رواية “الـمُــتَــمْــثَــلـون” للكاتب إسماعيل بهاء الدين سليمان… رؤية سياسية بين الخيال والواقع

Views: 702

 إنجي الحسيني (*)

انعكاسًا لخلفيته الثقافية ودراسته للإخراج السينمائي والمسرحي، أبدع الكاتب إسماعيل بهاء الدين سليمان روايته “الـمُــتَــمْــثَــلـون” الصادرة عن دار “الأدهم” للنشر والتوزيع، في القاهرة. هذه الرواية التي اعتبرها المؤلف “فانتازيا واقعية جدًا” هي بمثابة عمل فني يستثير عقل القارئ ومشاعره نظرًا لأنها تحتوي على أفكار عديدة من خلال نص متكامل مكتوب بسلاسة وانسيابية وبأسلوب متناغم الإيقاع لمواقف لا يمكن وصفها بالخيالية. فقد استطاع الكاتب إسماعيل بهاء الدين سليمان جذب القارئ لعالم قاسٍ لا يمكن فصله عن الواقع، وذلك بداية من استبداله للأسماء بالتوصيفات التي تؤكد على أنه لم يعد للفرد قيمة تُذكر في مجتمع انعدمت فيه القيم والمبادئ، فالجميع متماثلون إلى حد الجمود تجاه كل ما يتنافى مع المنطق والأخلاق والإنسانية.

في البداية، أضحكتني الصفحات الأولى الساخرة من بعض الأوضاع، ثم تنوعت مشاعري ما بين الحزن ومحاولة التفكير لفك الدلالات والرموز التي تعج بها الرواية، وهكذا تعرفت على شخص الكاتب من خلال العمل الذى أنصفه إنصافًا كاملًا، فجاءت “الـمُــتَــمْــثَــلـون” كمؤلَّف لمخرج عالمي يتحرك بسلاسة بين أروقة المدينة حاملًا “كاميرته” مسجلًا مشاهد يندى لها الجبين.

د. إسماعيل بهاء الدين سليمان

 

وبسرد روائي جريء وبأداء مسرحي رشيق وبألفاظ ومفرادت ربما جاءت صادمة للبعض، أنشأ الكاتب إسماعيل بهاء الدين سليمان مدينته التي بدت أكثر واقعية من مدن أخرى كمدينة أفلاطون الفاضلة على سبيل المثال والتي تهاوت أمام الواقع الأليم الذى يعيشه العالم العربي المهلهل الآن والذى ظهر كأوتوبيس عجوز مزدحم يئن تحت وطء الصهيونية رغم فشل كل المحاولات للخروج من تلك الهيمنة.

يبدأ الكاتب بتقديم روايته بإسقاط سياسي على حدث معاصر حتى يشد القارئ كما ذكرت للتعايش والانخراط داخل أجواء المدينة، فيشعر القارئ بأنه شاهد عيان أو متابع لفيلم داخل إحدى صالات العرض، ثم ينتقل الكاتب بين الآلة السرية التي تدير البلاد في غيبة من وعي حكامها ومحكوميها والطرقات والبيوت والتي عششت بداخلها الفئران والخنافس والعناكب، مسلطًا عدسته على كيفية صناعة الطاغية حيث تحوَّل الأخ الزعيم، القارئ للتاريخ، والذي جاء من قلب الشعب على مر السنين إلى “طويل العمر فخامة القائد والزعيم والمعلم وباعث نهضة الأمة ومخلصها”، إلى أن بلغ مرحلة عمرية تتعدى المائة عام مما لا يسمح له بإدراك ما حوله فاستوجب ذلك التدخل الخارجي، ليظل محتفظًا بالحكم.

وبعد أن ابتلعت نجمة داوود الهلال والصليب، ومع سهولة السيطرة على الحاكم والانقياد التام للغرباء الشقر وهروب رافضي ذلك المجتمع المنهار أخلاقيًا وسياسيًا ودينيًا لعدم قدرتهم على المواجهة، أصاب الجمود كل شيء بالمدينة الفاسدة، خاصة بعد حرق كل ما يتعلق بثورة الفؤوس والمعاول والهروات، ومحو أي دليل يشير إلى حركتهم، وتطويع القوانين والدستور بعد موت الحاكم إكلينكيًا والذى لم يبق منه إلا تماثيل جرانيتية عملاقة تعج بها المدينة كعادة حكامنا في تعليق صورهم بكل أرجاء الوطن.

ومن خلال شاشة العرض، نراقب مشاهد شديدة القسوة والجرأة لنرى فداحة ما يمكن الوصول إليه في المستقبل مسجلين الانفلات الذى يعيشه هؤلاء، خاصة عندما باعت الأسرة ابنتها ونزعت إرادتها من خلال قطع لسانها، وكأن الشعب قد تنازل عن كرامته وقَبِل انتهاك شرفه وعرضه أو أرضه من أجل إرضاء الحاكم الذي خضع له لأكثر من خمسة وستين عامًا. وفي النهاية، لا يحصل الشعب على أي شيء وتذهب تضحيته سدى.

وبعد أن تتفاقم الأمراض الاجتماعية وتفقد المدينة ما بقي لها من حيوية، يستسلم أفراد المجتمع في النهاية للغرباء، متنازلين عن عقولهم وأمخاخهم ليسوقوهم كيفما يشاؤون، لذلك كان بديهيًا اعتناقهم للوهم والتفاهات ليبلى الشعر أمام بحثهم الدائم عن الغرائز والجنس من أجل تسلية أنفسهم. كما أُحرقت الوثائق والمحفوظات القومية وتم بيع الأرض بثمن بخس في مساومة تعيد للأذهان صور العملاء الذين خانوا بلادهم من أجل حفنة من الدولارات.

لذلك، فقد يصيبك الحزن نوعًا ما وأنت تتجول بين أرجاء تلك المدينة التي تعج باللصوص والجوعى وتلتهم كل ما هو طاهر وتتعايش مع كل ما هو فاجر. وعندما لا يجد المجتمع ما يسد رمقه، تصبح الوسيلة الوحيدة للاستمرار في الحياة هي أن يبيع الإنسان عرضه ويتعرى على الملأ، ويُدهس المواطن تحت عجلات سيارات الأثرياء بلا أي ضمير، والجميع يقفون في حالة لامبالاة، حتى وصل الأمر إلى انتهاك البراءة والطفولة بين الأروقة على يد رجال الدين وعلى مسمع ومرأى من الشرطة، في مشهد يسجل النفاق الديني، فالخطيئة ليس لها ثمن سوى صكوك لا طائل منها إلا لإرضاء أنفسهم، وكأن الأوضاع في تلك المدينة معكوسة مختلطة كالأفعى والسيف والخنجر وسعف النخيل.

كما عبر الكاتب إسماعيل بهاء الدين سليمان عن حالة اللاوعي التي يعيشها بعضهم والتي تظهر من خلال الحوار الدائر بين “أرملة المرحوم” والابنة في منزل المرحوم، وكذلك في حالة الدهشة التي تصيب أفراد المجتمع إذا ما حاول أحدهم التصرف على نحو صحيح، رغم قلة عددهم.

والآن، وبعد الإعلان عن تفشي وباء عالمي يصيب الإنسان، لا أدري لماذا تذكرت سيارة جمع الأشلاء الآدمية التي تمر لجمع ضحايا المدينة وقارنتُها بمشهد سيارات حرق الموتى بدولة إيطاليا، واستعدت مقولة الكاتب “إنها رواية لأحداث وقع بعضها في الماضي ويجرى بعضها حاليًا وسيقع البعض الآخر في المستقبل” مما يجعل القارئ يدخل في صراع ذهني يتعلق بخلفيته السياسية والثقافية لفك الدلالات والرموز التي تعج بها الرواية.

لذلك، كان لابد للمدينة التي أصابها العطب وفاح منها العفن أن تتآكل بفعل الديدان، وكأنها ثارت لتنتقم لصاحب القيم الذى أصابته اللعنات، وللمبادئ التي قُتلت وتآكلت على يد رجال السلطة أثناء انغماسهم في اللهو والملذات التي بلغت حد الفجور والعهر رغم جرس الإنذار الذى رن مرارًا ولم يستمع له أحد بل تجاهلوه عن عمد مستخفين بتحركات تلك الكائنات، وكأن أداة التنبيه هي إشارة التحرك للثورة على ذلك المجتمع البالي ذي الأوضاع المعكوسة والمنغمس في اللذات وحامي كل الشرور والخطايا.

“الـمُــتَــمْــثَــلـون” رواية سياسية ذات مذاق ولون خاص، يحذر فيها الكاتب إسماعيل بهاء الدين سليمان من الوقوع في الهاوية ومن تآكل مجتمعات ضاعت معالمها وقيمها وعاداتها وتقاليدها و تضاءلت فيها الفضيلة وأصبح يتحدث فيها الغوغاء وتنتشر فيها العشوائية وتدافع فيها النخب عن اللابديهيات، وذلك من خلال نص أدبي خيالي واقعي في آن واحد، تتراقص فيه الكلمات برشاقة قلم صاحبها وتختلط مشاعر قارئها ما بين الابتسام والحزن والتدبر، حتى نقف وقفة مع النفس لنتساءل هل مجتمعاتنا عرضة للانهيار بالفعل؟ وهل تواجه تياراتٍ عالية يصعب مقاومتها؟

***

(*) إنجي الحسيني كاتبة وباحثة سياسية ومهندسة ديكور مصريَّة، خريجة كلية الفنون الجميلة، وحاصلة على ماجستير العمارة الداخلية ولها ثلاثة مؤلفات أدبية ما بين الرواية والقصة القصيرة، وكتاب سياسي، بالإضافة إلى مقالات سياسية واجتماعية وأدبية منشورة في عدد من الصحف الإلكترونية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *