أدب جبران بين طريق الثورة وطريق البناء

Views: 1754

د.عمر الطبّاع

      ولد جبران خليل جبران في السادس من كانون الأول سنة ۱۸۸٣ في بشري من أعمال لبنان الشمالي، في بيت يخيم عليه الفقر والعوز، ويستبد به الخصام بين أب ظالم يدمن السكر، وأم تسعى جاهدة لإعالة أولادها الأربعة: بطرس وجبران وماريانا وسلطانه. وقد كان لهذا الواقع الأليم أثره المباشر في إنطواء الفتى على نفسه، وفي صرفه الى أحضان طبيعة ساحرة تمدّه بصورة مختلفة الألوان والأشكال ويجد فيها غذاء لروحه وإحساسه واخيلته. 

     ويوم استبد الضيق باللبنانيين، وضاقت الأحوال بالأسرة، حملت الأم أولادها وهاجرت إلى الولايات المتحدة واستقرت بهم في مدينة بوسطن، حيت التحق جبران باحدى مدارسها وكان له من العمر اثنتا عشرة سنة. بقي الفتى مدة ثلاث سنوات كان خلالها موضع اعجاب اساتذته لما لمسوه فيه من موهبة فنيّة مبكرة لا سيما في فن الرسم. وفي سنة ۱٨٩٨ عاد الى لبنان ودرس العربية في مدرسة الحكمة. وقد تسنى له اثناء الإقامة في وطنه أن يقف على مفاسد الظلم والطبقية من خلال محنة عاطفية زرعت في قلبه نقمة على الاقطاعيتين الدينية والسياسية.

 

زاد من الجمال

      عاد الى بوسطن حاملاً في نفسه زاداً من جمال لبنان، وتعاسة ساكنيه الذين عصفت بهم الاقطاعية بمختلف وجوهها، واستبدت بهم التقاليد على تعدد اسمائها. وفي بوسطن راح يتعاطى التجارة، فتحسنت حال الاسرة قليلاً، ولكن سرعان ما تلقف الموت اخته سلطانة سنة ۱٩۰٢، فكانت التجربة قاسية الى حد أن جبران “كفر” حين وصله نعي أخته: ” لقد مات ربي عندما أمات سلطانه، فكيف احيا بعد اليوم يا رب”. وأبى له القدر الا الاستزادة من الفواجع اذ تلقف أخاه بطرس سنة ۱٩۰۳، وسارت الأم على خطاه بعد ثلاثة اشهر، فاكتملت بذلك فصول الفاجعة. واية فاجعة: او لها فقر وعوز وضيق، وآخرها موت غاشم يزرع في قلب جبران الألم الذي ما وراءه ألم، ووحدة ما وراءها وحدة. ولكن بورك الألم الذي امدّ أدب جبران بمادة حية، ومسح انتاجه الشعري والفني والفلسفي بمسحة الخلود.

 

     تابع جبران بعد هذه التجربة القاسية نشاطه الأدبي والفني، وراح ينشر مقالاته الاجتماعية في جريدة ” المهاجر” ويغذّي صداقاته الفنية مع الكثيرين، ومنهم ماري هاسكل التي تعرف إليها أثناء عرض لوحاته الفنية سنة ۱٩۰٤. وفي عام ۱٩۰۸ سافر الى باريس حيث التحق بمعهد فني، ويسّر له هناك الاتصال بأبرز الفنانين وفي طليعتهم النحات رودان. وفي باريس طالع وليم بلايك الشاعر والمصوِّر، وفيها عرضت لوحاته الفنية الى جانب كبار الفنانين. وكانت ” موكب الاجيال”، احدى هذه اللوحات، موضع اعجاب مشاهير الفن. عاد سنة ۱٩۱۲ نهائياً الى اميركا، واستقر في نيويورك حيث انصرف الى التأليف والنشر والرسم، وانتخب عميداً للرابطة القلمية التي ضمت ميخائيل نعيمه ونسيب عريضة ورشيد ايوب وايليا أبو ماضي وعبد المسيح حداد وغيرهم، من ادباء المهجر. وكانت وفاة جبران عام ۱٩٣۱، ونقل جثمانه الى لبنان حيث دفن في مار سركيس في بشري. 

 

آثاره 

لجبران آثار أدبية وفلسفية وفنية غزيرة، جعلت منه بحق محور الحركة الادبية والفنية في عصر النهضة. من اشهر مؤلفاته: 

  • الموسيقى: كتيّب أصدره سنة ۱٩۰٥، يبحث في ازدهار الموسيقى وتأثيرها بأسلوب شعري عذب. 
  • عرائس المروج: أصدره سنة ۱٩۰٦ وفيه ثلاث أقاصيص: ” رماد الاجيال” و ” يوحنا المجنون”، و” مرتا البانية” تعرض فيها لقضايا الزواج الفاسد كما في مرتا البانية، وشنّ في البعض الآخر كما في يوحنا المجنون ثورة عارمة على اقطاعية رجال الدين، وتتجلى كما في رماد الاجيال نظرية التقمص إذ يعرض بقالب أُسطوري قصة عاشقين عاشا قبل الميلاد، وبعثا في بعلبك سنة ۱٨٩۰م كي لا يحرما ملذات الحب. 
  • الارواح المتمردة: ظهر سنة ۱٩۰۸، ويتضمن اربع أقاصيص يتنكر في بعضها كما في ” وردة الهاني” لكل زواج على سنّة الناس، ويندّد في البعض الآخر كما في ” خليل الكافر” بالاقطاعية الدينية والسياسية التي تبتز اموال الشعب وتستنزف دماءَه. اما       ” صراخ القبور” فسلسلة من ثورات اهدافها اعتاق الفكر والقلب وتحرير العواطف والنفوس من عبودية القانون الجائر والعادات البالية. 
  • الأجنحة المتكسرة (۱٩۱۲): وهي قصة حب جبران لسلمى كرامة. عالج فيها قضية المرأة وحقها في الحياة والحب والسعادة، وتجلت فيها ثورته على التقاليد المتحكمة بقضية الزواج، ونقمته على التنفُّذ الديني حتى في قضايا الحب. 
  • دمعة وابتسامة (۱٩۱٤): مجموعة مقالات وصور شعرية نشرت قبل صدورها في جريدة ” المهاجر”.
  • المجنون (۱٩۱۸): اول كتبه بالانكليزية، وفيه تمجيد للقوة واحتقار للضعف، يتخذ المثل والرمز وسيلة للارشاد.
  • المواكب (۱٩۱٩): قصيدة فلسفية ساقها على شكل حوار يجري بين شخصين، الاول يتبرم بحياة البشر، وما يلقاه فيهم من جهل وعبودية وتعاسة، على طريقة نيتشه والثاني يمجد حياة الفطرة على طريقة روسو.
  • العواصف: هو آخر ما كتبه جبران باللغة العربية. يشتمل على مقالات وأقاصيص هدفها كما في ” العاصفة” الثورة على المدنية المعاصرة والاكتشافات العلمية والعودة بالانسان الى حياة بدائية طبيعية حيث لا يخضع إلا لقانون واحد هو قانون الطبيعة. او الثورة على العبودة المتلبسة بألف اسم وجلباب كما في ” الاضراس المسوّسة”. او التصدّي لرجال الدين كما في ” الشيطان” و” ما وراء الرداء”. او الحض على التحرر من التقاليد العمياء على اختلاف مظاهرها ومعانيها كما في ” حفار القبور” . 

        جميع هذه المعاني يعرضها جبران بقالب قصصي أخضع فيه العمل الفني لغايات اصلاحية، وضحى بقيم الأسلوب القصصي في سبيل الثورة الاجتماعية.

  • السابق (۱٩٢۰): وضع بالانكليزية، واتخذه جبران واسطة لبثّ افكاره الاجتماعية عن طريق الامثال.
  • النبي (۱٩۲٣): هو ابرز كتبه اطلاقاً، ويتناول فيه علاقة الانسان بالانسان، ويذكِّر فيه – على حد قول احد المشاهير- ” اميركا المادية، بالتوراة ومزامير داود وتعاليم المسيح”. ولنا عودة اليه في غير مكان من هذا المقال.
  • رمل وزبد (۱٩٢٦): ويظهر فيه تأثر جبران بالتناسخ إذ ” يتصور الانسان عابر طريق في هذه الحياة، يتمشى على شواطئها فيمحو المَدّ آثار قدميه وتذهب الريح بالزبد، الا أن البحر والشاطئ يظلان الى الأبد، وعناصر الطبيعة تتحول على غير انقطاع: الضباب يصير دودة، والدودة عصفوراً، والعصفور رجلاً، والرجل ضباباً من جديد.”.
  • يسوع بن الانسان: صورة شعرية لحياة السيد المسيح، ويتعاون على رسمها سبعة وسبعون رجلاً وامرأة من معاصري يسوع، وذلك على طريقتهم الخاصة، ويختتم الحديث بعد تسعة عشر قرناً رجل من لبنان.
  • آلهة الارض: يتضمن آراء جبران في الحياة والانسان، ويصور فيه قلق هذا الأخير في سعيه الى مجاراة الآلهة.
  • التائه: تركه جبران مخطوطاً وطبع بعد موته.
  • حديقة النبي، وموت النبي: حلقتان متممتان لكتاب النبي. كان جبران قد قرّر معالجة علاقة الانسان بالطبيعة في الاول – وقد وضع تصميماً له – وعلاقته بالله في الثاني، ولكن الموت عاجله قبل اتمام عمله، فبقي موت النبي مجرد فكرة، بينما أتمت بربارة يونغ حديقة النبي واصدرته سنة ۱٩۳۳. 

المصلح الاجتماعي

    “هذا بعض ما يقوله الناس عنّي وهم مصيبون، فأنا متطرف حتى الجنون، ” أميل الى الهدم ميلي الى البناء، وفي قلبي كره لما يقدّمه الناس وحب لما يأبونه؛ ولو كان بامكاني استئصال عادات البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت دقيقة”. 

هكذا لخص جبران مذهبه في الوجود: فهو رجل ثائر متطرف في ثورته، يستمد من قلبه شعلة التحرر والانطلاق، ومن روحه ماهية الوجود الحق، مستنيراً بنور عبقرية فذة هي من عطاء الحياة الخالدة، لينطلق بهذا الزاد كالعاصفة، يود استئصال التقاليد العمياء، وانتزاع العقائد البالية من قلوب مواطنيه، واقتلاع الشرائع الفاسدة، التي سنّها المشترع تحت تأثير الأهواء، لا بوحي العدالة.

    ولعلّ جبران أدرك أن السلبية وحدها لا تكفي لتحقيق مثل هذا العمل، فأضاف قائلاً : “أميل الى الهدم ميلي الى البناء”. فالإيجابية لا بدّ منها في كل عمل يتوخاه الانسان، فرداً عادياً كان او مصلحاً او فيلسوفاً. فالعمل المثمر اذاً، لا يتم إلا بمرحلتين متعاقبتين: مرحلة الهدم، وتقوم على ازالة الفاسد واستئصال البالي، ليصار فيما بعد الى إقامة الجديد النافع على أنقاض القديم الفاسد، بما يتناسب وروح العصر، وموجبات المدنية ومستلزمات الحياة.  

 

فترة التأمل

“ان جبران ثورة، والثورة ليست بنت ساعتها، بل هي مجموع عوامل متعددة، خزنتها الايام في صدر الحياة، حتى اذا ما جاش جأشها، ضاق بها ذلك الصدر، فتفجرت قذائف وعواصف”

” انا متطرف، لأن من يعتدل باظهار الحق يبين نصف الحق، ويبقى نصفه الآخر محجوباً وراء خوفه من ظنون الناس وتقولاتهم”(.

    ولدت ثورة جبران، بولادة عصر الانبعاث واليقظة؛ انبعاث بعد رقاد طويل ويقظة بعد نوم عميق. عصر متوثب يودّ الانطلاق مع تيار الحياة الجديدة، وشرق لا يزال يعيش في مسارح الماضي الغابر، وأهله ” يكرهون المبادئ والتعاليم الإيجابية المجرّدة، التي تلسعهم وتنبههم من رقادهم العميق المغمور بالاحلام الهادئة”؛ وشباب الغد يتناقلون ما قاله الأخفش نقلاً عن سيبويه، وسيبويه عن سائق الأظعان”، رجال القضاء  يتلاعبون ” بالقضايا الشرعية مثلما تلعب القطة بصيدتها”

 

     دخل جبران منازل الناس فرأى ” الأطفال يرضعون العبودية مع اللبن، والصبيان يتلقنون الخضوع مع حروف الهجاء، والصبايا يرتدينَ الملابس مبطنة بالانقياد والخنوع، والنساء يهجعن على أسرة الطاعة والامتثال”. دخل القصور والمعابد والهياكل والمحاكم فوجد ” العامل عبداً للتاجر، والتاجر عبداً للجندي، والجندي عبداً للحاكم، والحاكم عبداً للملك، والملك عبداً للكاهن، والكاهن عبداً للصنم، والصنم تراب جبلته الشياطين”.

ولعل أغرب ما وجده من أشكال العبودية تلك المسماة ” بالعمياء التي ألبست الأبناءَ والأحفاد تقاليد الجدود، فجعلت منهم أجساداً جديدة لأرواح عتيقة؛ والخرساء”، القائمة على جعل المرأة من الرجل بمنزلة النعل من القدم؛ و” الصمّاء”، التي تفرض على الافراد التلوّن بألون مجتمعهم…” الى ما هنالك من عبوديات تعددت اسماؤها، واتحدت غاياتها.اما ابناء الحرية فقد ” مات واحد منهم مصلوباً، وواحد مات مجنوناً، وواحد لم يولد بعد”. 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *