حنا ومادلين عايدي

Views: 791

د. جان توما

قرر أهل “حنا” مغادرة انطاكية وهو المولود فيها عام 1913 (توفي 2000)، وكان قد تزوج عام 1939 “مادلين ناصح” المولودة في انطاكية أيضًا عام 1924 (توفيت 2015)، فغادرا مع مجموعة إلى مدينة اللاذقية.

في مسرى حياتهما هناك أنجبت “مادلين” صبيا توفي بعد سنتين من هجرتهما من تركيا خوفًا من القلاقل والأحداث. تعبت “مادلين” من الرحيل وغسلت بدموعها التي لم تنقطع وجعها، لكن الطفل المولود لم يتحمّل ألم الوالدة وحنينها إلى أرضها وأهلها الذين بقوا هناك وما زالوا حتى اليوم.

ترك “حنا ” وزوجته اللاذقيّة إلى مدينة الميناء البحرية التي نزح إليها أقرباء له من انطاكية كآل الجمل وناصح وتركية وغيرها من العائلات الانطاكيّة وعشرات دفعات المهجّرين والمهاجرين والنازحين من كلدان وسريان وأشوريين وأرمن ومسلمي جزيرة كريت (الأكرات)، فكانت الميناء مدينة العابرين إلى مدن العالم بعدما صار ملح شاطئها حافظًا لجودة الذكريات واحتضان مُحِبّ لمن سلك دروب الترحيل.

 

استقر “حنا” وزوجته في الميناء، عاملًا في البناء، حاذقًا في صنعته مشهورًا. تميّز  أيضًا بلكنته الانطاكية وطريقة نطقه الحرف.سكن في ملك أنور باشا، قرب المخفر القديم،  وصار البيت لموقعه عند مدخل سوق الخضرة وساحة مواقف النقل بالسيارات إلى طرابلس البلدة ملتقى للعابرين. كأنّ فكرة العبور رافق عَقْلَي “حنا” وزوجته وروحيهما.  كانت سيدات الميناء يلتقين عندها ليجلسن على السطح المطلّ على السوق والمخفر والجمرك، والأهم حركة السفن، لعلّ البحر يبرّد بنسائم شوق “مادلين” إلى أهلها في انطاكية.

 استقرّ “حنا ومادلين” على هذا الشاطىءوأنجبا ١١ ولدًا في زمن الغربة، ولكنّه كان زمن القناعة والوفاق وبساطة العيش. لكن انطاكية بقيت في البال والخاطر، فلم تقصّر في العودة لزيارة أهلها والبقاء هناك لأشهر، كما كان أهلها وإخوتها يأتون لزيارتها.

ضمّدت “مادلين” جراح غربتها بالزيارات وبحبّها للميناء وأهلها. لم تعد تستطيع مغادرة أزقة الميناء، بل زادتها الحرب اللبنانية تعلًقا بهذه المدينة وبعائلاتها وبنسيج أهلها الحضاري التاريخي.

كان “حنا” يجلس في مقاهي الأحياء مع الأحياء يومها في انفتاح العارفين الصادقين يلملم بعينيه وذاكرته وخياله صور طفولته ورحلته ومفاصل مشاهد حياته من انطاكية إلى الميناء ، قبل أن تنعزل الناس في غرفها وتشاهد صورًا مصنوعة عن حياتهم على الشاشات.

كتب المعلّم “حنا” تاريخ مدينتين بعدما نزحت بكامل أفرادها إلى الميناء. راحت انطاكية بأزقتها مع رحيله وأغلقت بعده “مادلين” دفتر طفولتها هناك، وبقي الاولاد والأحفاد يلهجون بتلك الحكاية التي تروح على دروب التنقّل والرحيل قصيدة وجع لا تنتهي إلاّ بالقيامة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *