التاريخ إن حكى

Views: 446

ماجد الدرويش

معلوم أن التاريخ، من حيث إنه علم، يهتم بدراسة السجل الزمني للأحداث، وتسجيلها بدقة وأمانة. غير أن الدراسات تثبت أن ميول المؤرخ يصعب جدا أن تنفصل عن كتاباته للأحداث، ولكن تبقى هذه الميول عند البعض ناقدة للحدث لا محورة له، إلا في حالات من يخترع التواريخ لنفسه ولقومه، حينها تحل التأويلات الشخصانية محل الحدث، هنا تأتي قيمة النقد الظاهري والباطني للنقول التاريخية على ما ذكره المؤرخ الكبير، العالم البروفسور المرحوم أسد رستم في كتابه المهم جدا (مصطلح التاريخ)، الذي افتتحه بعبارة صارت قاعدة، وهي (إذا ضاعت الأصول ضاعت التواريخ).

والأصول هي النصوص التي دونت من قبل أناس عاشوا الحدث، فنقلوه بعيونهم وقلوبهم، الأمر الذي يشكل لنا، نحن الدارسين المتأخرين، مصدر استفادة واستلهام لفهم تكوين المجتمعات وأخلاقياتها.

من هذا الباب سوف ألج إلى ما جاء في المصادر التاريخية عن (جبل لبنان) وقيمته الدينية عبر التاريخ.

الموقع الجغرافي:

معلوم أن (جبل لبنان) هو جزء من سلسلة من الجبال المتصلة ببعضها من بحر الروم (الأبيض المتوسط) حتى بحر القلزم (قزوين).ففي معجم البلدان لياقوت الحموي (٦٢٦ه /١٢٢٩م):

«لُبنَان: جبل مطلّ على حمص يجيء من العرج (منطقة) الذي بين مكة والمدينة حتى يتصل بالشام، فما كان بفلسطين فهو (جبل الحمل)، وما كان بالأردن فهو (جبل الجليل)، وبدمشق (سِنّير)، وبحلب وحماة وحمص (لبنان)، ويتصل بأنطاكية والمصّيصة (كانت مدينة تاريخية في قيليقيا تقع أطلالها بالقرب من مدينة أضنة بتركيا حاليا)، فيسمى هناك (اللُّكام)، ثم يمتدّ إلى ملطية (تقع في منطقة شرق الأناضول)، وسميساط (مدينة تاريخية قديمة من مدن الأناضول، غمر موقعها سد أتاتورك الذي تم تشييده في عام ١٩٨٩)، وقاليقلا (مدينة في أرمينيا الكبرى) إلى بحر الخزر (بحر قزوين)، فيسمى هناك (القبق)».

 التنوع السكاني، والخيرات، والبعد الديني:

ويذكر الحموي أنه قيل: «إن في هذا الجبل سبعين لسانا لا يعرف كل قوم لسان الآخرين إلا بترجمان»، وقال:«وفي هذا الجبل المسمى بلبنان كَوْرَةٌ بحمص جليلة، وفيه من جميع الفواكه والزرع من غير أن يزرعها أحد، وفيه يكون الأبدال من الصالحين».

وعن هؤلاء الصالحين (الأبدال) وعن مقامهم في (جبل لبنان)، يقول أبو منصور الثعالبي (٤٢٨ه / ١٠٣٨م) في كتابه (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب):

«يُضْرب بهم الْمثل فى الزّهْد وَالْعِبَادَة ورفض الدُّنْيَا، وهم الزهاد والعباد الَّذين وَردت فِي حَقهم الْآثَار بِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا يرحم الْعباد وَيَعْفُو عَنْهُم وَينظر لَهُم بدعائهم، لَا يزِيدُونَ على السّبْعين وَلَا ينقصُونَ عَنْهَ،ا فَكلما توفى وَاحِد مِنْهُم قَامَ بدل عَنهُ يسد مَكَانَهُ وينوب مَنَابه ويكمل عدَّة الأبدال، وَلَا يسكنون مَكَانا من أَرض الله تَعَالَى إِلَّا (جبل اللكام) وَهُوَ من الشَّام يتَّصل بحمص ودمشق وَيُسمى هُنَاكَ (لبنان) .. فَهَؤُلَاءِ الأبدال يضافون مرّة إِلَى (لبنان) كَمَا قَالَ الشَّاعِر:

وجاور جبال الشَّام لبنان إِنَّهَا … معادن أبدال إِلَى مُنْتَهى العرج

وَتارَة يضافون إِلَى اللكام». ..

وعن المكانة الدينية لهذا الجبل، ينقل الثعالبي أن: «تِلْكَ الْبِلَاد الشامية لم تزل على وَجه الأَرْض متعبدات الْأَنْبِيَاء والأولياء من عباد بني إِسْرَائِيل وزهادهم، ومواضع مناجاتهم، ومحال كراماتهم، لَا سِيمَا مُوسَى وَهَارُون ويوشع بن نون عَلَيْهِم السَّلَام، وهى الْآن مَوَاطِن الأبدال».

أما عن خيرات جبل لبنان الطبيعية، فيذكر أن فيه:«عُيُون عذبة، وأشجار كَثِيرَة، تشْتَمل على كل الثمرات، لَا سِيمَا التفاح اللبناني، فَإِن اللبنانيَ مِنْهُ مَوْصُوف بِحسن اللَّوْن وَطيب الرَّائِحَة ولذاذة الطّعْم، يُحمَل مِنْهُ فى الْقرَابَات إِلَى الْآفَاق».

وهؤلاء العباد ينظر إليهم بتقدير واحترام وتعظيم من كل سكان الجبل جميعهم.وهو ما وجدناه في نص نادر أورده الرحالة ابن جبير الأندلسي (٦١٤ه / ١٠٣٨م) في رحلته، عن مشاهداته لتعامل أهل الجبل مع المنقطعين إلى العبادة فيه، فيذكر تحت عنوان: (نصارى جبل لبنان) «أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأَوْا به بعض المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت، وأحسنوا إليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع الى الله عز وجل فتجب مشاركتهم».

ويذكر الحموي في معجمه عن بعض الأوائل أن مكان دمشق كان دارا لنوح، عليه السلام، ومنشأ خشب السفينة من (جبل لبنان) وأنّ ركوبه في السفينة كان من عين الجرّ (عنجر) من ناحية البقاع.

كل هذه الأخبار، وغيرها كثير مما هو مبثوث في مظانه، تبين المكانة التي كان يتمتع بها جبل لبنان لدى المتعبدين من كل الملل، حتى عند الوثنيين، ففي المسالك والممالك للبكري (٤٨٧ه / ١٠٩٦م) أن اليونان اختاروا جبل لبنان لإقامة معبد لصنمهم بعل، «فاتّخذوا له هناك هيكلا فيه نقوش عجيبة في الحجر لا يتأتّى حفر مثلها في الخشب»، وهو قلعة بعلبك، وإليهم بعث الله تعالى نبيه إلياس يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الصنم.

لا أدري لم لا نجد هذا التاريخ في مناهجنا المدرسية بدل تلكالبطولات الوهمية والأساطير المؤسسة للفتن والصراعات الداخلية..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *