بيتر مدوّر… جائزة نوبل  للبنان

Views: 1990

جورج سكاف

    كان المارد اللبناني، المتعدد النشاطات في السياسة وفي الأعمال، كما في العلاقات الدولية، أميل البستاني في لندن عندما اعلنت جوائز نوبل السنوية، واذا بين الفائزين بالجائزة عالم بريطاني فاز بجائزة نوبل في الطب،  اسمه ” بيتر ميداوار”، فلفته اسم عائلته وتساءل اميل البستاني في نفسه: ماذا لو كانت له علاقة قربى بعائلة مدوّر اللبنانية. وكعادته في أخذ المبادرة والاسراع في التقاط المناسبات، استنفر مكتبه في لندن  للاستعلام عن العالم البريطاني والاتصال به وترتيب لقاء به، وفي اليوم التالي كان لقاء للتهنئة والتعارف واعتراف العالم البريطاني بانه سمع من والده ان لعائلته اصولا في لبنان، ولم يتركه النائب اللبناني الا وقد أخذ موافقته على تلبية دعوته لزيارة بلد اصوله وموطن اجداده. 

اميل البستاني

 

أعدّ اميل البستاني لضيفه النابغة اللبناني الأصل برنامجا لائقا، بعيدا عن الرسميات، بناء على اصرار ضيفه، فانزله في بيته وأقام له سلسلة من اللقاءات والاحتفالات، جمعته بكل من يجدر بهم التعرف الى الضيف الكبير، ومن خلالهم يتعرّف هو الى لبنان، بمختلف وجوهه وفئاته، وبينهم كبار المسؤولين ورجال الدولة وأهل العلم والثقافة. كما رافقه في زيارة مناطق عديدة من لبنان حيث شاهد الآثار الحضارية واطّلع على حياة اللبنانيين بمختلف عاداتهم وتقاليدهم. وتضمن هذا البرنامج الحافل زيارة الى هياكل بعلبك، وفي طريق العودة تناول الغذاء في زحله عند صديقه جورج سكاف. 

بيتر مدوّر وجورج سكاف

 

تهيّبت كثيرا لما خصني به اميل البستاني  باستضافة العالم الكبير للغذاء  في مدينتي العزيزة، فاتصلت فورا بالذي يعرف كيف يعد أجمل الحفلات وأكبر المآدب لكبار ضيوف جارة الوادي، أحد أصحاب فندق قادري الكبير وكازينو وادي زحله الصديق نقولا ألوف، فقلت له كم يسرني ان تستقبل زحله البروفسور بيتر مدوّر اللبناني الأصل الذي فاز بجائزة نوبل في الطب، واني اتّكل عليه ليبيّض وجهنا. 

 

عندما حضرت الى كازينو الوادي قبيل الموعد لاستقبال الضيوف، بدا المكان الأليف وكأنّه تغيّر كلّياً، انه  في عرس من الأزهار، والى يمين المدخل شلاّل من المياه فوق جبل من الفاكهة، وموائد عديدة مزيّنة وموزعة في كل اتجاه، مثقلة بكل انواع المقبّلات والمشروبات والحلويات… فصدمت وقلت في نفسي ما أتعس ان تصادف دعوتي لعالم كبير مع حفلة كبرى تكريم ربما لأمير عربي يأتي في الوقت ذاته، ضيفاً على صاحب دولة او ذي ثراء وجاه. فسألت عن الصديق ألوف لأطلب منه ان يبعدنا ما أمكن عن هذه الموائد الصارخة، فاسرع اليّ يسألني اذا كان كل شيء كما أود وأتمنى، فلم استطع الجواب، واكتفيت بايماءة فيها من العتب والاستغراب أكثر مما تعبّر عن الرضى.

 

 وبدأ المدعوون يتوافدون وعند دخولهم تعلو على وجوههم علائم الدهشة والاستغراب. وكما في ولائم الامراء وفي حفلات أصحاب القصور المنيفة. أخذ جيش الخدام يتدفق بلباسه الشرقي المزخرف، وهم يتقدمون من المدعوين بمختلف أصناف المقبلات الشهيّة، وكل مدعو يشعر بانه المحتفى به، بينما البروفسور بيتر مدوّر، الذي يشبه بقامته المديدة وطلته المهيبة أحد كبار نجوم السينما، فيحاول ان يشرح لزوجته، وهي صورة مجسمة عن الليدي البريطانية العريقة، ما يعرفه او سمع عنه، من المأكولات اللبنانية الشهية، فتتذوق منها بلذّة وتقدير حتى فوجئت بما طفر الدمعة في عينيها، عند تقديم العصافير المشوية، فصرخت : حرام أكل هذه المخلوقات اللطيفة، ولكن جوقة العصافير التي كان تغرد في عب الاشجار فوق الرؤوس، ومحاولة التبرير بان ما يتم اصطياده هو من تلك التي تمر موسميأ، وهي مهاجرة من بلاد الصقيع الى حيث الدفء،  فتحط في  السهول وتفتك بالمزروعات، قبل ان تصل الى المحيطات وتنفق فيها من عياء. وعادت البهجة الى الجو اللطيف بعد ان سحبت لفائف (عرائس) العصافير، وحطت القوز ( الخواريف المحشية)، مكانها. ترافقها افواج من أقراص الكبة الزحلية، ومن اشياش المشاوي مع صحون الحمص والفول، المغمسة بزيت الزيتون. وانتهت المأدبة تحت سرادق كبير بلبس العباءة المزركشة، وتناول الفاكهة اللبنانية، بكل تنوعاتها وتناغم ألوانها، المتصدرة على صدور نحاسية منقوشة بخطوط عربية، وشرب القهوة على دقّ المهباج.

 

بعد ان ودعت الضيوف، عدت الى صاحب الكرم الحاتمي لأشكره وأحاسبه، فراح هو يشكرني على تخصيص واديه بشرف تكريم النابغة العالمي اللبناني الأصل، ورجاني ان أقبل بان نكون ضيوفه، فقلت له وهل تقبل انت ان تتنزع مني شرف تكريم الضيف الكبير، او ان تكون حفلتي بحساب غيري ؟ وقلت له : يكفيك انك سحرتنا بما فعلت ؟ فاصر، وأصريت، وأقسم  عندها بأغلى من لديه ومن لديّ، بأنه يقبل ان أدفع قيمة الكلفة.   

 

عندما عدت، في المساء، الى مكتبي في “الجريدة” كان أميل البستاني قد اتصل مرات عديدة يسأل  عني بالحاح لا ليشكرني  بل ليعاتبني على جنوني، ويبلغني بان البروفسور بيتر مدوّر لم يقبل دعوته الاّ بعد تعهّده له  بان يكون ضيفه وحسب، لذلك يرجوني بان ادع المشرف على تنظيم الرحلة ان يقوم بتسديد الحساب في زحله، فقلت له لقد سبق السيف العزل، واذا كنت تستهول ما استهولته انا نفسي، وطمأنته الى ان ما دفعته ليس بشيء يذكر. فلم يصدق وبدا غاضبا… بل وقبل شكري أنا على هديته الكبرى التي خصني بها، بان جعلني على لائحة استقبال وتكريم شخصية عالمية، لبنانية الأصل، مثل البروفسور بيتر مدور وزوجته اللذين ظلاّ لسنوات عديدة يرسلان اليّ أطيب التحيات وأحب الذكريات عن ذاك اللقاء الجميل… في وادي زحلة. 

***

  (*) زحلة آب 1961

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *