ملاك فاقد الجناحين هائم في متاهة المدى

Views: 412

جوزيف القصيفي

 (نقيب محرري الصحافة اللبنانية)

انتعل موته وسار حثيثا إلى قبر احتفره في خرائب المدينة المتهالكة، وهناك خلع جثته وتمدد.

آفاق مذعورا. ثمة ما عكر عليه سكون رقاده. ها هي الجثة تتنفس. بل ترسل فحيحا آتيا من مسام الزمن، وكأنها أفعى تسعى لانتقام مؤجل. 

أراد أن يثب من قبره، وأن يعلق موته على مشجب الانتظار، وأن يفتش عن حياة يستقدمها لتؤنس وحدته.

من يعيره ثانية تراكم ما تبقى له من دقائق قبل أن يعود إلى المستقر الذي اختاره من دون أن يدفعه أحد إليه.

بدا كائنا معلقا على حبال الوهم، ممسكا بعصا بهلوان، يصوغ بها توازنا امتنع عليه في حياته، محاذرا العثار، مستعجل الخطى، هائم في متاهة المدى، ينسل من ذاته ذاتا اخرى في حراك شرنقي. 

اكتسى وجهه ظلمة الحفرة، ومضى إلى عناق العدم بشفتين منهكتين، وارتعشت أنامله التي تلونت باوراق الخريف وهي تخط سمفونية الرحيل، ومن عينيه التائهتين شقت دمعة بلهاء طريقها إلى مواطئ الانكسار. كم كان ذليلا، وهو يفتش عن نصفه الثاني الذي سقط؛ من دون دوي، على قارعة الرصيف.

من التقط هذا النصف، وما حاجته اليه، وقد تمكن منه العفن. خدر الحواس تملكه، وكدبيب النمل سلك طريقه بطيئا إلى وجهه، لكن بوتيرة ممنهجة. 

كئيب هو كغيمة داكنة، لا يتكلف الابتسام، لأنه لا يقتني قناعا، ولا يعرف أن يلبس جلدا آخر.

تعشق ” فانتازيا” الحزن، وطرب لمقام النحيب، وهديل الفجاءة التي تدركه في مواقيت لا قرار له في اقبالها.، كائن هيولي أو سديمي، غير محدد بمفردات، بعدما نثرت ابجدية عمره الطاعن في دوامة الوجود الملتبس كنانتها، وانسان ليس بانسان، شيطان لا يشبه الشياطين، ملاك فاقد الجناحين، يسير على قدمين حافيتين إلا من  سير لا يتوقف. وأن توقف، ليعود القهقرى. مستقدم مستأخر في آن. بلاعب قدره، مصارعا اللحظة المدبرة. 

وكالباحث عن حياة أخرى من بين ركام العدم، يئد ماضيه، محاولا القبض على مستقبل يعدو، يجيد الإفلات من قبضة الرغبة. فيما الرغبة تكمن عند مفترق اللذة الممنوعة. 

دائم الهذيان، مرذولا،في عين نفسه،

وتراءت له خيالات من زمن الصمت، وازدحمت ذاكرته بصور من ماض زئبقي انسل من بين اصابعه، ولم يجرؤ على لملمة حطامه، وكأن شيئا منه سكن هذا الماضي وتوارى معه، ولا يريد أن يستعيده، مستكينا إلى حاضره اليائس.

لم يستجر برحمة الله، ولم يلذ بمكر شيطان، لم يتعر، لم يخلع عليه ثوبا.

باكيا ضاحكا، بشيرا ناعيا، صادحا ناعبا، بشوشا عابسا، اجتمعت في شخصه كل التناقضات. يدور حول ذاته وكأنه محور الكون، يراقص خياله، ويخاصر الظلال، ويمضي بعيدا في معاقرة الأطلال، ويصوغ منها ذكرى يغرق في رمالها عندما تهب عواصف الحنين.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *