المحامي الدكتور هيام جورج ملّاط…  قامَةُ ثقافيّةٌ ذات أفياء

Views: 45

د. غالب غانم

(رئيس مجلس القضاء الاعلى سابقًا )

    في ملتقىً ينعقدُ لتكريم قامةٍ ثقافيّة ذاتِ أفياء، جَلّتْ في علم الاجتماع والتاريخ والفكر السياسي، وفي الأبحاث المسوّرةِ بالموضوعيّة والرصانة، المعزّزةِ بالوثائق واللوحات الإحصائيّة، المتّكئة على أمّهاتِ المراجع وبطونِها ومتونِها، الضّاربة في ميادينَ عصيّةِ الاقتحام… في مثلِ هذا الملتقى، هل عليّ جُناح إذا انسقتُ مع جَمَحاتِ القلم، فانعطفتُ إلى حيثُ نبراتُ الأدب وأطيابُ اللغة ودفقاتِ الوجدان… لا جُناحَ عليّ، أقول… فبعضُ ما حملَهُ إليّ المكرّم من مؤلّفاته نقلني الى زمن جدّه الكبير، شاعراً في الطّلائع، مُجلَّلاً بأمجاد الضاد، وشاهداً على مَخاضِ عصرٍ أدبيّ وَلود… ثمّ إنّه ليسَ من قدرتك ومن شِيَمِكَ، إذا تسنّى لك الاحتفاء بأيٍّ فرعٍ من فروع هذه الأيكة، وهذه الأجمة، أن تغضّ الطرف عن الجذور، وعن الآساد، مهما بلغ شأوُ الأبناء والأحفاد.

    هذا، وصدرُ الحركة الثقافية في انطلياس، ومِنبرها، يتّسعان لما لا تتّسع له صدورٌ ومنابر. سنظَلُّ معها على مواعيد الرّيادة وشجاعةِ المواقف، وعلى موائدِ الفكر والعلم والأدب… وسنظلُّ ندلُّ عليها كما يدلُّ المنتظرون على القمرِ المُنير.

***

      رجوتُكَ خَلِّ الورقةَ على حالها، وعلى اختيالِها مع رفيقاتها، قال… حينَ هممتُ بطيّها في مؤلَّفٍ من ثمار قلمه، لتُذكِّرني، عند الضرورةِ، بخاطرةٍ لافتة من خواطره. كان الكتابُ من إهدائه، فلم تَعدْ له يدٌ قانونيّةٌ عليه. ولكنّه ما برحَ في دائرةِ عنايتِهِ، روحاً وجسداً… مضامينَ وأضاميم تَنشَّأَ على مغازلتها، وعلى شميمِ حبرها… أليسَ أنّه تدرّب على هذين الرِّفقِ واللَّيان في منازلِ العبقريين، وتمرّسَ بهما في صيانةِ الإرث الوطني، ودفعه الشّغف الى جمع الطريفِ والنّادر من كلّ منشورٍ ومخطوطٍ ومغمور، وإلى التفرّد في اقتناء مجموعاتٍ من إصدارات آبائنا الأوّلين، صحفاً ومجلّات، فباتَ بعضُ منزله جَناحاً من “دار كُتب”، وبات، هو، إلى تشعّب مواقِعِهِ ومواهبه، ورّاقاً عصريّاً؟ لم تعُدْ له على الكتاب يدٌ قانونيّة، ولكنّ يدَهُ الحضاريّة ظلّت تتفقّدُهُ وتكلؤُهُ… المتحدّرُ من أروماتٍ بَنَت أمجادها بالكلمة: أنهارَ شعر، روافدَ علم، مغاني بلاغة، فرائدَ عدالة، وأيديَ مبدعةً في غيرِ فنِّ ومطلب، من حقّهِ أن يقدّم أماثيل في حصانةِ الأوراق، وشمَمِ الأقلام.

***

    سمّيتها أماثيلَ وما هي بالأماثيل. إنّها سجايا تُلازم العلماء وتنشرُ ظلالها وأنسامَها ورذاذها بلا ابتهارٍ ولا خيلاء. سليلُ الدّوحةِ المُعرّقة، وأحدُ المؤتَمنين على قطوفها وكنوزها وما سطّرتْه في حبّ الوطن والاستبسال في سبيل عزّته… كان يكفيه التلفّتُ الى قامةِ جدّيَةِ الشّبلين، وقُلِ الأسدين… بل إلى اجدادهِ من الصّوبين، وإلى مآتي والده والعَمَّين، وإلى سائر الفروع والأغصان، بل إلى إضمامةِ الكتب التي حملتْ توقيعه، في غيرِ لسان… كان يكفيه ذلك حتى يتيهَ دَلّاً على الصّحب لو شاء. ولكنّي أشهدُ أنّني قلَّ ما طالعني امرؤٌ، بل قلَّ ما طالعني لبنانيٌّ، على غِرارِهِ، اختزنَ كلّ هذه العلوم وأقرّ بأنّ نهاية علمِهِ هي بدايةُ جهلِهِ، وتنشَّقَ الترفّعَ في المهد وظلَّ يتوجّه الى النّاس بكلّ هذا التواضع، وتربّى في حمى الأدواح وغلّب على طبائعه انحناءةَ البنفسج.

***

    كان الروّادُ اللبنانيون، في الأدب والشعر وسائر مضاربِ الجمال، يهلّونَ قصيدتهم وصنيعتهم النثريّةَ هلّاً ويصدّرونها رُغفاناً تُثير الشهيّةَ في ولائم النّهضةِ العربيّة. وحينَ وقعوا في هوى لبنان، لم يكتفوا بالترويج لمحاسنَ سكبتْها اليدُ الربّانية عليه، بل ألقَوا على اللغة أوشحةً ومناديلَ من نسجِ مغازلهم وأناملهم، فتنافستِ الطبيعةُ واللغةُ في اجتذابِ عشّاقِ هذه الأرض. كان جدُّك شبلي واحداً من هؤلاء. عبّرَ في بعض أبياته عن هدايا الحسنِ تلك، وعن هدايا الحريّة والترقّي، يرسلها وطنه إلى “الملأ الشقيق” سبّاقاً كما هم فرسانُهُ وأفراسُهُ… كما هو تاريخهُ وقدرُهُ… كما هي عقولُ بنيه وريشاتُهم… قال:

    يُلقّنُنا هوى لبنانَ آياً                طبعناها على القلبِ الخَفوقِ

    ترعرعنا على عهدٍ وثيقٍ            وقد شِبنا على العهدِ الوثيقِ

    مَرَحنا في فضاءٍ مستقلٍّ            غداة الجارُ يرسفُ في مضيقِ

   نهضنا نهضةَ للعلمِ غُرّاً             حملناها الى الملأ الشقيقِ

   وجُلنا في ميادينِ الترقّي            على فَرَسٍ بفارسِهِ سَبوقِ

   بثثنا النّورَ في أدبٍ وفنٍّ            على شِقّينِ من قلمٍ صدوقِ.

***

     لم أكنْ لأحشدَ هذه الأبيات إلّا لأُثبتَ أنّ هوى لبنان تناهى اليك كابراً عن كابر، وطفرَ في سهولِ أوراقكِ كما يطفُرُ مرجٌ من مرج… كما يتجدّدُ موسمٌ من موسم… وجيلٌ من جيل.

    في مقدّمة كتابك الموسوم “لبنان-نشأةُ الحريّة والديمقراطيّة في الشرقِ الأدنى”، صدى رنانٌ لأبيات جدّك الكبير هاتيك. فها إنّي إخالُكَ تنثرُ، ببصيرةِ المؤرّخ وعالم الاجتماع ، ما صاغه السّلفُ شعراً، فتقول:

   “قد يظهر تاريخ لبنان محدود الشأن قياساً الى أحداثٍ طبعت القرون الخمسة الاخيرة. غير أنّ تاريخ الرجال والنساء فيه، على امتداد تلك القرون الخمسة، يشهد على مواقف واكتسابات سياسية وتربوية وثقافية واجتماعية واقتصادية فريدة، تتيح بتكدّسها وتآلفها فترتئذٍ، أن يخرج المفكّر السياسي والباحث والمحلّل اليوم، باستخلاص صورة واقعيّة لمجتمعٍ متعدّد الطوائف تطوّر في الجبل اللبناني وشعّ أثره في المدى المجاور، فضيلتُهُ الأولى تجنُّب الإمّحاق، والشهادة على بزوغ فجر الحريّة والديمقراطية في الشرق الأدنى.”

  وتروح تبسُطُ ما أَجْملتَهُ في المقدّمة، مدفوعاً بهمَّ يتصدّر سائر الهموم، هو: نزعُ أَغلفةِ الأحداث الطافية، وصغائرِ السياسة، وعتوِّ الغزوات، والشِّقاقِ العارض، والشهواتِ الإقطاعية والفرديّة عن تاريخ لبنان، لتستبينَ الأسبابُ الأصليّة التي جعلته ينمو وينهضُ ويتخطّر في هذا المشرق تخطُّرَ مَنْ توثّقت خطواتهم، ويرشُّ في ترابه قمحاً جديداً وفكراً خضيباً… وفي رأس هذه الأسباب الحريّة التي تلقَّنَ دروسها من بحر الانسياح والنظرِ إلى الأبعد، ومن جبل المهابة والنظرِ الى الأعلى، الذي قال عنه الجغرافي Etienne de Vaumas:

    Aucun autre relief ne peut lui être comparé. Il est vraiment le Mont Blanc du Proche Orient (من الكتاب ذاته ص 61). (yourolddog.com)

  وعندما تمكّنتِ الحريّة من ابتناء دارتها في لبنان، بل في أفئدةِ أبنائه، خصّتِ الديمقراطية بإحدى الأرائك، وحفظتْ أريكة أخرى للملكيّة الفردية التي لا يزال دستورنا يحيطها بهالةٍ من التقديس، والتي أتاحت للفلّاح اللبناني الذي “يمشي مع الحظّ الى لُقمةٍ/جائعةٍ من لحمهِ تأكُلُ”، كما جاء في قصيدة للوالد عبدالله غانم… أتاحت له أن يفخر بأنّه لا يأكل إلّا من مخابز الكرامة، ولا يتنشّق إلّا النّسماتِ الطّلقةَ الطوافةَ بين الأريافِ والضّفاف، وبين الشواهِقِ والمنبسطات. والحريّةُ ذاتُها، كما يُستقرأ من الكتاب، جعلت أرضنا ملجأ، وملتقىً ومشتكىً، وجامعةً، ومصرفاً، وصحيفةً، ومطبعةً، ومُتنفّساً لنصفنا الآخر… لأميرات الجمال وأميراتِ السّلام، وأرضاً خصيبة لبَدَوات استقلال القضاء… وجعلتْها كذلك تُطلق أوّلَ ثورةٍ طالبيّة في العالم العربي انطلقت من الكليّة السورية في بيروت عام 1882 (اي الجامعة الأمريكية منذ 1920) حين ألقى أحد أساتذتها، القسيس أدوين لويس، محاضرة سلّط فيها الضوء على علماءَ جعلوا التاريخ ينعطف ويفكّك سلاسل الفكر، ومنهم داروين الذي امتدح المحاضرُ منهجيّته في التحليل… فقامت القيامات بوجهه، وتفتّحت آذان الطلّاب على حريّة الرأي والمعتقد، فناصره الكثيرون منهم، وقاطعوا الدروس وتنحّى بعضُ معارضيه من الاداريين والاساتذة. ثورةٌ من ثورات القرن التاسعَ عشر… طلّابٌ في بيروت… وفلّاحون في كسروان… وأفواجٌ من الأحرار تتلوَ أفواجاً، تُصغي لنداء البحر وأبعادِهِ، ونداء الجبل وأعاليه… ومن تلاقُح الأعلى والأبعد وُلدَ العمق التاريخي –الذي تشير اليه- للشخصيّة اللبنانية… لا بل وُلدَ فتى الحريّة والديمقراطيّة لبنان… الذاهبُ الى الجلجلةِ كفّارةً عن سياساتِهِ المترنّحة، لا بل عن تعاسَةِ شعبِهِ وَيئَاسَةِ شبابه.

***

    وما لم تَصُغهُ بيدك عن لبنان، رحتَ تتقصّاه في محفوظات الأكاديميّة الفرنسيّة، فرصدتَ في كتابك الذي نال جائزة هذه الأكاديمية عام 2002، L’Académie Francaise et le Libanنصوصاً لسبعةٍ وأربعين عضواً من أعضائها، منذ مونتسكيو في أواسط القرن الثامن عشر، حتى Hélène carrère d’Encausseفي أيّامنا… شهدت للبنان الجمال والحريّة والفكر فوق ما شهدَ بَنُوه.

   فلنتأمّل كيف نظروا إلى لبنان… لامرتين (Lamartine) “يرفعُ عينيه ليبصرَ قِمَمَ الثلج في صنّين تشقّ كبد السّماء كصفائحَ من نور. ورينان(Renan) يُشيد بصُور “مدينة أولى نافحت عن الحريّة في وجه الملكيّات المستبدّة التي هدّدت بإخماد جذوة الحياة على البحر المتوسّط”. وملكيور دي فوغيه (Melkior De Vogüé) يشهد للبنان “الأكثر تقدّماً على دروب الحريّة من أيّ بلدٍ آخر خاضع للباب العالي”. وجورج دوهاميل (Georges Duhamel) يرى فيه “وطناً صغيراً إذا قيس بعدد السكّان، ولكنّه على الصعيد الثقافي والفكري يتربّع في الصفّ الأوّل بين الأوطان الشرقيّة.” والجنرال ويغان (Wegand) يدعو اللبناني الى أن ” يحبّ أشجاره كما يحبّ إرثاً عائليّاً ثميناً”. وفرنسوا مورياك (Francois Moriac) يتبصّر “أرز لبنان مادّاً ظلاله السحرية أبعدَ بكثير من حدوده الضيّقة.”

   والفيلسوف جان غيتون Jean Guitton يقول عن وطننا أيضاً:

Y a-t-il lieu, sur la terre, me disais-je, où il y a plus de bonheur à vivre ?

   “هل ثمّةَ مكانٌ على الأرض، كنتُ أقول، يوفّر سعادة الحياة فوق ما توفّرها الأرضُ اللبنانية؟”

   ويا صاحبي!. هل ثمّةَ مكانٌ على الأرض بات، بأيادي أبنائه، يوفّر تعاسة الحياة فوق ما توفّرها أيّ بقعةٍ من بقاعِ الأرض!.

***

    وتُطلقُ الجامعة اللبنانية في باكورة منشوراتها، منذ حوالى أربعة قرون، كتابك السبّاق المعنون “مياه لبنان-نفطُ لبنان” حيث تُلقي الضوء، لا على نِعَم المياه الجارية في أعراق أرضنا الطيّبة وحسب، بل على أنّ أيّ خَلَلٍ في التعامل معها يقضي على كامل البنية المائيّة. وتختُمُ كتابك الرائد حول بيئة لبنان، المنشور، باللغة الفرنسية، منذ ثلاثة قرون، بالقول إنّه حتى يحتفظ المدى الجغرافي اللبناني بسكونه وسلامته يقتضي ألّا تفتك به يد الإنسان فتكاً مُبرماً. وفي باب المحاماة والحقوق، وأنتَ من أرقى وجوههما، يُحفل باللُّقَيّات كتابُك الصادر حديثاً عن “الحقوق والمحاماة والقضاء في لبنان قبل تأسيس نقابة المحامين عام 1919”. ومن ذلك أنّ إحدى المحاكم تشكّلت على الوجه الآتي:

     الرئيس: سعادتلو نعّوم أفندي قيقانو.

     الأعضاء المنتخبون: مكرمتلو محمد أفندي بدران، ورفعتلو نخله أفندي نابلسي، والعضو الملازم عزّتلو بشاره أفندي نحّول.

    ومن ذلك أنّ أحد أسلافي في رئاسة محكمة كسروان هو “عزّتلو تامر أفندي ملّاط” الذي قال، على قبرِ المتصرّف واصا باشا:

    قالوا قضى واصا وواروهُ الثرى

                     فأجبتُهُم وأنا الخبيرُ بذاتِهِ

   رنّوا الفلوس على بلاطِ ضريحِهِ

                   وأنا الكفيلُ لكم بردّ حياتِهِ.

      وإذا كنتُ لم أصلْ بعد إلى حدود جراءته، فبإمكاني القول، على الأقلّ، لكلّ من هو في السياسة برتبةِ سعادتلو ومكرمتلو ورفعتلو وعزّتلو… ناضلنا كثيراً ومديداً حتى ينأى القضاء عن متناولِ أيديكم… والنّضالُ مستمرٌّ اليوم.

***

   أيُها السيّدات والسّادة

   ويا أصدقاء المحتَفَى به، العزيز الدكتور هيام جورج ملّاط، المستحقّ، المستحقّ…

   اعتبروا بعضَ فِلّذِ القهر التي عبَرَتْ كلامي، صرخةً، واعتراضاً، ولَومةً، ولا تأخذوها مأخذ الحقيقة المرّة.

    لأنّنا لسنا من لبنان الطينِ والماء، ولبنانَ الفناء، بل من لبنان الدوحةِ الملّاطية، ولبنان الرسالة، والرّمادِ المتحوّل جمراً، ثُمّ أَربِعَةً وأصيافاً وأناشيدَ حياة.

***

   (*) في تكريم المحامي الدكتور هيام جورج ملّاط، الحركة الثقافية- انطلياس، السبت 7/ 3/ 2020.

 

                          

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *