أديب اسحق نابغة الشرق ورائد التنوير

Views: 189

سليمان بختي 

ظلم أديب اسحق (1856-1885) الشاعر والصحفي والأديب والمترجم مرتين في تاريخه: 

ظلمته حياته القصيرة 29 سنة فما أتاحت لدوره أن يكتمل ولتأثيراته أن تنتشر. وظلم بعد  وفاته لأنه لم ينل ما يستحق من اهتمام من قبل الباحثين والمهتمين قياساً لدوره  النهضوي وموقعه التنويري في حركة الحداثة العربية. أرمني الجذور شامي المولد  لبناني المنشأ ، مصري الهوى ، عربي النزعة. 

ولد أديب اسحق في دمشق من عائلة أرمنية واسمه الحقيقي أديب زالماتيان. تلقى تعليمه في مدرسة الآباء العازاريين في دمشق، وأتقن اللغتين العربية والفرنسية. انتقل إلى بيروت حيث تعلّم اللغة التركية. قال أستاذه لأبيه: “إن ولدك سيكون قوالاً أي شاعراً لأن السجع كان يرد في كلامه عفواً”.

ترك المدرسة باكراً ليعمل كاتباً في دائرة الجمارك. انضم في بيروت إلى جمعية “زهرة الآداب” ثمّ تولّى رئاستها وانضم إلى جمعية “شمس البر” و”زهرة الإحسان”. 

عمل في الصحافة في جريدة “ثمرات الفنون” وجريدة  “التقدّم” وكان في السابعة عشرة. وفي التاسعة عشرة شارك في تأليف كتاب “آثار الأدهار”.

سافر إلى  مصر في العام 1876. استقر بداية في الاسكندرية وساهم مع سليم النقاش الوافد الجديد إلى مصر في تأليف المسرحيات وتمثيلها ومنها مسرحيتا: “أندروماك” لراسين و”شارلمان”. وألف رواية  “الباريسية الحسناء ” وطبعها  في بيروت . وكذلك كتاب “غرائب الاتفاق” وكتب “تراجم مصر في هذا العصر” و”الدرر” مجموعة من المقالات المنظومات . 

انتقل بعدها إلى القاهرة وهناك تعرّف إلى جمال الدين الأفغاني فتأثر به وبمواقفه الجريئة وأفكاره الإصلاحية. وعمل مع الأفغاني في إصدار جريدة “مصر” (1877) والتي نشر فيها الأفغاني بعضاً من مقالاته. 

 

لكن الحكومة المصرية أقفلت الجريدتين وأدخلته السجن . كتب أديب اسحق قصيدة في  سجنه وأرسلها إلى محمد  سلطان باشا رئيس مجلس النواب المصري، يقول فيها: “أيبعد  ذو فضل ويدني منافق / ويسجن واف حين يطلق غادر/ ويكرم جاسوس عن الصدق حائر/ ويظلم همام على الحق سائر”. 

وله  أبيات لا تعرف أنهاً له ، كقوله: 

“قتل امرئ في غابة/ جريمة لا تغتفر/ وقتل شعب آمن / مسألة فيها نظر / والحق للقوة لا / يعطاه إلا من ظفر”. 

ثم شد  الرحال إلى باريس هذه المرة في  سنة 1880 وهناك أصدر جريدة عربية سماها “مصر – القاهرة” وتوج أول نشراتها بهذه العبارة ” ما تغيرت الحقيقة بتغير الاسم ، بل هي “مصر” “خادمة مصر”.

تفاعل أديب اسحق وتواصل مع العديد من أدباء فرنسا خلال إقامته في باريس ومنهم فيكتور هيغو الذي أطلق عليه لقب “نابغة الشرق”. بقي في فرنسا ينهل من مناخاتها ومن ينابيع أصحاب الفكر والادب فيها حتى أنه حضر جلسات مجلس الامة فيها وكتب في صحفها.

استدعاه شريف باشا إلى القاهرة بعد أن تولى النظارة وعينه ناظراً لـ”ديوان الترجمة والانشاء”، ثم سكرتيراً لمجلس النواب وذلك بسبب مواقفه المؤيدة للثوار العسكريين (الثورة العرابية)  في مصر، ومنح الرتبة الثالثة وسلمه عزيز مصر براءتها يداً بيد.

كما أعاد إصدار صحيفته “مصر” والتي تعطلت مجدداً. لم يكمل أديب اسحق مشواره مع الثورة حتى النهاية فقد كان محسوباً على شريف باشا. وبسقوط  نظارة شريف باشا أثر ذلك على الخلاف بينه وبين العسكريين. كما ان لرفع الثورة شعار “مصر للمصريين” أجّج ذلك مخاوف الوافدين إلى مصر من مختلف الجنسيات فعزفوا عن استمرار تأييدهم للثورة.

كتب أديب اسحق بعض المقالات في صحيفة “الاعتدال” ليرد على الهجوم  الذي شنته الثورة على غير المصريين. 

أصيب بمرض السل وهو في التاسعة والعشرين من عمره  فعاد إلى بيروت وتوفي فيها ودفن في قرية “الحدث”. عاش عمره القصير شريداً طريداً ولم يتجاوز عمر القمر.

دعا أديب اسحق إلى اتحاد  العرب قبل فوات الأوان. وإذا فعلوا فإنهم يحققون ما يريدون. وهذه الدعوة تكاملت مع ما هو مشرقي وعثماني وقومي. كان أديب اسحق سليل المدرسة الإصلاحية العربية وارتبط الإصلاح عنده بالحرية. حرية الرأي والقول والانتخاب. والحرية عنده ملازمة للمساواة الحقوقية والسياسية والمساواة بين الرجل والمرأة. كما انه حاول التوفيق في كتاباته  بين مفهوم “الشورى” عند العرب وليبرالية  الغرب. لكنه في كل الأحوال كان رافضاً للتدخل الأجنبي والتزم في الدعوة إلى اتحاد  عربي والتزم بنهضة الامة العربية  وحريتها واستقلالها ووحدتها وتقدمها. كان أديب من أوائل الذين دعوا إلى جامعة بل وسابقاً لزمانه. (gravityhair.com) قال:”نحن في الوطن إخوان تجمعنا جامعة، فكلنا وإن تعدّد الأفراد إنسان”. وانتفض ضد الاقطاع الديني والمدني وامتلأت رئتاه بهواء الحرية.

في رسالة مؤرخة عام 1882 إلى جبرائيل مخلّع على أثر استظهار  الإنكليز على مصر ، كتب :”نحن في زمان لا يشبه الأزمنة، وحال لا تماثل الأحوال، فيومنا مشتبه الخبر،وغدنا مجهول الأثر ، ورئيسنا ليس بأعلم من المرؤوس بما تؤدي إليه الحوادث . ولذلك تلجلجت الألسنة وترجرجت الأقلام ، وتهدجت الأصوات، فصار الاعتزال كرامة والخمول سلامة”. 

 

أثر وفاته:

رثاه الأفغاني في ” العروة الوثقى “: “غالب نائبة الدهر طراز العرب ،وكان زهرة الأدب  في الشام  وريحانة العرب في مصر  صفينا أديب اسحق”. وكتب اسكندر العازار :”عاش ومات حر الضمير فكراً وقولاً وفعلاً ، فليبكه ضمير الأحرار ولتندبه الحرية”. كما ذكره الزعيم سعد زغلول بأنه كان في مقدمة الذين تأثر بهم خطابيّاً. 

واعتبره مارون عبود أحد رواد النهضة العربية الحديثة. وأنه “كاتب نضال وترك أثره في الأجيال المتعاقبة وبدت ملامح أسلوبه في جميع من كتبوا المقالة بعده، في أسلوب جبران أول عهده، ونجيب حداد وكذلك ابراهيم اليازجي في صدر مقالتيه الزهرة والقمر”.

نتذكره بعد  135 سنة  على وفاته رائداً جديراً ومستحقاً لإعادة الدراسة والاعتبار من كتاباته وتجربته. ذاك الأرمني العربي الأصيل كان بحق رائداً من رواد  النهضة التنويرية في الشرق. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *