معاني الحياة وتساؤلات حول الوجود والحدود والمصير في أدب لونا قصير

Views: 14

مصر- الناقد محمد حافظ توفيق الفقي

مشغولة هي منذ الطفولة بلغز الوجود ومعنى الحياة. تعتزل الصخب المحايث فتلتذ الوحدة وتأنس إلى همس الذات. سؤاﻻت كثيرة وصعبة تقتحم عقلها الجاد ووعيها الحاد الشقي بنظم المعنى الوجودي ومخاطبة روغان الحقيقة ودﻻل اليقين. لم تكن طفلة عادية تنفق وقتا طويلا خاليا تجدل ضفائرها أو تناغى عرائسها أو تمزق كراريسها أو تدعي النوم أو تمثل مشاهد الكسل واجترار التثاؤب اللذيذ. تبحث في دوي العزلة عن معنى غائب لكنه منسرب ومغترب طي حنايا الروح وخفايا الضمير. (fujifilm-x)

 هل ستعيد إنتاج التجربة الإبراهيمية مع القمر والنجوم والشمس؟…ﻻ… ستقرأ ثم تقرأ ثم تقرأ. القراءة حل مجيد لكن غير مريح لأنه ينتج الأسئلة ﻻ الإجابات الممكنة الشافية الوافية.

 مع الوقت ستتسع أمامها آفاق القراءة، ستقرأ الناس والوجوه، كما ستقرأ اللحظة الزمانية الحرجة التي تحتوي عمرها القصير الصغير. ستتعرف على سياقها الزماني والثقافي العام، ستهمس خطواتها المتسكعة حافية فوق رمال شاطىء بحر يحتضن مدينتها، تحت كل حبة رمل سر تاريخي مخبوء، ستعتاد الرحلة وهمس الموج كتنويعة مشروعة على عزلتها الاختيارية تجب عنها فضول الاهتمامات الصغيرة اليومية… لكن سرديات الحظ وتدابير القدر تهاتف روحها منذ البدء، توفر لها الآن مؤشرات كافية وإيحاءات ضافية أن تعرف السبيل وتلتقي البديل، مشغولة هي به منذ البداية، تحتاجه وﻻ تقف له على كنه أو هوية أو جملة مفيدة .. تراه … تدرس قسماته وتتجاوب وحركاته. خطاب أثيري خفي يبذخ المسافة الافتراضية ويتخم الجملة المنتظرة منذ البدء…. هل البحر موعدها أم موعده أم رفد روايتها الأولى يخرج منه البطل الإغريقي الأسطوري فيوجز الزمكان والتاريخ نقطة استراتيجية هائلة فوق بحر النون ويتهجى معها أبجدية عمر فائت و… حب مفقود؟ هل ستمضي معه إلى صفحة بيضاء تتطاير بأفق عدن ممكنة وفردوس متاح تحت السحاب أو الضباب، أم تدبر الأقدار الروائية مثل السلطة الزمنية مفارقتها المعهودة وضحكتها الساخرة؟… 

لذة العزلة والانفتاح

ستسائل الكاتبة سياقها الإجتماعي والثقافي العام وخلفيتها الحضارية، وتقرأ اللحظة الإنسانية وتداعياتها الموضوعية والذاتية عسى تخلص إلى تصور فنى وجمالي وأدبي يسجل استجابتها وموقفها من الوجود والحياة على فروض توافقات تصور ناضح وإنساني للحظة استثنائية تدمغ خارطتها العربية فلا تستطيع نفي سلطة الجذور، لكن ستكتشف لذة العزلة والانفتاح… تحرر التاريخ قليلا من قبضة الجغرافيا وثقل الحدود الكثيفة والجدران العالية، تعاكس نواميس الطبيعة وجوهر الذات الإنسانية على جملة أحوالها وحالاتها وتفاصيلها الجديدة القديمة المتصلة.. كروية أرضنا تجرؤ أن تبدع عمقا، ديمقراطية له صفته العالمية والإنسانية فيحرز الوعي الشقي بلحظته الإنسانية وسياقها المتعدد الممتد، فهما إنسانيا إشكاليا ينتصر للإنسان لكونه، وفقط لكونه إنسان عام لا يؤطره إطار ولا يثقله إسار.. يرتحل الشرق إلى الغرب فهل ستتهافت الفراشة صوب الضوء الباذخ السطوة والقوة والإغراء دونما أن يمسكها عن الاندغام والانهزام خلفية تاريخية وثقافية، تسكن هواجس الهوية والماهية. هل الفراشة هشة ضعيفة في لحظة ضعف إنساني وحضاري لا يسعفها. إن باشرت الحرية وتركت على سجيتها وسليقتها أو على ناصية طرق تعجم عودها وتشاغب معدنها العريق؟ 

مهما يكن من أمر، فإن الشفرة الشرقية مثلها مثل الطبيعة المركوزة طي قارة الذات الغافية تحت مقدمات اللحظة وركامها الظاهر فسوف تتقدم في اللحظة المباغتة لتنتصر لحقيقة الذات، خاصة إن وعت إن مركزية الإنسان العام متخففا من حمولاته التاريخية والجغرافية والفكرية لا تسول له شيئا ترفضه الفطرة الإنسانية ولا تتعرف عليه الشفرة الإنسانية يبدعها رب عليم قدير.. 

لحظات الفراشة الحرجة

في لحظات الفراشة الحرجة لابد ان ترفع مرآتها وتنظر خلفها لتتعرف جذرها وأصلها التاريخي والحضاري فلا تستأنف اندغامها ولا تواصل إيهامها ولا تهادن أيامها.. ستكتشف ذاتها الإنسانية أنها تعزى بالندية المحقة إلى وطن ينهض كوزموبوليتان رسالة جامعة ترسل رسالتها إلى عنوان الديمقراطية الكونية التي تنشيء إنسانا عاما يجتر سؤالات صعبة فى جدل ألف عام…

 هل فراشة التّوت تنحو مثل هكذا نحو، يبشرنا بإنسان عام يناقض حكمة روديارد كبلنغ الامبريالية: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا؟ هل لا يدري كبلنغ أن فينيقيا سادت البر والبحر يوما وكان لها الجولة والصولة تدعها تنسرب في الوعي القومي للفراشة يحجبها أو يمنعها إلا قليلا من التهافت الخاطف نحو ضوء زاعق أو براق؟ لكن، هل تثبت الرواية ذلك – ليس بنهاية التاريخ؟ ولا يستطيع السفر بموسم الهجرة إلى الشمال نفى سلطة الجذور لأن مسافات البعاد تبدع مدى ضمنيا لصيقا للذات لا يقبل مفردات الهجرة والمنفى إلا ريثما يرفعها مرآة ناقدة صاعدة أمام وعي يتولد ويتشكل ويتبلور فلا ينتهى من تفاصيل السكرة وسردية الغفوة ووهج الدهشة إلا إلى درك الحقيقة الغالبة أن المنفى جغرافيا بهيجة لاكتشاف الذات والبحث عنها وعن وثائقها وحقائقها الغافية طي ظل القرب ولا تتأكد ولا تتحدد إلا بالبعاد، وكأن البعاد ظمأ استراتيجي يسول للجذور ضرورة البحث والتنقيب والتوغل في عمق الأرض وبطن الوجود وكأننا لا نرحل من ذواتنا إلا لنعود إليها لتترسخ وتتكرس وتتمرس سلطة الجذور بما هي جدل الحد والقد، الجزر والمدّ، بما يتصل بالهوية والماهية كخطاب معرفي وإنساني موصول ومعروض للشغب والنصب والنقاش عرضا مجانيا للجميع…

التهافت نحو الضوء

وهنا العنوان بوابة النص ووشاية كثيفة ودالة على متنه الذي لم يتكشف بعد بين يدي فضول

 واستعداد القارىء. لفظة “فراشة” كما هي لفظة زومانتيكية رهيف حالمة تعج بدلالة رمزية لا تخفى، فهي أيضا تستدعى سريعا إلى الذهن الصاحي أو العقل الباطن دلالة التهافت نحو الضوء، وكأن مسارها السردي والواقعي تفاوض متمهل مع النهاية، وهي الاحتراق! هل الاحتراق كشف جيد للذات أم إدانة وإبانة عن ضعفها المرحلي وغفوتها الاستراتيجية؟ هل الفراشة من قرية التّوت تواجه الضوء الزاعق الحارق بتوجهها غربا في موسم هجرة نفسية وواقعية متصل؟ هل سترضى المواجهة عارية تماما من مواريث شرقها الذي يعاين لحظة استثنائية، فلا تتمكن أن تختار لحظة المقابلة والمصاولة من مركز قوة نفسية على الأقل؟ هل العنوان تسليم مسبق بنوع من الانهزام النفسي والحيرة الروحية تجاه ضجة الضوء ووهج الحضارة والثقافة المغايرة؟ أم هل السرد الماكر يضمر نفيا حاسما لمثل هكذا تساؤلات مشروعة؟ بمعنى اعتماد اسلوب المخالفة الساخر ضمنا، الماكر بكل حين؟ 

فراشة التّوت ذهاب الشرق إلى الغرب في لحظة ثقافية ما تعتمد أو تستجلب نظرية الأواني المستطرقة فتنصبها ضمنا وبرهافة ناعمة في المسافة الاقتراضية بين شرق وغرب لا يغطيها كبلنغ ولا ينكرها فوكوياما ولا يرتاح لها هانتغيتون… فيمضي العنوان إلى متنه مشغولا بثقل مؤداه عسى يشرح معناه.. 

فماذا يقول وماذا ستقول الروائية لونا قصير؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *