مِنْ قِيَامَةِ الفِصْح إلى قِيَامَةِ التَّجَلِّي والانْتِقَال

Views: 336

 الأب كميل مبارك

يُدْخِلُنِي شَهْرُ آب، وهو الشَّهْرُ الثَّامِنُ في السَّنَةِ الشَّمْسِيَّة، في جَوٍّ مِنَ التَّأَمُّلِ الرُّوحِيِّ الوَهَّاج. قَدْ يَتَسَاءَلُ القَارِئُ مَا هي العَلاقَةُ بَيْنَ شَهْرِ آب والتَّأَمُّلِ الرُّوحِيِّ، وهَلْ نَحْنُ مَعْفِيُّونَ مِنْ هذا التَّأَمُّلِ في الأَشْهُرِ الأُخْرَى، أَمْ إنَّ مَوْقِعَ هذا الشَّهْرِ في قَلْبِ الصَّيْف، مَوْسِم الغِلالِ والقِطافِ والنُّضْج يَنْعَكِسُ على مَا في القَلْبِ والعَقْلِ مِنْ أَفْكَارٍ ومُعْتَقَدَات، فَيَسْقُطُ مَا لا نَحْتاجُ إلَيْهِ، ويَعْلَقُ مَا نَحْنُ بِهِ مَوْجُودونَ ثَابِتُونَ مُرْتَبِطونَ

بِمَا يَبْقَى، كَيْ نَتْرُكَ كُلَّ الاهْتِمَامَاتِ الأُخْرَى الَّتي تُبْعِدُنَا عَن الكَنْزِ المَخْفِيِّ في الحَقْلِ والدُّرَّةِ النَّادِرَةِ الَّتي نَبيعُ كُلَّ شَيْءٍ في سَبيلِ اقْتِنائِها؟

الجَوَابُ عن هذه التَّساؤُلاتِ يا عَزيزي القَارِئ، يَقَعُ في عيدَيْن كَبيرَيْن تَحْتَفِلُ بِهِمَا الكَنيسَةُ في هذا الشَّهْرِ، وهُماعيدُ التَّجَلِّي أَو عيدُ الرَّبِّ في السَّادِسِ مِنْه، وعيدُ الانْتِقَالِ أَو الرُّقَادِ أَو النِّيَاحِ أَو عيدُ السَّيدة وهو في الخامسَ عَشَر مِنْه، وكِلا العيدَيْن يؤَكِّدَانِ على أَنَّ حَقيقَةَ الِإنْسانِ مُرْتَبِطَةٌ بعالَم آخَر غَيْر هذا العَالَم المُتَحَوِّلِ المُتَبَّدِّلِ السَّائِرِ نَحْوَ المَجْهُولِ كما يقولُ المُشَكِّكون، أَو الَّذي يَتَّجِهُ عَبْرَ الزَّمَن نَحْوَ نِهَايَةٍ أَكيدَةٍ يَتَجَدَّدُ فيها كُلُّ شَيْءٍ، وتَصِلُ الِإنْسَانَ بعَالَم الأَبَدِ الثَّابِتِ الَّذي لا يَتَغَيَّرُ ولا يَتَحَوَّلُ ولا يَذْبُلُ ولا يَتَهَاوَى ولا يَتَدَاعَى ولا يَتَلاشَى لأَنَّه عالَمُ البَقَاءِ الأَبَدِيِّ مع الله الَّذي لا يَتَغَيَّر.

عيدُ التَّجَلِّي يُرينَا حَقيقَةَ المَسيح القَائِم مِنَ المَوْتِ الَّذي لا يَعْتَريهِ فَسَادٌ، ويُرينَا الطَّبْعَ الإلَهِيَّ الَّذي يَتَجَلَّى بنُورٍ لا تَعْرِفُهُ الأَرْضُ، وبَيَاضٍ سَمَاوِيٍّ لَمْ يَرَ مِثْلَهُ القَصَّارُون. إنَّه المَسيحُ الإلهُ الِإنْسَان، أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ لَنَا عَبْرَ تَلاميذِه على القِيَامَةِ وحَقيقَةِ مَصيرِ الِإنْسَانِ الَّذي يَرْقُدُ تَحْتَ التُّرابِ مُؤْمِنًا بأَنَّ الآخِرَةَ والنِّهَايَةَ لَيْسَتا خَلْفَ بَابِ القَبْرِ أَو تَحْتَ لَوْحَاتٍ حَجَريَّةٍ تَحْمِلُ اسْمَهُ وتَاريخَ مَوْلِدِهِ ووَفَاتِه، بَلْ هي في كَوْنِ السَّعَادَةِ اللَّمُتَنَاهِيَةِ والحُضُورِ الإلَهِيِّ المُبْهِج في دُنْيَا البَقَاء.

أَمَّا الخَامِسَ عَشَر مِنْ آب، يَوْمُ احْتِفَالِ العَالَم المَسيحِيِّ بأَسْرِهِ بعيدِ انْتِقَالِ أُمِّنَا العَذْرَاء بالنَّفْسِ والجَسَد إلى مَجْدِ الآبِ السَّمَاوِي، فهو تَأْكيدٌ واضِحٌ على قِيَامَةِ المَوْتَى، بَلْ قِيَامَةِ الأَجْسَاد، والاسْتِمْرَارِ إلى الأَبَدِ بطَريقَةٍ إنْ لَمْ يُدْرِكْهَا العَقْلُ الَّذي يَسْتَعْمِلُ مَقَايِيسَ صَالِحَةً لهذا العَالَم وتَعْجِزُ عنْ إدْرَاكِ مَا في ذاك العَالَم الآخَر، فلأَنَّ طُرُقَ فَهْمِهِ ومَقَاييسِه مُخْتَلِفَةٌ تَمَامًا عَمَّا أُعْطِيَ العَقْلُ لِفَهْم هذا العَالَم الَّذي نَعيشُ فيه سَنَوَاتِ عُمْرِنَا، فَيَأْتِي الإيمَانُ ليُنيرَ طَريقَنَا لكَيْ نَفْهَمَ تلكَ الحَقَائِقَ إنْ لمْ يَكُنْ على الأَرْضِ، فيَوْمَ نَصِلُ إلَيْهَا في العالَم الآتي.

وهكذا يَكونُ آب الشَّهْرُ الثَّامِن، دَافِعًا لذِكْرَى اليَوْم الثَّامِن منَ الزَّمَن الَّذي لا يَنْتَهي، أَي يَوْم القِيَامَةِ الَّتي اسْتَبَقَتِ التَّاريخَ وأَتَتْ باليَوْم الأَخيرِ لتَضَعَهُ في الزَّمَن الحَالِيّ،

مُشْعِلةً في عَقْلِ الِإنْسَانِ نُورًا يُضِيءُ لَهُ أَبْعَدَ مِنَ المَاضِي والحَاضِرِ ليُدْرِكَ كُلَّ الآتي المُتَعَلِّق بمَصيرِهِ النِّهَائِيِّ وغَايَتِهِ القُصْوَى.

***

 (*)  من كتاب “حين يكثر الحِصرِم” (2018)، يتضمن افتتاحيات الأب كميل مبارك في مجلة “الرعية” بين 2007 و2017.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *