“أَنْطون غَطَّاس كَرَم”… شَعْشَعانِيَّاتٌ لهُ مِنْ تَجَلِيَّاتِ الفِكرِ الإنساني في “كِتاب عَبْد الله”

Views: 1490

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

“أَنْطون غَطَّاس كَرَم”، أَحَدُ النُّخبةِ النَّادرة في رُقيِّها الثقافيِّ وعُمقِها الأكاديميِّ، التي اغتنى بها لُبنان، كَما العَالَمُ العَرَبِيُّ والثَّقافةُ الإنسانيَّةُ، في سنواتِ النِّصفِ الثَّاني مِنَ القَرْنِ العِشرين. هُوَ الباحِثُ الجامِعيُّ الأكثرَ حصافةً ودِقَّةً،يَوْمَ انشغالِهِ الدَّؤوبِ بِتَحْضير أطروحَتِهِ لِنَيْلِ شهادَةِ الدكتوراه في الآداب العربيَّة، من “جامعة السُّوربون” في السنوات الأخيرة من خمسينات القرن العشرين؛ بموضوع “الرَّمزية والأدب العربيِّ الحديث”؛ وَهُوَ الأستاذُ الجامِعِيُّ الأشد تَوَهُّجاً وبَذْخاً أكَّاديميَّاً في جامِعاتِ لُبنان ومجالِسِهِ العِلْمِيَّةِ، عَبرَ ستِّينات القرن العشرين وسَبْعيناتِه.

بَزَغَ فَجْرُ وُجودِ”أَنطون غَطَّاس كَرَم”يوم السَّبتِ الواقعِ فيه 12 نيسان سنة 1919، في بلدةِ “جِزِّين”، في لُبنان؛ وهي بلدةٌ تنهضُ عِنْدَ سفوحِ جبالِ”تُومات نِيحا”، مُحاطةً بغاباتِ صنوبرٍ وكرومِ عنبٍ وبساتين كثيرةٍ، وتَبْعُدُ زهاءَ 40 (كم) في الشَّرق مِنْ مدينة “صيدا”، عاصِمَةِ الجنوبِ اللُّبنانيِّ؛ و80 (كم) إلى الجنوبِ مِنَ العاصمَةِ اللُّبنانيَّة “بيروت”.

أنطون غطاس كرم في “السُّوربون”

 

حَازَ“أَنْطون غَطَّاس كَرَم” شهادة الإجازة “اللِّيسانس” سنة 1945، من “الجامعة الأميركيَّة في بيروت”؛كما نال شهادة “الماجستير”، من الجامعة عينها،سنة 1947. مارس التَّدريس في مدرسة “الإنترناشيونال كولدج”، في بيروت؛ وكان لهُ أن يشغلَ، منذ سنة 1952 إلى سنةِ 1959، منصبرئيس “الدَّائرة العربيَّة” فيها؛ إذْا نتقل إلى “فرنسا”، لتحصيل درجة الدكتوراه في الآداب، من “جامعة السُّوربون”؛ وحصَّل هناكَ حيثُ شهادة “دكتوراه دولة” في الآداب سنة 1959.

عُيِّن، الدكتور “أَنْطون غَطَّاس كَرَم”، عميداً لـ”كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة”، في “الجامعة اللُّبنانيَّة” من سنة 1960 إلى سنةِ 1963؛ وانتقل، إثر ذلك، بصفة “أستاذ زائر”، للتَّدريس لمدَّة سنة في “جامعة كولومبيا” في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة، من سنة 1967 الى سنة 1968؛ ليرجعَ إلى لُبنان، وإلى رحابِ “الجامعة الأميركيَّة في بيروت”، رئيساً للدَّائرةِ العربيَّةِ فيها، من سنة 1971 الى سنة 1974. ولقد انتُدِبَ، خلال سَنواتِ (1968-1973)، للتَّدريس في “كليَّةِ التَّربيَّة” في “الجامِعة اللبنانيَّة”؛ وغادرَ، مِن ثمَّ،إلى الولايات المتَّحدة الأميركيَّة، حتَّى سنة 1975، بصفة “أستاذ زائر”في “جامعة بِرْكلي”.

كانَ لي حظُّ التَّلمذةِ على الدكتور “أَنْطون غَطَّاس كَرَم”، زَمَنَتحصيلي الجامِعيِّ في “كليَّة التَّربية” في “الجامعة اللُّبنانيَّة”، إذ درستُ عليهِ مناحٍ مِنْ جمالِيَّاتِ الشِّعرِ في “العصرِ العبَّاسيِّ” وفي “الأدبَ العربيَّ المعاصِر”، خلالَ سَنَتي 1971 و1972؛ ثمَّ شَرُفتُ بقبولِهِ أنْ يَكونَ المُشْرِفَ على عملي في رسالتي عن “عُمَر الزِّعنِّي وشِعره”، لنيلِ شهادة “الكفاءةِ”؛ غير أنَّه سُرعانَ ما أضطرَّ، بناءً على ترتيباتٍ إداريَّةٍ مِن قِبَلِ “الجامعة الأميركيَّة في بيروت”، حيث تدريسُهُ الأساس، إلى تَرْكِ العملِ في “الجامعة اللُّبنانيَّة”، وتالياً التَّوقُّف عن الإشرافِ على رسالتي الجامِعِيَّة.

 

يَومَ كانَ “أَنْطون غَطَّاس كَرَم” أستاذاً متلألئ الحضورِ المُلْهِمِ والمعطاءِ لنا في “كليَّة التَربيَةِ”، نَشَرَ سِفْرَهُ الأجْمَل “كِتاب عَبْدِ الله“؛ وكانَ هذا في ربيع سنة 1969. كان ذلك الرَّبيعُ، بحدِّ ذاته، ربيعاً رائعاً لـ”أَنْطون غَطَّاس كَرَم”. كَشَفَ “كَرَم”، في ربيعِهِ هذا، أنَّ في جُبَّةِ ذلك الأكَّاديميّ المُتَعَمْلِقِ، بما اشتُهِر بهِ مِنْ رصانَةٍ عِلْميَّة ودقَّةٍ مَنْهجِيَّةٍ، إنساناً مُرْهَفاً بمشاعرِ إنسانيَّتهِ، غَنِيَّاً بِدِقَّةِ هواجِسِها؛ رائعاً بِنِعْمَةِ الغَوْصِ في جُوَّانِيَّاتِها، ثُمَّ مُدْهِشاً في رحابَةِ ما يعودُ بهِ من رحلات غَوْصِهِ هذه. لقد شمخَ “أنطون غَطَّاس كَرَم”، في ربيعِ سنة 1969، إلى ذُرى الْتقى فيها “عبدُ الله”، ومن سواه يكون “عبد الله”، بثُلَّةٍ منِ تجسُّداتِ الإنسانِ الرِّسالي الرَّسولي. إنَّها تَجَسُّداتٍ أَبْدَعَها، فِكْراً وجَمالاً، كِبارٌ مِنْ لبنان؛ فأغنوا بها دنيا العَرَب وأَمْتعوا الأدبَ العالَمي بِرَوْنَقٍ حَيٍّ مِنْ عُصارةِ تَجارُبِهِمْ، في العَيْشِ والوجودِ والتَّفاعُلِ الحضاري. وكان هذا كلُّه، قبلَ أن يُغادِرنا “أَنْطون غَطَّاس كَرَم” فجأةً، في يوم الثُّلاثاء الواقع فيه 12حزيران العام 1979،وهو في أَوْجِ عطائِهِ الفِكْريِّ وجمالِيَّاتِهِ الأدبيَّةِ والشِّعريَّةِ؛ بل وهو يتلألأ في عَلْياءِ شَعْشَعانِيَّتِهِ الأكّاديميَّة، تارِكاً كُلَّ ما في هذهِ الدُّنيا من فناءٍ، ولكن مُتَجَلْبِباً بخلودِ المُبدعين وضياءِ صنَّاع الفِكِرِ وعظمَةِ بارئي حُروفِهِ وتَمَكُّنِ صائغي كلماتِهِ.

اليَوْمَ، وبعدَ مرورِ أكثر مِن نصف قرنٍ على ما صاغهُ “أَنْطون غَطَّاس كَرَم”، في “كتاب عبدِ الله”، أجدُ أنَّ الفِكرَ والرَّأي والعُمقَ والرُّؤيةَ كما الرُّؤى، مع مكوِّناتِ جمالِ الوَضْعِ وحلاوةِ التَّعبيرِ وسُمُوِّه، ما انفكَّت جميعُها قائمةً، بل ما برحت وجوداً يَشْهَدُ لِحيويَّةِ ماهيتهِ ويُشيرُ إلى كثيرٍ مِن ناسِ اليوم في عيشِهِم لِلُبابِ كيانِهِم وسعيِهِم إلى طموحِ كَيْنونَتِهِم. “أَنْطون غَطَّاس كَرَم”، حَيُّ فاعِلٌ ومُشِعٌ مُتألِّقٌ اليومَ، بِسَرْمَدِيَّةِ رؤاهُ إلى “عبدِ اللهِ” ولِـ”عبدِ اللهِ”؛ وما “أَنْطون غَطَّاس كَرَم”، وكذلكَ كثيرٌ مِن ناسِ دُنيا اليَوْمِ، كَما ناسُ دُنيا الأَمْسِ، سِوى “عبد اللهِ”؛ ولكن بِأكْسِيةٍ متنوِّعةٍ على صفاءِ جوهرٍ إنسانيٍّ واحِدٍ؛ غاصَ “أَنْطون غَطَّاس كرم”، قبل أكثر من نصفِ قَرنٍ من الزَّمنِ، بجوهرِ وَعْيِهِ لإنسانيَّتهِ هُوَ، إلى أَعْماقِ ما في كُلِّ “عبدٍ للهِ” مِنْ أعماقٍ.

أنطون غطاس كرم، زمنَ وضعه “كتاب عبد الله”

 

الْتَقى “عبدُ الله““أَنْطون غَطَّاس كَرَم”، بـ”خالد” الذي نَسَجَهُ أمينُ الرَّيْحاني، و”المُصطفى” الذي سَبَكَهُ جُبران خَليل جُبران، و”السِّنْدِباد” الذي أَبْدَعَهُ خَليل حاوي. اجتمِعَ الأربعةُ عِنْدَ شموخِ هذه الذُّرْوَة، اثنانِ يؤذِّنانِ لِبدايةٍ لعقودِ القرنِ العشرين، واثنان يَشْهدانِ على إرهاصاتٍ لمطلعِ نِِهايته. اثنانِ تزاملا وتَصادقا وتمايزا في عقود القرن الأولى، واثنان تزاملا وتصادقا وتمايزا في تَأجُّجِ مُنْتَصَفِه؛ والأربعةُ، جميعاً، انطلقوا من لُبنان، فملأ وهجُ سناهم الكون، ثم عادوا جميعاً إليهِ بُخوراً يزيدُ ترابَهُ المعطاءُ عطراً وبهاء.  

 ولئن كانَ لهذا الحديثِ صِلةً، لا بَدَّ منها، ولا غِنى عنها، في مكانٍ وزمانٍ آخرين؛ فإنَّ ما يَجْمَعُ،ههنا، هو “كتابُ عبدِ الله”، والإنسانُ الذي جَلاهُ “أنطون غطَّاس كَرَم” عَبْرَ هذا المؤلَّف، والرِّسالة الرَّسوليَّة التي ارتضاها “كَرَم” لإنسانِهِ، مِنْ خِلال تَشَكُّلِ هذا العَمَل. فلقد مرَّ إنسانُ عبدِ اللهِ، بمحطَّاتٍ ثلاثٍ كِبارٍ فيها انبنت أُسَسَ إنسانيَّتِهِ وتجلَّت حقيقةَ فاعليَّةِ وجوده. أُسمِّي أولى المحطَّاتِ “اكتشاف الواقع”، وأدعو الثَّانية “منهجيَّة المواجهة”، وأُعَرِّف الثَّالثة بأنَّها “سِرُّ الجَوْهَر”. ويبقى أمرٌ؛ أنَّنا إذْ نقرأُ في “كتابِ عبدِ الله”، فإنَّنا نقرأُ لِمَن كانَ “مَيْسوراً لَدَيهِ أن يَسْكُبَ في كأسِ الجُمْلَةِ الواحِدَةِ سُلافَ عظيمٍ أو نَبِيٍّ، وفي اللُّمعةِ الواحِدَةِ خُلاصَةَ شَعبٍ كامِل”.(كتاب عبد الله، الطبعة الأولى، منشورات دار المكشوف، 1969، بيروت، ص. 20)

 إنَّه، وكما سمَّاه صاحبُه وَوَسَمَهُ، عبدُ الله. منذُ بَدْئِهِ، ومِثْلُهُ في هذا مِثْلُ ما يعتقدُهُ معظمُ النَّاسِ عن حقيقةِ ذواتهم، ارتبطَ باللهِ إسماً ووجوداً وفاعليَّة. وكما تكونُ الخطوةُ البِكْرُ لإنسانيَّةِ النَّاس، يبدأُ عبد الله، من اثنينِ، يشكِّلُ تلاقيهُما معاً ظُلمةً ووَحْشَةً ومَطْلَعَ عذاب: “لا بَيان” و”قبول”.  يَنْجَدِلُ الاثنانِ فيما بينهما عَبْرَ وجودِه، وِيُشَكِّلانِ حَرَكَتَهُ الأولى. يَتَجَلَّى “لا بيانُه” في أن “في الليلِ كانَ مَوْلِدُه، ومن الظُّلمةِ لونُه، فهو والليلُ توأمان”؛ وَيَسْطَعُ قُبولُهُ في أن “دَعَتْهُ أمُّه “عبدَ الله”، وكبَّلته باسمِهِ، فارتداهُ جِلدا وذاتا، وخرجَ إلى لقاءِ الحياة”. (ص. 7) فعبدُ الله يبدأُ من حقيقةٍ لَمْ يَكن له يدٌ فيها، ولم يَسْتَشْرِف قَيْدَ أُنْمُلَةٍ من أمدائِها، حقيقة فُرِضَت عليهِ فأصبَحَت سِجْنَهُ الحي الذي لا حياةَ لهُ خارجَهُ، فأضحى لا يعرف من ذاته إلاَّ التصاقاً بهذه الحقيقة المفروضة حتَّى باتَ الالتصاقُ بالمفروضِ مدارَ هُوِيَّةٍ وفِعْلَ وجود.

تلكَ ذاتُه وفرديَّتُه وأَناه، فماذا عن أولئك الذين كانَ عليهِ، وهو عبد الله الذي عَرِفْنا، أن يكون منهم ومعهم وبهم؟ ماذا عن ناسِهِ الذين عليهِ أن يعيشَ ليس وإيَّاهم وحسب، بل أن يَنْفَعِلَ بهم ويَفْعَلَ عَبْرَهُم ويَتَفاعَلَ معهُم ليكونَ ما يكونَهُ من وجودهِ الذي يَكْمُنُ فيه؟ أمَّةُ كلامٍ ولا فِعْل، وأقوامُ صَوْتٍ وَلا حَدَثْ، وجماعاتُ أحلامٍ زائفةٍ كبَّلهُم الزَّمانُ وخنقهم المكانُ فرأوا حَتميَّةَ المصيرِ في استمرارِ فاجِعَةِ السكون.

لئن بدأ عبدُ الله خَطْوَهُ في عالم من قَيْدي العتمة والقبول، فناسُه أمعنوا وجودَهم في جهل ورجعيَّة. ولعلَّه لا يَحْسُنُ وَصْفُهُم بأفضل مما رآهُم فيه ووصفهم به؛ إنَّهم أُمَّةٌ: “مزَّقتها الخيبة، فداوت خيبتها بالخطابة، وحجبت جهلها بقرع الطبول، وابتدعت من رؤى الأفيون ورنين الكلام فضاء تتحمَّل فيه عبء البقاء”.(ص. 7) وفي الحميميَّة المُرَّةِ لهذا السِّجن الثُّلاثي كانت البداية، بل المنطلق؛ “أطبقَ العالمُ على رئتيه، فالتمسَ الخلاص، فإذا هو سجينُ المكانِ، والزَّمان، والقَدَر”.(ص. 8)

 ذلك هو، أولئك ناسُه، فأين مَطارِحَهُ في الدُّنيا، وفي أيِّ مرحلةٍ من زمانيَّة هذه المطارحِ كان؟ وواقع الحال، إنَّ خبرةَ عبدِ اللهِ في أزمنةِ مطارحِ الدُّنيا كانت، خلافاً لِقيودِهِ الفتِيَّةِ، واسعة؛ لكنها، وخلافاً أيضاً لقيودِهِ تلك، كانت عجوزاً مُتهالكة. “قضى دهرَهُ شِقَّاً في خرائبِ الشَّرقِ، وشِقَّاً في أُفولِ الغربِ، يشهدُ انهيارَ الحضارة”.(ص.8) سجينٌ فتيٌّ، بين خرائب وأفول، يشهدُ لانهياراتِ تعملُقِ الوجودِ الإنساني شرقاً وغربا. ويبدو أن ما شهده عبد الله من خرابِ الخارجِ/الآخر/الغير، دفع به إلى غوص في جوَّانيَّةِ وجودِهِ الذَّاتي، فتحوَّلت جُوَّانِيَّتُهُ هذه إلى يقينٍ حقيقيٍّ واعدٍ بحياة. وإذا بعبدِ الله يَنْكَمِشُ في شَرْنَقَةِ عُزْلَةِ الذَّات يطوَّفُ حولَ كعبةِ داخِلِها؛ وَيَظَلُّ حتَّى في أعماقِ جوَّانية وجودِهِ غريبا: “فانفصلَ عن الجماهير، وأوصدَ بابَهُ، وسَجَنَ نفسَهُ في عُزْلَةٍ دائريَّة داخليَّة، يَرينُ عليها ثِقْلُ الاغتراب”. (ص.8)

غَريبٌ هو “عبد الله”، غَريبٌ حتَّى كُل ما في الغُربةِ من ثُمالَة، غَريبٌ عن مكانِهِ وزمانِهِ وناسِه، وغَريبٌ، أيضاً، حتَّى عَنْ جُوَّانِيَّتِه. لكنَّهُ، وفي كلِّ غياهبِ الغُربةِ، ومع كلِّ ما فيها من جحافلِ ثِقَلِ الوَحْدَةِ وفجاجَتِها، كان مُتَحَرِّكاً يَنْفُرُ، بوعيهِ لحركتهِ، من الجمُودِ ويرفُضُ السُّكون. فيظلُّ يدورُ حتَّى في جحيمِ عزلَتِه. وهنا مفتاحٌ لاكتشافِ الفرقِ في مسافةِ الوجودِ بين “عبد الله” وناسِه. أولئك ركنوا إلى ما أسماهُ “أحلامَ الأفيون”، يدارونَ بها سكونَ عَيْشهِم ليروهُ في أوهامِ سُكْرِهِم ونَشوَةِ خمولِهم حياة، أمَّا “عبد الله”، فكانَ لهُ في الحَرَكَةِ ما جعلَ فِعْلَ عَيْشِهِ حياةً حيَّةً رَغْمَ كُلِّ ما في انغِلاقِ دوائِرها من سُكون.

أنطون غطاس كرم، في رونق الأكاديميا وبهاء الحياة

 

حركيَّةُ “عبد الله”، هذه، كانت مَصْدَرَ دعوةِ عيشهِ في مُنعطفهِ الجديد. قُدْرَتُهُ على الحَرَكَةِ ونَبْذِ السُّكونِ، طاقاتُه المُنْفَلِتَةُ مِنْ كُلِّ ما هو مُغْلَقٌ، جعلاه أمام اثنين صارا عنده متلازمين، فشكلا رساليَّة عيشه التَّالي: فرح ممارسة الحركة، وتَسْخيرِ الحركةِ لصالحِ النَّاس. “تمتَّع بنعمةِ السَّعي الخَصْبِ إلى سعادة الإنسان”.(ص. 9 ) ينطلق “عبد الله”، إذاً، من غياهبِ جُوَّانيته بغنىً، يراهُ في الدَّعوةِ إلى مَسَرَّةِ الإنسان؛ والإنسان، في تَمَظْهُراتِهِ الفذَّة ههنا، ذاتٌ وغَيْرْ. فلم يَعُدْ “عبد الله” سجينَ عَتْمَتِهِ التي وُلِدَ فيها، ولم يَعُدْ رَهينَ ما قُيِّدَ به من سلاسلِ السِّمات. انفلتَ في شَعْشَعانِيَّةِ وجودٍ فذَّة، وكانَ أَلَقُ وجودِهِ في تَحَقُّقِ ما أسماهُ هو سعادةَ الإنسان. فإن كانت تلكَ هي الغايَّة، فَما هي الكيفيَّةُ الموصِّلَةُ، عندَ “عبد الله”، إلى الغَايَة؟

 تتجلَّى الكيفيَّةُ عَبْرَ اثنين أساسَيْنِ لنجاحِ أيِّ عَمَل: تَحْديدُ مبدأ وتعيينُ ممارسَة؛ ويأتي تكامل هذين إذ يجعل منهما “عبد الله” محوراً تنعقدُ عليه موجوديَّة الذَّات والآخر على حدٍّ سواء. يَرْسُمُ “عبد الله”، على مُسْتَوى الذَّاتِ، سُلوكاً يَنْتَظِمُ الفِكْرَ والرَّغبةَ والمُمَارسَة: “قدَّس الفِكرَ، وانتبذَ المطامِعَ الدَّاعِرَة التي دنَّستْهُ: شَهوة الكسب، وشهوة السُّلطان”.(ص. 9)  وكانت النتيجة التي يرتضيها أن يرفض التَّقليد، بل أن يراه خلافاً للحقيقة الحيَّة المتجدِّدَة في كل آن: “نَقَضَ الاتِّباعَ أيْنَما وَقَع”.(ص.10) وكان لـ”عبد الله” أن يرى، على مستوى الآخرِ، أن النَّاس، بمجموعهم، هم أهل الحريَّة ومصدرها ومعدن تشكُّلِها. فالحريَّةُ عِنْدَهُ تَنْبَثِقُ من الجَماعة، “مَجَّدَ الشُّعوبَ ربَّة الحُريَّة الكُلِيَّة السُّلطان”(ص. 10) ؛ و”أشقاه أن يرى الشعوب مغسولة الدماغ، مشلولة الإرادة، تنقاد للمشيئة المُسْتَغِلَّة”.(ص. 10)  وهكذا، كانَ لـ”عبد الله” أَنْ يُعيِّنَ،على مستوى العيشِ، ممارسةً تُخْرِجُهُ مما يراه صَنَمِيَّةَ الشَّكلِ، وتَنْفيهِ عمَّا يُعَايِنَهُ مِنْ هَذْرِ السَّعي إلى اعتقاد. “لم يَسَعْهُ إطارُ الطقوسِ، فَخَرَجَ مِنْ أُرْثذوكْسِيَّةِ العقيدة، اشتهى الإيمانَ، فنفى الجَدَل”.( ص. 10) ورأى أنَّ طريقَ تحقيقِ الحريَّةِ عَبْرَ الشُّعوبِ لا بُدَّ له مِنْ أن يَمُرَّ بمطَهَرِ الإيمانِِ الحَي كي يبقى نَقِيَّاً مُحَصَّناً؛ فـ “تَمنَّى الإيمانَ فِعلاً مُجَسَّداً يُقامُ سِياجاً لأرضِ الميعاد”.(ص. 11) ويَبْحثُ “عبد الله” عن سبيلٍ حقٍ إلى مَطْهرِ الإيمانِ هذا، فلا يراهُ إلاَّ في سَنا عِلْمانيَّةٍ مُنفتحةٍ تَزيدُ النُّورَ إشراقاً وتُغني الإشعاعَ تألُّقاً فلا تَتْرُكُ مجالَ عتمةٍ ولا تسمحُ ولو بأدنى مساحةٍ لخيانةِ الحريَّة باسم الإيمان أو لقتل الإيمان باسم الحريَّة. “قدَّسَ العِلْمانيَّة المُسْتَنيرة”. (ص. 11)

يعيشُ “عبد الله” مع العِلمانيَّةِ تَجْرُبَةً رائعة. إنَّها تجربةُ جُرأةٍ ووعيٍ وصدقٍ ومسؤوليَّة. تجربة مَنْ تَناسقَ في جوانيَّتهِ وبرَّانيَّتهِ مع مبادئهِ ووعيهِ وهواجسِ كَيانه. عِلْمانِيٌّ هُوَ “عبد الله”؛ بيد أنَّ علمانيَّتَهُ هذهِ عِلمانِيَّة الحياةِ بطَبَعِيَّتِها الحَيَّة المُتَدَفِّقَةِ تَوَهُّجاً مِعطاءً يَتَشَكَّلُ بنبضِ الوجودِ نَسَغَاً مُنَمِيّاً لكل ما هو حَريٌّ بالعيش وبنعمةِ الحياة. هوذا السِّرُّ في علمانيته؛ وهذا ما سيكونُ مصدرَ وَجَعِهِ المُرْعِبِ الرَّاجفِ حتَّى رَعْشَةِ المَوْت.

 يدخلُ “عبد الله” رحابَ العلمانيَّة، يَسْعى إلى مصبَّاتِ النُّورِ في شَلالاتِ ما تَعِدُ من عطاء. يقتربُ من بحيراتِ الإشعاع، ينهلُ وَعْدَ الأَلقِ، يَرْشُفُهُ بكفيَّنِ هما فيضُ تجربةِ وعيهِ المُرْهَف، فيُصْدَم. يُصْعَق. يكادُ يتشظَّى. فَلَئن أصَرَّ في الدِّينِ على الخروجِ من أرثذوكسيَّة العقيدةِ، حتَّى تمنَّى الإيمانَ فعلاً مُجَسَّداً يحفظُ وعدَ الحريَّة؛ فإن ما عنده من ثباتٍ على وَحْدةِ ما ارتضاهُ من منهجيَّة فكرٍ وعيش، يدفعهُ إلى النَّظرِ في ما يُعايِنَهُ ويُعانيهِ من أمورٍ لِلْعِلمانِيَّة، كي يكونَ أيضاً واضِحاً وصريحاً وجريئاً، وقبل كل شيء، منهجيَّا. فكان لا مندوحةَ عندهُ من أن يُفَرِّق بين عِلْمانِيَّةٍ حَيَّةٍ مَزْهُوَّةٍ بِأَلَقِ النَّبضِ المِعطاءِ المُتفاعِلِ، وَعِلْمانِيَّةٍ مُحَنَّطَةٍ أو مُفْتَعَلَةٍ لا قدرةَ لها على استقبالِ الحياة والرَّقصِ الجَذِلِ على إيقاعاتِ نَبْضِها الخلاَّق. رَفَضَ “عبد الله” هذهِ العِلمانيَّةَ المَوات، هذه الَّتي تنقادُ لمطامعِ الجبروتِ في أهلِها، والَّتي تتركُ العِلمَ يُفني جوهرَ ما أحدَثَهُ ووعاه، والتي تُهْلِكُ حيويَّةَ الفكرِ والوجود. “خابَ ظَنُّهُ من العلمانيَّةِ الصَّناع، (فيها) تطغى أهواءُ الجناةِ على المملكةِ الجديدة، (و) يَهدمُ العِلمُ ما بناه، (و) تَبْطُشُ الوحشُ في دُجُنَّة الغاب”.(ص. 11)

لَمْ يُطِقْ “عبد الله” هذه العِلْمَانِيَّة، لمْ يَجِدْها ضَالَّتَهُ، ثم أيقنَ أنَّها قد تَعَمْلَقَت قَيْداً آخرَ يَنْشُبُ مَخالِبَهُ في قلبِ الحُريَّة لِيَقتلِعَه. أدركَ أنَّ ما اعتقدَهُ قيامةً هو خرابٌ، فـ “وقفَ عاجِزاً، فوقَ خرائبِ القِيامَة”.(ص. 11) وكان لا مناصَ من خَلاص. ويَرى “عبد الله”، ههنا، خَلاصاً مُرْعِباً، هو رَمادُ وجودٍ ووجعُ خَيْبَةٍ. يعتقد “عبد الله” أنَّ الموتَ وحدُهُ القادرُ على إبعادهِ عن كُلِّ هذهِ الجُلْجُلَةِ المُرْعِبَة. جُلْجُلَةٌ تُفني العُمرَ ولا تُحييه. جُلْجُلَةٌ لا مَفَرَّ منها إلاَّ بهذه السَّديميَّة المَجهولةِ الكَيْفِ والأينَ والإمَ؟. فيلتمسْ “عبد الله” “الخلاصَ بالموت”.(ص. 12)

 يَلِجُ “عبد الله” خِضَمَّ الموتِ برغبةٍ شَبِقَة. يَرى في سَديميَّةِ فَنائهِ وَبُرودَةِ راحَتِهِ ما يَعْتَقِدُهُ راحةً لِذاتِه ولِكُلِّ ما يَعْتَلِجُ في فِكْرِهِ مِنْ رؤىً جَموح. يَدخُلُ “عبد الله” ما يُسَمِّيهِ “مُخْتَبَرَ المَوْت”(ص. 12)، يُمْعِنُ الدُّخولَ، لا يَهاب، لا يَرْتَجِف. فَجيعةُ ما واجَهَهُ في تجرُبَةِ عَيْشِهِ تَدْفَعُهُ، بإصرارٍ إلى أَعْمَق ما يَقْدِر عليهِ من غَوْصٍ في رِحابِ المَوْت.

يَصيرُ التَّهاوي فَيْضاً يَنْثالُ على “عبدِ الله”، يَلْتَفُّ حَولَهُ، يَصيرُ جِلبابا لِما كانَ مِنْ حَيويَّةِ وجُودِهِ المُشَعْشِع. بَيْدَ أنَّ “عبد الله” الذي ما أمتازَ إلاَّ بِحَركِيَّتِهِ في وجودِهِ، فَرَفَضَ ما عَرفه من سكونيَّةِ النَّاسِ والمَطارِحِ والزَّمانِ، وَحَطَّمَ ما وَجَدَ نَفْسَهُ فيهِِ مِنْ سُكونيَّة القَيْدِ، لم يُطِقِ هذا الإسفافَ في الارتماءِ في أحضانِ المَوْت. وهنا يَنْكَشِفُ سِرُّ الحَرَكِيَّةِ الخلاَّق في كَيانِ“عبدِ الله”، السِّرُّ المُقَدَّسُ الكامِنُ في قُدْسِ أقداسِ جُوَّانيَّتِه. الأملُ بالحُب؛ إمكانيَّةُ أن ثمَّة حبَّاً ما بَرِحَ نابِضاً في غَياهِبِ تلكَ العَتْمَةِ المُرعبة. “قد تُطِلُّ يَدٌ بين ألسِنَةِ النَّارِ، فوقَ مُرتفعاتِ العالَمِ، فَتَطَهِّرُ، وتُبارِكُ، وتَبْني، وتَزْرَعُ قلباً مُنيراً في جَسَدٍ منير، فيعودُ الحبُّ، ويُعانِقُ النُّورُ أرجاء هذا الكوكب المُنطَفئ”.(ص. 12)

  يتعملَّق “عبد الله” في فضاءاتِ النَّاسِ والمطارحِ والأزمنةِ رائعَ محبَّة، مبدعَ حُبٍّ، معطاءٍ بالذَّات والآخر والرُّؤى. ولَئِن كانَ “خالد” أمين الرَّيحاني باحثاً عن تفاعلِ الحضاراتِ في مَصْهر مختبر تجربتهِ المجتمعيَّة، وكان “مصطفى” جبران خليل جبران داعيةَ محبَّةٍ بين ناسٍ تناسوا الحبَّ أو قتلوه، وكان “سندباد” خليل حاوي جوَّالاً يبحثُ عن الذَّات في تشعبَّاتِ الوجودِ الحضاريّ ويفتِّشُ عن حقيقةِ الحضارةِ في أعماقِ الذَّات، فإن “عبد الله” أنطوان غطَّاس كرم يَشْمَخُ فِعْلَ حُبٍّ هو السِّرُّ المُقَدَّسُ لحقيقةِ الحياةِ التي تربطُ رؤى “خالد” الاجتماعيَّةِ الحضاريَّةِ، ودعوة “المصطفى” الإنسانيَّة، ومباحث “السِّندباد” الوجوديَّة.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *