ترتيب أولويّات الحياة

Views: 848

أ.د. مشير باسيل عون

 يتّفق العلماء على خطر الكورونا، ولكنّهم لا يتطرّفون في أحكامهم، ولا يُنبئون بنهاية البشريّة. فالعلوم تستطيع أن تجترح أعمالًا طليعيّة في معالجة الاختلال البيولوجيّ. غير أنّ مرحلة الانتظار العلميّ وضعت الناس في مواجهة الموت المحتمل من دون الاستعداد النفسيّ الملائم. عاملان خطيران يضاعفان حدّة المخاوف الموتيّة التي تنتاب الإنسان: الإبطاء في إدراك الهيئات التحوّليّة التي يتلبّس بها فيروس الكورونا، والتريّث الضروريّ في تجهيز الدواء الشافي وتصنيعه وتسويقه. جهلُ المرض وانتفاءُ الدواء يجعلان الإنسان يتخيّل الفظائع ويستبق الإمكانات المفجعة. في أقصى هذه الإمكانات ينتصبالموتُ قضاءً مبرمًا ينتزع الناس من أوهام منعتهم.

 

يذكّرني هذا الاستباقُ بحكمة الرهبانيّات المسيحيّة القديمة التي كانت تحثّ الرهبان على التأمّل المطّرد في جمجة عظميّة تنتصب في صدر كلّ غرفة من غرف الدير. واليقين الروحيّ في الممارسة النسكيّة هذه أنّ استباق منظر الموت، وقد نزع عن وجه الإنسان جمالاته المألوفة، يهذّب الأخلاق، ويرتقي بالنفس إلى مراتب الفضيلة السامية، ويبيّن لكلّ مترهّب متنسّك جوهرَ الفنائيّة التي جُبلت عليها الكينونة البشريّة. في سياق التفكّر الفلسفيّ، يمكن استحضار الفيلسوف الألمانيّ مارتِن هايدغر (1889-1976) الذي كان يعتقد أنّ اختبار الموت الاستباقيّ هو السبيل الوحيد الذي يتيح للكائن الإنسانيّ أن يُمسك بمعنى وجوده، وبمعنى الكائنات والأشياء، وبمعنى الكينونة عينها. فالانفراديّة لا تصحّ إلّا في الموت. ما خلا هذا الاختبار الفرديّ الذاتيّ الأقصى، يمكن الإنسان أن يشارك الناس سائر اختباراته الحياتيّة. ذلك بأنّ الموت ينهي وجود الفرد، ويُبطل المشاركة، ويطوي الزمن الذاتيّ إلى غير رجعة. لذلك لا يختبر الموت حقًّا إلّا من يموت.

 

بعضٌ منّا قد يرى في الكورونا جمجة الراهب، وبعضٌ آخر استباقَ الموت الفرديّ عند هايدغر. في كلتا الحالَين، يشعر الناس اليوم بأنّهم أمام ثقب وجوديّ أسود، مظلم، كالح، خاوٍ، سحيق القاع. مَن اعتاد الهروب من الذات والانغماس في الجمهور المغفّل والضجيج الصاخب والإلهاء الاستهلاكيّ، يجد نفسه مضطرًّا إلى مواجهة نفسه أمام مرآة الانعطابيّة البيولوجيّة، والارتخائيّة المادّيّة، والعابريّة الوجوديّة، والزائليّة التاريخيّة. ذلك بأنّ الجسم الإنسانيّ شديد الانعطاب في جهازه العصبيّ ونظامه الخليويّ ومبناه الجسدانيّ-النفسانيّ، والمادّة تتراخى وتتهاوى وتتفكّك في الطبيعة وفي البيئة، والأفراد والجماعات والأمميعبورون عبورًا أليمًا في الحروب والجرائم والفظائع والانتهاكات والتصفيات، والأزمنة الكونيّة تتعاقب على إيقاع الاستضعاف الذاتيّ والترهّل الحضاريّ.

 

لا بدّ للإنسان، والحالُ هذه، من أن يغتنم هذه الفرصة التاريخيّة لكي يستجمع ذهنه، ويتبصّر في مصيره ومصير نظرائه البشر، ويسترجع المعنى الذي يُسبغه هو على حياته. لستُ من محبّي الجماجم، ولا من الناظرين إلى الموت نظرة الاضطراب المفجوع. فالموت جزءٌ من الحياة، لا يستوي واقعًا سليمًا في أفق الحياة إلّا إذا هنّأت الحياةُ عينُها الإنسانَ وأبهجته وأشهدته حكمتَها البليغة. غير أنّ للإنسان إسهامًا أساسيًّا ينبغي أن يضطلع به، ولاسيّما في زمن الشدائد. من مستلزمات هذا الإسهام أن يستصفي الإنسان الأولويّات والأساسيّات والجواهر في حياته. إذا كان الموت أعظم الأمور قسطًا وعدلًا بين الناس، فإنّ الاستعداد له يختلف باختلاف التصوّرات والاقتناعات والاختبارات.

إحساسي أنّ اختبار استباق الموت أمام هول الكورونا يساعد كلّ إنسان على تخيّر الأمر الأهمّ في حياته الشخصيّة. قد يكون الأمرُ الأهمُّ تنعّمًا بمكاشفة وجدانيّة عميقة، سحيقة التطلّب، بليغة الإفصاح. وقد يكون ابتهاجًا بإنجاز من إنجازات الماضي،أو باستشرافِ إمكانٍ من إمكانات المستقبل. وقد يكون فتحًا للذات على مستحيلات فكريّة أو معنويّة أو علائقيّة كانت تستعصي كلَّ الاستعصاء. وقد يكون إخراجًا لطاقة إيجابيّة بنّاءة غارَ مدفنُها في غياهب النفس المتألّمة. وقد يكون تأمّلًا رهيفًا في خزائن الحكَم الدهريّة التي تنطوي عليها تراثاتُ الحضارات الإنسانيّة. وقد يكون شدوًا صافيًا على مقام الانعتاق من ضرورات المألوف من الحياة الجارية. وقد يكون ثورانًا هادئًا على كلّ العبوديّات المادّيّة والاجتماعيّة والإيديولوجيّة التي تكبّل الإنسان تكبيلًا.

 

في جميع الأحوال، أعتقد أنّ جسامة المخاطر التي تحدق بنا من جرّاء الكورونا يمكنها أن تنقلب فسحةً نادرةً من الاسترجاع الذاتيّ البنّاء. فالناس، في زمن العولمة الجارفة، فقدوا القدرة على الإمساك بذواتهم الباطنة المحجوبة، واعتادوا الانجراف في سيل الأحداث الخارجيّة الخدّاعة والأخبار المسيَّرة الزائفة. فالحدث الخارجيّ لا يبني الذات، والخبر المنشور لا يصقل الكيان. وحده الاسترجاع الذاتيّ الذي تُكسبنا إيّاه الخلوة الطوعيّة يمكنه أن يمنحنا القدرة على ابتداع المعنى الإنسانيّ الأرحب الذي ينبغي لنا أن نعتصم به في مسرى الحياة. فمن يسترهب ذاته المنفردة، لا يستطيع أن يستأنس بصحبة الآخرين وبخيرات الوجود. فالناس يهربون من الذين يهربون من ذواتهم، ويبحثون عن الذين وجدوا ذواتهم وجْدًا رضيًّا. فلا بدّ إذًا من معاشرة الذات في صميم جوهرها الإنسانيّ حتّى تستقيم الصلاتُ الإنسانيّة، وتسلك الأحداثُ الحياتيّة مسلك البناء والإغناء.

(*) بكفيّا، الاثنين 23 آذار 2020

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *