رسالة أب مهاجر إلى الطبيب رشاد زيني

Views: 966

د. جان توما

هناك  يا ولديّ خلف البحر وطنٌ، لي فيه آلاف الذكريات، ورصيف بحري كهذا الرصيف، ولكن ماءه أملح وأطيب.

هناك بقيت عائلتي، وجئت بكما إلى هنا لا كرهًا بما هناك، بل لمستقبل أراه لكما هنا دون همّ أو غمّ.

تريان هنا بحرًا هادئا، وأنا لا أذكر إلّا بحر المشاكل المتعاقبة والقصف والتدمير ،لكن قلبي هنا يطلع من لهب النار كنار الشوق إلى ساحات مدينتي وأزقتها. هناك نشأت وكان والدايّ يحلمان بأن أكبر بينهما، وأن أكون قربهما، وأن يكحّلا أعينهما في شيخوختهما بشاب نذرا عمرهما له أدعيّة ورعاية.

بهما يا ولديّ صرتُ، وإليهما تهفو نفسي من مساحات الشّوق والحنين. كالموج تتوالى صور ذكرياتي معهما، ومشاهد طفولتي تكرّ كقناديل البحر ، تلمع من تحت الماء وتلسع عمري بذاك الوجع الحارق المشتاق لتلك الأيام.

لو تسنّى لي بساط الريح لعبرت الأمداء والآفاق إلى ذلك الميناء المشلوح شمال لبنان كمدينة منسيّة في عطر الأيام. أهلها يعتبرونه جزيرة خارج حدود الزمن والتوقيت. صيادوها يخيطون الشباك البحرية كما يصلّون بمسبحة الدراويش. يتّكلون على ربّهم في رزقهم، لا يفكرون بلقمة الغدّ، يؤمنون بأنّه كما طُيُور السَّمَاء لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، بل من في السماء يَقُوتُهَا.

هل من قمقم أدخل إليه لتأخذني الريح إلى “المشتي” و”فوق الريح” و”رأس الصخر”  وتردّني كشراع إلى تلك الطفولة والشيطنة هناك.

راقبا يا ولديّ هذا الأفق البعيد وتذكّرا أنّ تقولا لهذا البحر: ” يا “بحر” البعيد خلفك حبايبنا”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *