الدولة القُطريّة كأساس للدولة الفدراليّة العربيّة

Views: 76

د. عبد العزيز محمّد الدخيل

قد يستغرب البعض الحديث عن الوحدة العربيّة أو الفدراليّة العربيّة، في وقتٍ تتقطَّع فيه أشلاء الدول القطريّة العربيّة: العراق، وليبيا، واليمن، وسوريا، والسودان. ولهذا التعجُّب ما يُبرِّره من ضمن منظور اللّحظة وانسداد الأُفق؛ فالكلّ مُنشغل في قضايا الصراع اليوميّ والمستقبل خارج الرادار الفكريّ واهتمام الجماهير والنّخب والسياسة؛ الكلّ يركض وينادي: “يا ربّ نفسي”.

إنّها حالة من ضياع الرؤية الاستراتيجيّة للعربي طويلة الأمد. عاصفة من الرمال الصحروايّة لفَّت بلداننا وشعوبنا وبقيت فوق الرؤوس وغطَّت الأبصار والأفكار والقلوب عن محاولة استكشاف المُستقبل البعيد، وإعادة التفكير في ما يجمع قوى الشراكة في أمور جوهريّة ذاتيّة عدّة كاللّغة والجغرافيا والدّين والتاريخ. نسينا حتّى قواعد الجمع في عِلم الرياضيّات، وأنّ جمْع الأرقام الفرديّة الموجِبة أكبر من كلّ فرد في المُعادَلة. وفي عالَم اليوم،عالَم القوّة، فإنّ للعدد الأكبر مَكانته ودَوره إذا أُحسِن استغلاله والإفادة منه.

بين التنوير والظلاميّة

في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت أنوار النهضة العربيّة تطلّ بعد ليلٍ طويل من الظلام، حمل أفكارها وقيَمها مفكّرون أمثال رفاعة الطهطاوي، محمّد عبده، شبلي شميّل، سلامه موسى، طه حسين، علي عبد الرزّاق، عبد الرّحمن الكواكبي، فرح أنطون…إلخ. كانت الأنوار العربيّة تستمدّ أشعّتها من فكرٍ عربي مُستنير، أشعله قديماً فلاسفة ومفكّرون عرب كابن خلدون وابن رشد والكندي وابن سينا وابن حيّان وغيرهم. (Klonopin)

أمّا الجزء الآخر والأكبر من إشعاعات الفكر العربي المُستنير في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقد جاءت امتداداً لوهج التنوير الغربي الأوروبي في القرن التاسع عشر، الذي بنى قواه الفكريّة والعِلميّة والسياسيّة والاقتصاديّة من خلال ذلك المخاض العظيم في غرب أوروبا، الذي حوَّلها من عصور الظلام في القرون الوسطى إلى عصر الأنوار في القرن التاسع عشر.

الحضارة الغربيّة ذاتها شربت عروقها من ماء الحضارات القديمة التي سادت ثمّ بادت، ومنها الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وحضارة ما بين النهرَين، والحضارة الصينيّة والفرعونيّة والفينيقيّة وغيرها. إنّها حضارة جمعت عصارة القيَم الحضاريّة الإنسانيّة، وصَقلَتْها وأَخرجتها للعالَم؛ فهي في الأصل حضارة يجد الإنسان أينما كان عرقاً يربطه بها ولو من بعيد. لكنْ، ما يأسف المرء له هو أنّ الحضارة الأوروبيّة حُمِلت إلى العالَم الآخر على أسنّة الرماح، وفي إطار الاستعمار والاستغلال والاستعباد. نعم، حملت قيَماً تتعارض بشكلٍ فاضح مع قيَم العدالة وحقوق الإنسان التي قامت عليها فلسفة الحضارة الغربيّة، فكانت أشبه بدستورٍ وطني أوروبي، ولم تكن دستوراً إنسانيّاً عالَميّاً. والأمل أن تكون “العالَميّة الحقيقيّة” هي المرحلة التالية للحضارة الإنسانيّة الغربيّة الرّاهنة.

أعود إلى واقعنا العربي لأقول إنّه عندما بدأ الاستعمار الإنكليزي والفرنسي والإيطالي ينجلي في الخمسينيّات من القرن العشرين، وبدأت القيادات المحليّة الموصى عليها من طرف المُستعمِر الراحل تتبوّأ مَراكزها، لم تتغيَّر الأحوال لتغدو أفضل ممّا كانت عليه، ذلك أنّ المُستعمِر الجديد، الوطنيّ الهويّة، سيفه أمضى، وسجنه أوسَع وأظلَم.

الإسلام السياسيّ في المرصاد

ظهرت بوادر الثورة العربيّة مصبوغة بفكر النهضويّين العرب القائم على الوحدة العربيّة، انطلاقاً من القوميّة العربيّة الجامِعة. ولَم تكُن حريّة الإنسان وحقوقه، والديموقراطيّة مطلباً جوهريّاً في الفكر النهضوي العربي، بل كانت الوحدة أو الاتّحاد هدفاً شامِلاً جامِعاً، يسود الاعتقاد أنّه بتحقيقه سيتمّ تحقيق كلّ ما يصبو إليه العربي الثائر. قامت انقلابات عسكريّة لتُسرِّع في الخطى وتُحقِّق آمال الشعوب، فكُنّا كالمُستجير من الرمضاء بالنار. توالت الهزائم العربيّة، انهارت الوحدة السوريّة المصريّة، وهُزمت الجيوش العربيّة من الدولة الصغيرة إسرائيل في العام 1967، وأقامت الأحلاف الغربيّة والشرقيّة وجهاً جديداً للاستعمار.

في هذا الفضاء الأسود، والروح العربيّة المكسورة والمُهانَة الخائفة، أطلّ علينا الإسلام السياسي المترصِّد والطامع في الحُكم، إيماناً منه بأنّ خلاص الأمّة ليس في عروبتها، ولكنْ في إسلاميّتها. التاريخ العربي منذ الصراع بين المُهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة فَرَضَ السياسة على الدّين وأدخلها في فقهه وحديثه. أضعفت السياسة من نقاء الإسلام وقيَمه الإنسانيّة، وجعلتْه مطيَّةً لأرباب السياسة والحكّام: الدولة الأمويّة، والعباسيّة، ثمّ العثمانيّة كانت لقرونٍ طويلة شاهدة على ذلك. لكنّ الإسلام السياسي أغمض عينيْه وفِكره عن ذلك التاريخ السياسي الأسود الطويل وقفز بنا قروناً من الزمن إلى الوراء مُنادياً بالعودة إلى الأصول، وكأنّ التاريخ لا يترك آثاره وبقاياه على الإنسان وعلى الشعوب.

أقام الإخوان المُسلمون شعاراتهم، ونظَّموا صفوفهم وأحزابهم، وجمعوا إخواناً لهم في كلّ بلد عربي. قاموا بثوراتهم، وصلوا إلى السلطة في مصر، وبسرعة فقدوها، لكنّنا إلى اليوم نعيش ذلك الصراع بين الإسلام السياسي والنظام السياسي الحرّ كطريقَين لإدارة أمر البلاد والعِباد.

السياسة العربيّة ما زالت مُمسِكة بالإسلام أو مُعتقِلة له. فشلَ روّاد الفكر العربي في نسخته القديمة (ابن خلدون، والفارابي، وابن رشد، وابن سينا وغيرهم) في الجهر بالحقيقة الدينيّة المنطقيّة، وهي أنّ الدّين شيء والسياسة شيء آخر مُختلف عنه في الأهداف والقيَم والوسائل.

الدّين نظامٌ إلهيّ، علاقة بين المخلوق والخالِق فرديّة في مضمونها، روحانيّة في وسيلتها، سريّة في علاقاتها بين الله والفرد. أمّا السياسة، فهي نظامٌ بشريّ، يهدف إلى تنظيم نزعة المُلك، والسيطرة لدى القادة وضبْطها، من ضمن قيَمٍ تحدّ من شرورها، وتجعل من قوّة الجماعة وصوتها وإرادتها حدوداً وقيوداً على الحكومة والحاكِم. الدّين شيء، والسياسة شيء آخر.

أقول إنّ المفكّرين العرب الأوائل، ومنهم المتكلّمون في القرون الوسطى، ومن بعدهم المفكّرون العرب في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، الذين جاء ذكر بعضهم أعلاه، ثمّ المتأخّرين منهم في أواخر القرن العشرين، وبينهم: محمّد عابد الجابري، وجورج طرابيشي، وطيّب تيزيني، ومحمّد أركون، وعبد الإله بلقزيز وغيرهم،هؤلاء جميعاً مع اختلاف بسيط، لم يقطعوا بضرورة فصل الدّين عن السياسة في الدولة العربيّة الإسلاميّة وأهميّته. كانوا يحومون حول الحمى من دون أن يقعوا فيه. أخذوا بمَنهج التوفيق والتلفيق، وابتعدوا عن الرأي القاطع في الفصل بين الأمرَين. قد تكون الأسباب إلى ذلك كثيرة، لكنّ أحدها هو خَوف المتكلِّم، والفيلسوف، والمُفكِّر من ردّة فعلٍ جماهيريّة أو سياسيّة إزاء بُدعةٍ أصبحت جزءاً من عقيدتهم منذ سقيفة بني ساعدة في العام 11 من الهجرة المُوافق 632 م.

لم ينجح الإسلام السياسي في الخليج العربي وفي مصر وتونس والمغرب، والسودان، والأردن، والعراق، والجزائر، مع اختلاف التواريخ، في تحقيق الديموقراطيّة والحريّة والعدالة وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصاديّة، والوحدة… وهي جميعاً مَطالِب كلّ فرد عربي. ومثلما فشلت السياسة العربيّة القوميّة والثوريّة والعسكريّة من قبل، فشل الإسلام السياسي في تحقيق آمال وأهداف المُواطن العربي والدولة القطريّة والأمّة، بل إنّ الاسلام السياسي زرع في شرقنا العربي مجموعاتٍ مُتطرِّفة مثل “القاعدة” و”داعش”،عاثت في الأرض فساداً.

أوَليس في الاتّحاد قوّة؟

بعد هذه المُراجَعة السريعة لحال الدولة العربيّة، في وضعيّتها الفرديّة أو الجمعيّة ضمن الخلافة الأمويّة والعباسيّة والعثمانيّة وما بعدها من مراحل استعماريّة غربيّة، أقول إنّ الشعب العربي عاد إلى القُطريّة التي حاول القفز عليها في أوج ثورته وحماسته القوميّة، قبل أن يكتمل البناء القُطري ومعه بناء الإنسان المتحضّر المُتعلّم الحرّ.

الدولة القُطريّة، وعلى الرّغم من أنّها كانت هندسةً استعماريّة في ما يتعلّق بالحدود والفواصل، إلّا أنّها من الناحية التاريخيّة والقبليّة والتراثيّة، شكَّلت مجموعة مُندمِجة مُتجانِسة إلى حدٍّ ما، على الرّغم من بعض الاستثناءات، ولقد صُهرت بالقوّة تارة أو بالسياسة تارة أخرى لتُصبح كياناً قطريّاً واحداً.

اليوم تتعرَّض بعض هذه الكيانات القطريّة لمُحاولاتِ تفكيك وفصل بعض كياناتها الإثنيّة عن الكيان القطري، لأسبابٍ بعضها عائد إلى عوامل عرقيّة وطنيّة، فضلاً عن عوامل وضغوط خارجيّة، لكنْ يبدو أنّ اللّحمة القطريّة ستكون هي الخيار، وإن مع بعض التعديلات في الحقوق والاستقلال التراثي.

الدولة القطريّة هي الإطار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للدولة الحديثة اليوم، والذي استقرَّت عليه دول العالَم بعد انتقالها من القبليّة أو خروجها من كيان إمبراطوري أو ديني كبير، كما كانت عليه الحال مع الدولة القطريّة الأوروبيّة قبل قيامها أو العربيّة إبّان الحكم العثماني.

النزعة إلى الوحدة أو الاتّحاد بأيّ صيغة ونموذج، لا بدّ أن يسبقها بناء الدولة القطريّة على أُسسٍ سليمة أهمّها الاستقرار والحريّة والنموّ الاقتصادي والوعي الاجتماعي والسياسي الواقعي بالفوائد التي يجنيها القطر، ويجنيها الفرد اقتصاديّاً وسياسيّاً من الاتّحاد. وحتّى لو أشاحت الشعوب العربيّة عن الوحدة العربيّة اليوم، فإنّها لا بدّ أن تتّجه نحوها في يومٍ من الأيّام، لأنّ الفائدة المُضافة الصافية لكلّ دولة قطريّة بفعل الاتّحاد والتضامُن تحت أيّ عنوانٍ أو صيغة، تحمل الكثير من الإيجابيّة في معظم الأحوال.

عالَم اليوم والمستقبل كما يبدو، هو عالَم التجمّعات والتكتّلات والاتّحادات السياسيّة والاقتصاديّة؛ وفي ميدانه تتصارع القوى مُجتمعة لا فرادى. حتّى تلك الدول المسمّاة بالعظمى، تلجأ إلى التجمُّع والاتّحاد مع الغير عندما تُواجِه معضلات دوليّة.

الفدراليّة العربيّة، حيث يُبقي كلّ قطر على كَيانه السياسي والاقتصادي مُستقلّاً ضمن إطارٍ من التعاون والتنسيق وتبادُل المَنافع والدفاع المُشترَك، يبدو لي هدفاً يُمكن الدّفع في اتّجاهه، ولو بعد حين. الشرط المؤسِّس لنجاح أيّ شكلٍ من أشكال الوحدة والاتّحاد، لا بدّ أن يسبقه الوصول بالحالة القطريّة إلى مستوىً عالٍ من الاستقرار السياسي والاقتصادي القائم على اكتساب الفرد العربي في كلّ قطر، حريّته وحقوقه السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. هذا البناء للإنسان يجب أن يكون الأساس الذي يقوم عليه هيكل الدولة القطريّة، لأنّ في ذلك تكون إرادة الوحدة أو الاتّحاد إرادة حقيقيّة شعبيّة وليست إرادة فرديّة يتصدّرها زعيم.

***

(*) كاتب من السعوديّة

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *