طرابلس ليست كذلك

Views: 110

ماجد درويش

إن الصورة التي تُظَهَّرُ اليوم عن طرابلس تبدو مزعجةً إلى حدٍ كبير، وكأنها تعاقَب على تاريخها المشرف في الوقوف بوجه الفتن. وأكاد أجزم بأنها المدينة اللبنانية الوحيدة التي تحوي مروحة واسعة من التنوع الديمغرافي الذي يشكل نسيج لبنان. (https://editorialrm.com)

وفي كل الفتن التي عصفت بالمنطقة، سواء قبل قيامة لبنان الكبير أم بعدها، لم يتأثر نسيج طرابلس، إلا في فترات غلب على قرارها غير أبنائها، كما هو الحال اليوم، وللأسف. وإذا بحثنا جيدا فلن يعجزنا إدراك أن أيادٍ من خارج هذا النسيج هي التي تكيد، وربما تنتقم، من طرابلس، مشعلة فيها الفتن مرةً على إثر مرة. 

هنا يصبح استذكار مواقف رجالات طرابلس التاريخيين التي شكلت درعا تحصنت به المدينة من الفتن، وكانت منارات استرشد بضيائها الضالون، أكثر من واجب، فلعل البعض يثوبون إلى رشدهم ولا ينجرون وراء الفتن.

 

 

أحداث 1860

في الفترة الممتدة بين عامي 1858 – 1860، حصلت في لبنان وسوريا فتنة كبيرة تولدت عنها اعتداءات شنيعة ومذابح بين المسلمين والمسيحيين والدروز.

وفي محاولة للتعرف على أسباب هذه الفتنة نجد تحليلا لمؤرخ أمريكي هو (زاكري كارابل)  (Zachary Karabell)الذي وضع كتابا سنة 1960 بعنوان: (أهل الكتاب: التاريخ المنسي لعلاقة الإسلام بالغرب) ترجمه الدكتور أحمد إيبش، يذكر فيه (ص: 267 – 268) أن ما حدث بين المسلمين والمسيحيين من مذابح كان شذوذا عن قاعدة التاريخ الإسلامي، وأن سبب هذا الشذوذ هو الغرب الذي تجاوز حدوده، أكثر من كون السبب هو العلاقات الإسلامية الداخلية. 

طرابلس خارج الفتنة

هذه الحادثة لم يستطع أهل الفتنة نقلها إلى طرابلس يومها لأنها كانت تتمتع بمجموعة من الرجالات الكبار أصحاب المواقف المشرفة التي تقضي على أية محاولة لإشعال الفتنة، من أمثال الشيخ محمد رشيد الميقاتي الكبير المتوفى سنة 1865رحمه الله تعالى، والذي كان إماما للجامع الكبير المنصوري، والمسؤول عن مواقيت الصلاة، كان صمام أمان للبلد، حيث منع العوام من التطاول على أهل طرابلس من المسيحيين.

ومنذ مئة عام كاملة، سنة 1341ه، وضع حفيده الشيخ محمد رشدي الميقاتي، كتابا عدد فيه مآثر جده، وأسماه: (الأثر الحميد في مناقب الشيخ محمد رشيد، ص 55) ذكر فيه دور جده في منع آثار الفتنة من الوصول إلى طرابلس، قال: 

«ومما يدل على وفور عقله أيضا ما أجراه وقت حدوث فتنة الشام الشهيرة سنة 1275ه / 1858م التي كان على إثرها حصلت الحوادث الهائلة بين المسلمين والنصارى في أغلب جهات سوريا، فاهتم سيدي الجد على استئصال بذور هذه الفتن والشقاق، ومنع سريان هذا الداء العضال من نفوس ذوي الجهالة من شبان طرابلس، فصار يرسل أولاده لدور رؤساء المسيحيين ليلا، ويأمرهم بأن يسهر كل واحد منهم على طريق المناوبة عند كل واحد من أكابرهم، وجعل ذلك علانية على أعين الناس ليقتدوا بمسراه، ويقلدوه في مبداه، فما كان إلا أن خمدت في طرابلس شرارة أهل الشر بأجمعها، حتى إن الحكومة كانت تضم رأيها إلى رأيه».

وقد لقيت مواقف الشيخ في الفتنة استحسانا كبيرا من قناصل الدول الأجنبية، حتى إن القنصل الأمريكي يومها شبه الشيخ، في رسم رسمه، بأنه زهرة طرابلس الفيحاء وخلاصة أهلها الأكارم.

هكذا كانت طرابلس .. يوم كان رجالها علماءَها .. 

أما اليوم، وقد صارت الكلمة فيها لمن لا خلاق لهم، فإنها باتت مدينةً مختطفة، مسلوبةَ الإرادة والقرار، يُسلَّطُ فيها الجهلاء على العقلاء، ضمن مخطط يهدف إلى تفقيرها أكثر مما هي فقيرة، وتركيعها وإذلالها، لأنها كانت، ولا تزال، عصية على الفتنة.

 وحسبنا الله ونعم الوكيل.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *