اللّبنانيّة أو العربيّة، نسمع عبارات: “جماعتن، إخواننا، هُم كذا ونحن كذا، لا تفعل مثلهم..” ما يوحي بأنّ ثمّة جداراً رمزيّاً يفصل معنويّاً جماعة عن أخرى داخل المجتمع الواحد. وتبقى هاتَان الجماعتَان منفصلتَين لا تتكاملان ولا تتلاقيان، ولا تتوحّدان كون الانفصال قاعدة أساسيّة تُجنِّب العصبيّة ذوبانها في عصبيّة أخرى! ولأنّ الاندماج السياسي يختلف عن التكامل السياسي. وقد قدَّم معتوق أمثلة عديدة في الفصل الرابع من كِتابه تُفسِّر أنّ الاندماج السياسي الذي تمّ في المجتمعات العربيّة قام على تركيبات أساسها عصبي، ما أَنتج مجتمعات مقسومة معرفيّاً تُعرقل تكاملها الاجتماعي الحقيقي. وبذلك، وعلى الرّغم من الاندماج السياسي، يبقى لكلّ عصبة مناطقها فتنشأ الأحياء بمسمّياتها الدينيّة أو المذهبيّة أو العرقيّة أو الاثنيّة وتؤدّي إلى حروب وتهجير وتطهير عند اعتداء عصبة على أخرى.

إنّ حالة التكامل الاجتماعي هي حالة لا تتمّ سوى بزوال الحدود المعرفيّة التي يرفع جدرانها أصحاب العصبيّات ولو كانوا يقطنون مساحات جغرافيّة دون جدران مرئيّة.

مصدر العصبيّة

يوضح معتوق أنّ ثمّة اعتقاداً مغلوطاً في اعتبار أنّ مصدر العصبيّة هو الدّين، بينما تستمدّ العصبيّة قوّتها ومَكانتها من الإرث الثقافي والاجتماعي السائد (الفصل الثاني). فالعصبيّة غائبة تماماً عن النصوص الدينيّة، “حيث لا نجد أثراً لهذا المفهوم لا في نصوص الإنجيل المقدّس ولا في سور القرآن الكريم”، حيث تنتمي العصبيّة كمفهوم إلى فضاء الواقع السياسي المعيش، لا إلى الفضاء الديني. ويرى أنّ العصبيّات كلّها، بما فيها التي تدّعي أنّها دينيّة أو مذهبيّة، هي منظومات تفكير وسلوك أفقيّة، عَينها على الأشياء الأرضيّة وعلى المُلك، لا على التأمّل الروحاني في التوحُّد مع الخالق. كما أنّ الإيمان الديني يتطلَّب مؤمناً بعقيدتها، بينما العصبيّة تتوجّه إلى نصيرٍ مُستميت تتحكّم فيه مَصالح عصبيّته؛ ذلك أنّ الأخيرة مبنيَّة على قيَم وأعراف لا على مبادئ ثابتة كالإيمان. فالمؤمن يتواصل روحيّاً مع الله، بينما هاجس العصبيّة هو الطاعة لصاحب الشوكة! حيث لا تضع العصبيّة موضوع الإيمان والروحانيّات في حساباتها لأنّها لا تسعى إلى بلوغ الله بل تستميت لبلوغ الغُلب. فلا مجال للمُقارَنة ما بين الإيمان الديني والعصبيّة، سيبقى الأوّل من أهل الصالحات، وتبقى الثانية من أهل المَصالح. فالغاية النهائيّة للاثنَين مختلفة تماماً وبينهما مسافات معنويّة وفكريّة هائلة، وبقدر ما يرتكز الإيمان على الشموليّة وعلى العامّ، تتّجه العصبيّة إلى التقوقع داخل أهل عصبتها وفروعها.

من جهة أخرى، كيف استطاعت العصبيّة أن تستمرّ في المجتمعات الحديثة طالما أنّ مصدرها التراث الاجتماعي والفكري؟

يبدأ معتوق من المناهج التعليميّة (الفصل الثالث)، مُعتبِراً أنّ أهمّ الألوان الشعريّة في التراث الأدبي العربي هي المديح والهجاء والرثاء، وبأنّ المَناهج التعليميّة تزخر بهذه المضامين الشعريّة التي تتطابق مع الاستعدادات العصبيّة المُستكملة لوعي الفرد ضمن تربيته الأسريّة. فجاء معظم الشعر العربي القديم عصبّي الخيط والحياكة، على الرّغم من أنّ الدّين الإسلامي ونصوصه القرآنيّة تبغض الكذّابين والمُنافقين وأصحاب الغايات. من هنا يتساءل معتوق: لماذا يا تُرى عمدت المناهج التعليميّة العربيّة، منذ اعتمادها رسميّاً في القرن العشرين وحتّى يومنا هذا، إلى اختيار الشعر العربي العصبي القديم أساساً وقاعدة لتعليم الآدب على الرّغم من التحذير القرآني الذي رافقه؟ وتفسير ذلك، مردّه صعوبة مُواجَهة الوعي العصبي المتغلغل في ثنايا المثقّفين العرب التقليديّين والسياسيّين المُمسكين بزمام السلطة السياسيّة، الذين يشكّلون عنصر استدامة العصبيّة في التربية والسياسة كونه يناسب مصالحهم ويحرصون على استمراره في النصوص كما في النفوس.

كما يرى معتوق، أنّ ما جعل عمر العصبيّة مديداً في الثقافة العربيّة، هو تقاعُس المفكّرين في المُساءلة المعرفيّة للعصبيّة، حيث تُركت دون تشويش يُذكر، وبقيت البيئة العربيّة بيئة حاضنة للعصبيّة وعنصراً طبيعيّاً يتعامل معها الجميع من دون تحفّظ. إذن العصبيّة من التراث، العصبيّة من التقليد، ولا يُمكن للمجتمعات العربيّة الانتقال إلى الحضارة العالَميّة الحديثة إلّا عندما نُدرك هذا الواقع ونقرِّر التخلّي عن العصبيّات ومُندرجاتها.

دستور العصبيّة

إنّ العالَم الذهني للعصبيّة مبنيّ بكلّيته على الغُلب، فالغُلب هو القانون والدستور، ومنه تتفرّع كلّ المعاني وغايات الأفكار، إنّه قلب العصبيّة النابض. لذا يلفت معتوق مُستنداً إلى ابن منظور، إلى أنّ معنى كلمة “غلبه” اصطلاحاً تعني “قهره”، موضِحاً أنّ دلالة الغلب لا تعني الانتصار حصراً، بل هو قهر وانكسار؛ ما يمنح الغالِب سلطة القرار في تحديد مصير المغلوب، وعلى الأخير أن يقبل طوعاً بالقهر وبجميع قرارات الغالب!. هذا ما جعل ابن خلدون – ربطاً بخبرته السياسيّة والاجتماعيّة- يعطي مصطلح الغُلب أبعاداً ثلاثيّة: مكانيّة وزمانيّة وثقافيّة، وأن يستكشف البُعد الإبيستمولوجي لمفهوم الغُلب بمعاني القهر المُختلفة، رابطاً جميع هذه المعاني بعمودٍ فقري واحد، هو العمران البشري، وبنخاعه الشوكي المتمثّل بالسياسة (الفصل السادس).

لقد خصّ ابن خلدون مصطلح الغُلب بمَوقع الصدراة في مقدّمته، حيث ترد 295 مرّة في معرض كلامه على العمران البشري، 204 لكلمة عمران، 199 مرّة لكلمة العصبيّة، 71 مرّة لكلمة حرب، 46 مرّة لكلمة قتال! ما معنى ذلك برأي معتوق؟ يعني ذلك أنّ مفهومَي العمران والعصبيّة جوهريّان، فيما مفهوم الغُلب مفصليّ. وعليه، يتمفصل العمران البشري، وعليه تتمفصل العصبيّة. كما أنّ الغُلب وتفريعاته الاصطلاحيّة، من تغلّب وغلبة، أهمّ بكثير من فعل الحرب أو القتال، لأنّ الغُلب هو الغاية النهائيّة، وبه يؤدّي الأمر إلى التحكّم وإلى بسط سلطانه وسيادته على مجالات العمران كلّها. ومن هنا يأتي تفوّقه على المَفاهيم الأخرى.

ويعمد معتوق إلى تفسير ما يسمّيه بالوصيّة المعرفيّة القائلة: ” أنا وأخي على ابن عمّي، وأنا وابن عمّي على الغريب”. حيث يشير هذا المَثل القَبليّ العتيد إلى اختصار فلسفة العصبيّة بأشكالها كافّة، القديمة والحديثة. ونستخلص في ما قدَّمه معتوق (الفصل الخامس) أنّ البنية المفاهيميّة الخاصّة بالعصبيّة، تكمن في الغُلب الذي يشكِّل القاطرة، ويشكِّل الغريب مَوقع المقطور والمقهور الذي تتحكّم به القاطرة. فالغريب مفهوم تابع، ولا يحقّ له في المنطق القبلي، اختلف أو اتّفق الأخوة وأولاد العمّ المنتمون إلى العصبة الواحدة، أن يتمتّع بأيّ نَوع من أنواع السيادة، أو بأيّ دَور في السلطة أو الحُكم. مَوقعه محصور ضمن خانة المغلوبين والمقهورين، وممنوع عليه أن يرتقي إلى مَوقع الغالِب.

تمظهرات العصبيّات

1- العصبيّة القوميّة

يبدأ معتوق في تفصيل تمظهرات العصبيّات “بالعصبيّة القوميّة” (الفصل الثامن). وهو يقوم بدمج العصبيّة (المُغلقة) مع القوميّة (المُنفتحة)، كيف ذلك؟ يجيب معتوق في كِتابه، أنّ الكثيرين تجنّبوا زجّ مفهوم القوميّة بالعصبيّة، وذلك لارتباط هذا المفهوم بمُثل عليا مرتبطة بالعروبة من جهة، وارتباطه بالثورة الفرنسيّة ونجاحاتها من جهة أخرى، ما جعل النهضويّين يهلّلون له من دون التنبّه إلى أنّ المفهوم الغربي للقوميّة لا يتطابق مع مدلوله الشرقي! ويضيف معتوق: لا وجود لمفهوم موحَّد للقوميّة، بل ثلاثة تجلّيات مختلفة ومتناسقة نسبيّاً، تضعنا أمام عصبيّات قوميّة لا عصبيّة قوميّة. ويجد أنّ هناك ثلاثة أصناف من العصبيّات القوميّة هي:

أ‌- العصبيّة القوميّة العتيقة Antique: وهي العصبيّة الأقرب إلى العصبيّة القبليّة،لأنّها تشكِّل امتداداً معرفيّاً لها. تبتعد عنها زمنيّاً لكنّها لم تنقطع عنها إبستيمولوجيّاً. وهي تدور بشكلٍ أساس حول قَومٍ يتجسّد في قبيلة أو مدينة على خلفيّة معرفيّة قبليّة مُنغلقة.

ب‌- العصبيّة القوميّة القديمةAncien: هي امتداد للعصبيّة القبليّة أيضاً، وامتداد معرفي للعصبيّة القوميّة العتيقة، إلّا أنّها تختلف عنها كثيراً بسبب انتقالها إلى صيغة دول المُلك، المتضمّنة للعديد من الأقوام والعصبيّات الصغيرة، وكون الأديان السماويّة قد دخلت في صِيغ الحُكم. الأمر الذي جعل العصبيّة القوميّة القديمة، عصبيّة حصريّة (كما هي كلّ القوميّات) وسياسيّة (كما هي كلّ العصبيّات) وشرعيّة (كما كانت عليه جميع الدول المُعتمِدة مبدأ دين الدولة كأساس لحُكمها).

ج‌- العصبيّة القوميّة الحديثة Modern: تختلف هذه العصبيّة عن سابقاتها لأنّها تتخلّى عن دولة المُلك، وتتخلّى عن العصبيّة الدينيّة أو المذهبيّة، حيث تتّخذ مفاهيم جديدة مثل المُواطنة والعلمانيّة وحقوق الإنسان… وهي مفاهيم لا ترد في العصبيّات السابقة، ما يجعلها بفضل الثورة الفرنسيّة قوميّة حديثة على المستويات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. لكنّ معتوق يسأل ما إذا كانت ” قوميّة الثورة الفرنسيّة، الحديثة الطابع، قد تخلّت فعليّاً عن النزعة العصبيّة بتخلّيها عن عصبيّتَي المُلك والدين؟”.

2- العصبيّة العرقيّة

يعرِّف معتوق العصبيّات العرقيّة بأنّها “منظومات التفكير والسلوك التي تُرافق وتحقّق ميدانيّاً، في الحقل السياسي، ما تنشده نظريّات التفوّق العرقي، نعيراً وتذمّراً واستماتةً”. ومن هذا المنطلق هي تبذل جهداً كبيراً في صناعة عدوّها، مستندةً إلى مُواكبةٍ تربويّة وإعلاميّة حثيثة. وتأخذ هذه العصبيّة شكلَين مختلفَين ربطاً بالإطار التاريخي وهي:

أ‌- العصبيّة العرقيّة القديمة: يقدِّم معتوق شرحاً مفصّلاً للتجربة الأميركيّة خلال حربها الأهليّة (1861- 1865) ما بين سكّان الجنوب المُتباهين بتفوّقهم الفكري والفلسفي على سكّان الشمال المُطالبين بإلغاء العبوديّة، مُرتكِزاً على تحليل ما تقدَّم به مُنظِّر عصبيّة أهل الجنوب الكاتِب جورج فيتزهاغ وطروحاته التعصبيّة (الفصل التاسع). كما يشير إلى أنّ هذه العصبيّة العرقيّة قد ارتكزت على عنصريّة عرقيّة معمّمة وغائيّة تحوّلت بعد التهديد السياسي لها إلى مُمانعة عصبيّة مبنيَّة على مُغالَبة عسكريّة شرسة. بينما العصبيّة القبليّة، الخلدونيّة، تبدأ بالمُغالَبة، ثم تنتقل بعد تحقيق الغلب العسكري إلى المُمانعة السياسيّة.

ب‌- العصبيّة العرقيّة الحديثة: ينتقل معتوق إلى تمظهر آخر من العصبيّة العرقيّة (الفصل العاشر)، وهو العصبيّة العرقيّة الحديثة التي عيشت في ألمانيا النازيّة. وما يميِّز هذه العصبيّة العرقيّة عن سابقتها القديمة، هو أنّ الأخيرة كانت عصبيّة عرقيّة انفصاليّة، دفاعيّة ويقوم مشروعها السياسي على تطويع الأخوة، بينما الأولى هي عصبيّة عرقيّة نازيّة، هجوميّة، يقوم مشروعها السياسي على حذف الأخوة.

انبثقت العصبيّة العرقيّة الحديثة من رحم الثورة، الهادفة إلى السيطرة على العالَم أجمع، بغية تجديد النسل البشري لصالح الإنسانيّة كلّها، الأمر الذي جعل النازيّة تبتكر فئة اجتماعيّة جديدة هي فئة اللّااجتماعيّين Asozialen التي تشمل الألمان المشرّدين والمعوّقين والمثليّين… الذين ينتهي مصيرهم بالقتل الرحيم!

لقد سعت العصبيّة النازيّة إلى ابتكار قاعدة مجتمعيّة جديدة ترتكز على المتّحد العرقي، وعلى عصبيّة حزبيّة، وعلى قالب حديث في إدارة الدولة ومؤسّساتها، إلّا أنّ هذا القالب الحديث لم يجعلها، كما يُظهر معتوق، حديثة بالمعنى الفعلي، بل بقيت عناصر العصبيّة من نعير واستماتة وصناعة عدوّ حاضرة ومؤثّرة، وإن اتّخذت طابعاً مُغايراً يُراعي أنموذجها العرقي الذي يُمكن أن يقود مستقبلاً إلى عصبيّات ما بعد حداثيّة وفي مجتمعات تظهر أنّها متقدّمة جداً!

3- العصبيّة الدينيّة

امتلكت الديانات السماويّة، كمفهوم منبثق من السماء وزاهد بكنوز الأرض، فرصة الإطاحة بالعصبيّات المُسيطِرة على الذهن البشري خلال الأزمنة السابقة. ويستعرض معتوق تجاربها (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة) التي فشلت جميعها في الصمود أمام العصبيّات ورسالتها الماديّة مقابل الديانات ورسالتها الروحانيّة! ففي كلّ دين، كان هناك مَن ينظر إلى ربْط السماوي بالمُلك الأرضي. وأَنتج هذا الربط مفهوم الحاكِم والسلطان والإمبرطور الذي يجسِّد ظلّ الله على الأرض. فصار الدفاع عمّا هو أرضي يوازي الدفاع عمّا هو سماوي! فتمكّنت العصبيّة، كمنظومة تفكير وسلوك سياسيّة، من التغلّب على الدّين وجعْل رسالته الروحانيّة خادمة للمصالح الأرضيّة إلى يومنا هذا! إنّ تسييس الدعوة الدينيّة وخلطها بالعصبيّة القبليّة، أَنتج الحروب الدينيّة كلّها وغيّر وجه الأرض خلال جميع الحقبات الدينيّة.

فمع التجربة اليهوديّة، صار الكلام الإلهي، الرافض للقتل من خلال الوصيّة السادسة التي سلّمها الله لموسى، مشروعاً مبرّراً باسم الدّين السماوي نفسه. ولم تحُل التجربة المسيحيّة، الخالية كليّاً من النعرة العصبيّة، وعلى الرّغم من رسالة التسامح والمحبّة التي كرّسها يسوع في تعاليمه، دون ولوج السلطة مطلع القرن الرابع، فانقلبت الطوبى إلى إيديولوجيا على حدّ تعبير كارل مانهايم. ولم يكُن الأمر مختلفاً مع التجربة الإسلاميّة التي يخلو نصّها القرآني من المفاهيم المكوِّنة للعصبيّة، كالعنف والعداوة والاستماتة والغنيمة، إلّا أنّ الثقافة العصبيّة تمكّنت من التسلّل ومن تسخير النصّ الديني لغاياتها العنفيّة والعسكريّة، ما جعل الانغلاق والانطواء والعصبيّة سائداً على حساب الانفتاح والإيمان والروحانيّات.

4- العصبيّة المذهبيّة

من المولودات العصبيّة الفريدة ثمّة العصبيّة المذهبيّة. لذلك لم يقُم معتوق بإدراجها من ضمن العصبيّة الدينيّة كمصدر أمّ لها، لأنّها ليست عصبيّة فرعيّة بل عصبيّة لها نواتها الخاصّة ونسيجها الخاصّ، وخطابها الخاصّ وجمهورها الخاصّ!

لا يُمكن للعصبيّة المذهبيّة أن تتكامل مع العصبيّة الدينيّة، “لأنّها تعتبر نفسها تجسيداً جديداً للدّين الأصلي وبديلاً عصريّاً له”. هذا ما نجده في الحالات المسيحيّة والإسلاميّة كافّة. ويفنِّد معتوق هذه الحالات مبتدئاً بالخطاب الانشقاقي التكفيري القائم على مبدأ تكفير أهل الخليّة الدينيّة الأمّ، وإظهار أنّ خطابها الديني غير صحيح، بل مشوِّه لسلوك أفرادها. ويتمّ التكفير هنا لا من باب التكفير والخروج من دائرة الإيمان ككلّ، بل الخروج من دائرة الإيمان الصحيح، مروراً بالاعتماد على نفي إنسانيّة الآخر المذهبي، استناداً إلى سير ماضية أو راهنة بغية تبرير إلغائه أو محاربته أو السعي نحو تقويم مساره.

فمع العصبيّة المذهبيّة لم يعُد العدوّ خارجيّاً، بل هو عدوّ داخلي ومن الدّين نفسه، لذا تتطلّب هذه العصبيّة تعبئة سياسة حزبيّة، تؤدّي إلى تغليب المصلحة السياسيّة على المصلحة الدينيّة تحت حجّة خصوصيّة المذهب وحقوق أتباعه.

ثورة معرفيّة عربيّة

بمُقارَبةٍ طبيّة/سوسيولوجيّة، فسَّر معتوق مَخاطر العصبيّة التي تُشبه مَخاطر الفيروس تماماً. “فالعصبيّة جُسيمٌ ذهني سياسي مُعدٍ يتكاثر فقط في الخلايا الاجتماعيّة الحيّة. بمعنى أنّ العصبيّة لا تنشأ مع الإنسان، بل هي جُسيم دخيل يخترق وعيه ويستقرّ فيه، ثمّ يعمل على جعله يشتغل لمصلحة مشروعه السياسي، بالعدوى الداخليّة، النفس – الاجتماعيّة”. فالعصبيّة إذاً ليست سلوكاً غريزيّاً، بل عدوى ذهنيّة يزيد أمر تعقيدها، عندما نعلم أنّ الفيروس لا يموت، بل يبقى كامناً في جسم الإنسان، كجزء لا يتجزّأ من تراثه الجيني، تماماً كالعصبيّة التي تستقرّ، مدى الحياة، في حمض الفرد الاجتماعي الذهني، فتغدو جزءاً لا يتجزّأ من تراثه المعرفي التاريخي. ومن هنا يستنتج معتوق أنّ ثمّة عصبيّة ناعمة نائمة تستيقظ مع تصاعُد الوباء الاجتماعي، وعصبيّة خشنة طابعها عسكري ودموي تحضر مع حضور المشروع السياسي المُستدعي لها.

لكنّ المُقارَبة الطبيّة نفسها تتدخّل لتوضح أنّ هذا الفيروس الذي لا يموت قابل للتجميد، من خلال فرز هرمون رادع لانتشار الفيروس، من دون التمكّن من القضاء عليه كليّاً. أمام هذا، يرى معتوق أنّ الأمر بحاجة إلى هرمونٍ ذهنيّ يتطلّب عنصرَين مُلزمَين: عنصر الوعي الفردي، وعنصر إرادة تفعيل الدفاعات الذاتيّة والعامّة. (curlygirldesign.com) وبهما فإنّ الذهن البشري قادر على تجميد مفعول العصبيّة ومنع العدوى من الانتشار والتحوّل إلى وباء. لذلك لا مجال لمُكافحة العصبيّة بشكلٍ فاعل وشامل إلّا بواسطة الدولة العاملة على محو العصبيّة من دستورها ومن قانونها المدني وسلطاتها المُختلفة. ومن خلال إنتاج معرفة سوسيولوجيّة سياسيّة حديثة تقوم بمهمّتَين في وقتٍ واحد: الأولى، تعرية العصبيّات على الرّغم من الصعوبات الاجتماعيّة والفكريّة. الثانية، جعْل الدولة تعتمد في دستورها وسياساتها المُختلفة نبذَ العصبيّة بتجلّياتها المتنوّعة.

ويختم معتوق كِتابه بالقول إنّ من خلال هاتَين المهمّتين الشاقّتَين، لا يُمكن أن نتخلّص من العصبيّة سوى من خلال ثورة معرفيّة عربيّة، ومن خلال أُفقٍ مَعرفي عربي مُشرق جديد؛ حيث يجد أنّه لا يُمكننا أن نَدخل الحضارة ما دمنا نعشق عصبيّاتنا وعصبيّات سوانا.

***

(*) أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللّبنانيّة

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *