الشّاعر دَامَسُو ألُونسُو..مُغترِب الذّات آخِر شُعَرَاء الجِيل الإِسبَانّي 1927 الشّهير

Views: 810

د. السّفيرمحمّد محمّد خطّابي* 

الشّاعر الإسباني المجمعيّ الكبير”دامسو ألونسو” إلى جانب رفائيل ألبرتي الوحيدين الباقيين على قيد الحياة فى التسعينيات من القرن الماضي من ذلك الجيل الأدبي الإسباني الذي طبّقت شهرته الآفاق، والذي شغل أهل الأدب والشعر والخلق والإبداع المعروف بجيل ( 1927) الذي كان من أقطابه  الصّيت كذلك : فيدريكو غارسيا لوركا، وخورخي غييّن،و خيراردو دييغو، ولويس ثيرنودا،وميغيل إيرنانديث ، وفيستنتي أليكسندري، ورفائيل ألبرتي، وسواهم. 

 

حياته وأعماله

 حصل دامسو ألونسو على عدد كبير من الجوائزالأدبية التكريمية في مختلف حقول الإبداع، تألّق نجمُه خلال العشرينات من القرن الفارط، وبالذات ضمن مجموعة الأدباء و الشعراء الاسبان الذين كانوا منضوين تحت جيل 27 الأدبي الآنف الذكر الشهير. كتب في اللغة والنقد و الدراسات الأدبية والتحليلية، إلاّ أنه نبغ في الدواوين الشعرية التالية : “قصائد خالصة” (1921) “الشّعر والرّيح” (1925) “النبأ المُعتم” (1944) “أبناء الغضب” (1944)( وهو من أعظم أعماله) “الإنسان والله” (1955) “متعة الرّؤية” (1981). و من أعماله النقدية “اللغة الشّعرية لدى غونغورا” (1935) “شعر سان خوان دي لا كروث” (1942) “دراسات في الشعر الإسباني” ( 1944) وسواها من الأعمال الإبداعية والدراسية والنقدية الأخرى.

إلتقى دامسو ألونسو في نيويورك عام 1925 مع صديقه الشاعر الغرناطي الكبير فيدريكو غارسيا لوركا، و كانت تربطه صلة وثيقة به ، كما كانت له مراسلات أدبية مع جيمس جويس، و ذلك عندما همّ ألونسو بترجمة كتاب جويس في ذلك الوقت المبكر “صورة الفنّان في شبابه” و قد نشأت على إثر ذلك صداقة متينة بينهما واحترام وإعجاب متبادلان، هذا كما قام بترجمة عدّة قصائد ل : ت.س. إليوت ، و هوبكنز مع تعاليق  وتحاليل نقدية ضافية عنهما.

 

أبناء الغضب

يُجمع النقاد و معظم دارسي دامسو ألونسو أنّ أعظم كتاب خلّفه لنا هذا الشاعر هو ديوانه الفريد الذي يحمل عنوان : “أبناء الغضب” و هو أشهر دواوينه على الإطلاق، بل إنّه ربما كان أعظم ديوان شعري عرفته اللغة القشتالية في النصف الثاني من القرن الماضي، و هو كتاب ضمّنه إحتجاجه وحنقه وصياحه وإدانته الصّارخة لأهوال ومخاطر وويلات االحروب سواء العالمية ، أو الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت عام 1936 وحطّت أوزارها عام 1939،والتي انعكست إضافة إلى عمله الأدبي الآنف الذكر، فى كتابه الكبير” الإنسان .. واللّه”.

 

كان دامسو ألونسو قصير القامة، ضئيل الجسم، هادئاً، و وديعاً، و يكاد المرء لا يصدّق أنّ كاتباً من هذا القبيل قد صدرت عنه تلك الكتب التي تتفجّر بالغضب،والهيجان والصّراخ، والصياح، والإحتجاج ، لقد كتبت ذات مرّة الشاعرة الإسبانية” فاني رُوبيو” تقول : “إنّ ديوانه “أبناء الغضب” وُلد من البرودة ولكنّه سرعان ما تحوّل إلى بركان هادر،حارق،مُشتعل “. وعن أسباب وضع هذا الديوان صرّح ألونسو دامسو : “أنه بعد نهاية الحرب وجد نفسه في ضيق شديد. رأى كيف أنّ عالمه يهوي إلى الهاوية ويغرق في البؤس، إنّ مجازر الحرب الأهلية الاسبانية ثم الحرب الأوربية قد سبّبتا له غمّاً مقيماً،وأرقا مستديماً،وقلقاً فظيعاً حيث قاده كل ذلك إلى فقدان الأمل، و تولّد في داخله بالتالي تناقض غريب،فهو شاعر عاشق، هائم،متيّم، مغرم بالحياة و الطبيعة، و صدمه أن أكتشف الشرّ في الطبيعة نفسها”،على حدّ تعبيره. 

 

مُغتربٌ داخل نفسه

المحوران الأساسيّان اللذان يدور حولهما هذا الديوان هماً الهلع والرّوع و القرف من الحياة، لذا فإنه كتاب إحتجاج كوني صارخ ضدّ نقائض الحياة. يقدّم لنا الشّاعر نفسه في هذا الكتاب  ” كمغترب داخل نفسه ” ظلّ ألونسو دامسو بعيدا عن الفلسفة بمعناها الكلاسيكي القديم وخلا شعرُه منها .

يقول الناقد الأكاديمي الإسباني” لويس رُوساليس” : “إنّ شعر دامسُو ألونسُو هو في الواقع أسئلة مطلقة يصعب علينا أن نجد أجوبة شافية مُقنعة لها، و هو ما انفكّ يصيح طالباً عدالة السّماء من مظالم العالم. إنه يسأل غداة الحرب الأهلية الإسبانية  الضّروس التي أتت على الأخضر واليابس فى إسبانيا الثلاثينيّات من القرن الفارط ، من هول المأساة :

قل لي، أيّ حقلٍ تريد أن تسمده 

هذه الحرب اللعينة بصديدنا ؟ 

ألا تخشى أن تجفّ حقول الورود اليومية

أو أن يبكي السّوسنُ الحزينُ في جُنح الليل.

قال عنه الشاعرالقادسي ( نسبةً إلى مدينة قادس)  الجريح القلب رفائيل ألبرتي وهو رفيقه في درب الشّعر و الإبداع والمعاناة : ” عاش دامسو للناس دون أن يكون ملكاً لنفسه. كان عمري 22 سنة عندما جاء مرّة صحبة صديق لزيارتي وأهداني كتابه. كان شابّاً باكر النضج، و لكنّ أشعاره كان لها وقع السّحر فينا وفى أنفسنا، وأنا أستطيع ترديد بعضها الآن إذا شئت، حفظتها يوم زيارته لي في مساء بارد من عام 1921. كما أنّني عندما كنت مريضاً بداء السلّ لم يكن ينقطع عن زيارتي، و كناّ نقرأ كثيراً من الأشعارالتي كانت تخفّف عنّي وطأة الألم المُضني،وثقل المرض العُضال اللعين”. وقد أشاد ألبرتي فى مناسباتٍ عدّة أخرى بعبقرية دامسو الشّعرية،و نوّه بدراساته النقدية للتراث الشّعري والأدبي و اللغوي في اسبانيا . 

 

و قال عنه أوكتافيو باث شاعر المكسيك الكبير الراحل  الحاصل على (نوبل فى الآداب) عام 1990: “هذا الرجل لن أنساه، و لن تنساه الآداب الإسبانية عن جدارة واستحقاق نظراً لمكانته،وروعة شعره، ودراساته النقدية خاصّة عن” لويس دي غونغرا”. ذلك أنّ إنبعاث هذا الشاعر القرطبي الكبير من غياهب القرون، و طلاسم اللغة يعود الفضل فيه إلى ألونسو دامسو، إذ بدونه ما كان لنا أن نقرأ غونغورا، كما أنه بدون غونغورا فإنّ الشعر الاسباني ما كان له ليكون على ما هو عليه الآن. لا ينبغي أن ننسى كذلك عطاءاته الثرّة بالنسبة للشعر المعاصر، فضلاً عن الدراسات التحليلية المعمّقة التي عالج فيها جميع الشعراء والادباء الذين عاصروه،أو عاشوا قبله  ” . 

و تعرّض” أوكتافيو باث” بالخصوص إلى ديوان الشّاعر “أبناء الغضب” الذي أعجب به أيمّا إعجاب ،و قال إنّ بعض أشعار ألونسو دامسو التي حفظها عن ظهر قلب منذ زمنٍ بعيد وبالضبط منذ خمسين سنة لم تفارقه أبدا .

 

دامسو والأديب المغربي الصبّاغ

هذا و تجدر الإشارة أن دامسو ألونسو ربّما يكون قد نُقل إلى اللغة العربية لأّوّل مرّة على يد الأديب المغربي الرّاحل الصّديق المأسوف عليه محمّد الصباّغ، و ذلك عندما ترجم له ولحياته في جريدة “كتامة” الملحق الأدبي ” تمودة ” التي كانت تصدر بمدينة تطوان (شمالي المغرب) فى الخمسينيات من القرن المنصرم (العدد 8 تشرين ثاني ( ديسمبر) 1957).

الأديب المغربي محمّد الصباّغ

 

وكانت يربط الشاعر دامسوألونسو صداقة متينة بالصبّاغ،حيث يتردّد إسم الشاعر الاسباني الكبير في العديد من كتابات هذا الأديب المغربي. وعلى إثر وفاة الشاعر دامسو سلمّ لي مدير مجلة “كتامة” الكاتب الإسباني الراحل الصّديق كذلك ” خاثنطو لوبث كورخي” (و هو شاعر مغرم بالتاريخ العربي وثقافته) نّص أوّل ترجمة لإحدى قصائد دامسو التي تنشر لأّوّل مرّة باللغة العربية وهي من كتابه “الجمال الذي رأيت” و تحت عنوان “تلك الزّهرة” و هي من ترجمة الصبّاغ نفسه.

تقول هذه القصيدة : 

تلك الزّهرة

كم من ملامح و ألوان تحيى في أعماقنا عن طريق الذّكرى

تلك الزّهرة ، زهرة الماضي التي كانت حسناء 

التي تولد كلما أغمضت عيني في رفيف ظلامها،

أناديها فتهفّ وها هي ذي هنا

غلالتها السّابحة ترسمني، 

ببياضها المتداعي النامي في غصنها 

يكاد يكون مقتلعا

جمرتها الصّفراء تشتعل في الظلام

و تظلّ ملتهبة أبداً. و لكن من أين أتت ؟ 

و في أيّ رياضٍ اشتعلت ؟ ومن أيّة شمس نزلت ؟

و في أيّ طفل التهبت ؟

يا لعصب الذكرى التي تعجّ بمحبّ وراء العقل

في سراديب متلاشية،

و في كهوف عقلي المظلمة الثائرة على طيف الفضاء،

الذي يفرخ، حيث تتبلور الشّعلة المُلتهبة الصّفراء .

____________________

(*) كاتب وباحث ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *