كلود أبو شقرا في “ثائر يزرع الأمل”… فكر جورج شامي بحبر الوفاء

Views: 1945

العميد الركن أنطون مراد

عندما تجتمع الثقافة مع المحبة يكون الإبداع، وعندما يجتمع الوفاء مع الثقة بالنفس تختفي الأنا ويولد العطاء اللامحدود. اجتمعت هذه الصفات الطيبة بشخص الإعلامية المثقّفة كلود أبو شقرا فحملها الوفاء إلى الإضاءة على فكر أستاذها جورج شامي، الصحافي والروائي، لأنها تعرفه جيدًا وتعرف أن فكرًا بهذا الحجم لا بد من تعميمه. بدأت كلود المهمة بأسلوبها السهل الممتنع، اعتمدت الأمانة العالية في تظهير فكر جورج شامي بصور ملوّنة عالية الدقّة فبدت وكأنها تكتب عن نفسها من دون الوقوع في الأنا التي تكرهها وتبتعد عنها كل البعد. 

باللون الأبيض المأخوذ من طيبة قلبها ومن نصاعة تاريخ جورج شامي، اختارت كلود أبو شقرا الغلاف (بريشة الفنان التشكيلي حسن جوني) الذي رغم جماله، يشدّك العنوان بسرعة للدخول إلى المضمون لتتعرّف على حكاية عمرها يناهز التسعين عامًا، عاشها جورج شامي بتعمّق منذ الطفولة. عاش طفولته بفقر في الأشرفية ولكنه تعرّف على الأفقر منه في بلدة سنيّا التي قصدها مع والدته وأشقائه هربًا من ويلات الحرب العالمية الثانية. تعرّف على أستاذ الضيعة الذي كان يعمل كإسكافي بعد الظهر فوصفه باحترام لأنه يشبهه، ذلك أنه عمل في معمل كرتون ليتمكّن من تحصيل العلم.

عاش في عائلة فقيرة من أب وأم أميّين لكنه ينظر إليهما بكل احترام ومحبة وخاصةً والدته التي ملأ أشقاؤها وشقيقاتها فراغ أميّتها فكانوا يساعدونه في دروسه التي تفوّق فيها. وكانت علاقته جيّدة مع مدرسته حيث لفت أنظار الأساتذة والمسؤولين بذكائه المميّز فحاز على منحة من المطران مبارك لمتابعة علومه مجانًا في مدرسة الحكمة.

 

كان لجورج الجرأة في الحديث عن حياته الشخصية واعترف بأنه كان يجهد لإقامة التوازن بين احترام الذات والعائلة وبين مغريات الحياة. ثم تحدّث عن المرأة رافضّا الذكورية في التعاطي معها، فتعاطف معها واعتبرها بطلة وعاشقة ورمزًا للوطن ووجد في زوجته المرأة المثال التي عاشت معه بمحبة واحترام حتى آخر يوم في حياتها.أما بالنسبة للدين فهو يعتبره انفتاحًا ما ورائيًا على الأمل والرجاء وليس انسحاقًا وانبطاحًا والتزامًا أعمى وبغضّا وحقدّا.

تحدّث جورج شامي عن تاريخ لبنان والمنطقة ثم عن الانقلابات المتتالية في المنطقة العربية وانعكاساتها على لبنان وصولاً إلى الحرب الأهلية في العام 1975 حيث تحوّلت الأحزاب والطوائف إلى ميليشيات مارست فرض الخوّات وتاجرت بالسلاح والمخدرات. كما تدخّلت بشكل سلبي ضد غير الحزبيين وقد طاله ذلك شخصيّا عندما نافسه الحزبيّون على منصب مدير كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. وركّز على دور المثقّفين في بناء الوطن واعتبر أنهم كانوا تابعين للسياسيين ولم يستطيعوا أن يروّضوا السياسة لخدمة الثقافة. وركّز على دور الإعلام في خلق التناغم بين الشخصيات اللبنانية المتعدّدة وتحويلها من مستوى العصبية إلى مستوى الثروة الوطنية والإنسانية.

جاب جورج شامي مختلف أصقاع العالم، وكان لفرنسا الحصّة الأكبر حيث أمضى فيها 25 عامًا عمل خلالها في عدة وسائل إعلامية منها الوطن العربي حيث صدمته قلة وفاء بعض تلاميذه الذين أصبحوا زملاء له في العمل فتآمروا عليه معتمدين المنافسة غير الشريفة. ثم عاد إلى لبنان بلده الأم الذي كان شاهدًا على مشواره الإعلامي على مدى خمسين سنة، في وسائل إعلامية أهمها: النهار، الحياة، العمل، الوكالة الوطنية للإعلام، والحسناء. وعاصر مرحلة العمل اليدوي الطباعي المضني وصولاً إلى عصر الكمبيوتر والإنترنيت.

كان جورج شامي مثالاً للرجل الذي يهوى التحدّي والصراع، صنع تاريخه بعرق جبينه، لم يكن يومًا هامشيًا بل كان يهوى المغامرة والعيش بتفاصيل الحياة وكان ينسج من كل حقبة قصّة واقعية فكان له عشرات الكتب والقصص أهمها: “ماذا بقي من القتال”، ” أبعاد بلا وطن”، ” وطن بلا جاذبية”، ” قديشات ألوهو”، “ذكريات عارية”، “عاشقة بألوان قوس قزح”، “عصير الزنزلخت”، ” النمل الأسود”…، وغيرها المئات من المقالات والندوات.

إن إقدام كلود أبو شقرا على إعداد هذا الكتاب هو بمثابة تحدّ لم تكن لتقدم عليه لولا توافر مجموعة عوامل أهمها ثقافتها الواسعة وثقتها الكبيرة بنفسها، بالإضافة إلى معرفتها الدقيقة بالأستاذ جورج شامي وتأثّرها بتاريخه المشرّف ووفائها له كاستاذ متابعٍ لجميع أعمالها منذ التخصّص في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية مرورًا بجميع محطّات عملها كإعلامية وصولاً إلى مرحلة إعداد هذا الكتاب.

كتاب “ثائر يزرع الأمل” هو بارقة أمل في سماء هذه المرحلة السوداء التي تلف لبنان والعالم. بارقة أمل تدل على أننا ما زلنا بألف خير وأن بعد كل ليل هناك فجر سينبلج. بكتابها هذا، نحن مدينون جدّا للإعلامية كلود أبو شقرا لأنها بكتابٍ واحد أصابت مجموعة عصافير، فبأسلوبها الرائع دفعتنا لنسبح في غمار أدبها فاستمتعنا بالكلمات المنتقاة بعناية من حديقة خبرتها وثقافتها وتعرّفنا عبرها على شخصيةٍ مميّزةٍ من بلادنا وصار عندنا الشغف للتعمّق أكثر فأكثر في شخصية جورج شامي والاستفادة من أعماله ومن تاريخه المشرّف.

من كل قلبي أبارك للإعلامية الصديقة كلود أبو شقرا إنجازها الجديد، متمنيًا لها المزيد من التألّق والنجاح، راجيًا الله أن يقضي على فيروس كورونا لتعود الحياة الطبيعية إلى لبنان كي نلتقي في أقرب وقت ونشاركها فرحة توقيع كتابها في عرسٍ هي بطلته وإلى يمينها الأستاذ جورج شامي ونشرب معهما نخب الثقافة والإرادة الصلبة وأهم من كل شيء نخب الوفاء.

 

 

Comments: 2

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. مبارك اصدارك الجديد ثائر يزرع الامل ، واتمنى حين يزول كورونا ان اسارع الى اقرب مكتبة واجالسه لما فيه كما قرات عنه من قيمة لفكر وحياة جورج شامي.

  2. نبارك للإعلامية كلود أبو شقرا صدور كتابها “ثائر يزرع الأمل” الذي تضيء من خلاله على سيرة أستاذها جورج شامي وفكره، وقد أخّر الواقع الجديد الطارئ بسبب وباء كورونا COVID 19 حفلَ التوقيع.
    لقد زادنا مقال العميد الركن أنطوان مراد شوقًا للاطلاع على مضمونه؛ ومن اليوم نحجز لنا موعدًا معك الصديقة الغالية كلود أبو شقرا للاحتفال بإطلاق إصدارك القيِّم.شكرا للعميد الركن أنطوان مراد على هذه الإضاءة الغنية، العميقة والآسرة، التي أضاءت على أهم ما امتازت به شخصية وسيرة جورج شامي وتناولته كلود أبو شقرا في كتابها.
    مارلين سعاده