إلى والدي

Views: 689

نيفريت الدالاتي غريغوار

بعد ان قرأت “حقيبة السفر” للدكتور “جان توما” على صفحته الفيسبوك، ( المنشورة على موقع aleph- lam) بتاريخ 27- 7- 2020 عن هجرة شباب لبنان، وإفراغ الوطن من شبابه.

أعادني الحنين الى وجه والدي أكثر من أي وقت مضى، بعد أن كنت أحاول تناسيه كي لا يعذبني رحيله وأنا في غربتي.

وكعادته د.”توما” في بحث دائم عن وجوه مضت، فينتشلها من النسيان، كما انتشل في “وجوه بحريّة” من غاب خلف ضباب الزمن، منسيا في مدينته الصغيرة “الميناء”.

واليوم انتشل وجها لبنانيا، فيقول:”ما زلت أذكر تلك المرأة اللبنانية العجوز (حبّوبة) التي هاجرت بعد الحرب العالمية الاولى لتحط رحالها  في بيت عتيق بأحد احياء مدينة بوسطن الاميركية. وما زال سؤالها يرن في اذني: (كيف البلاد)؟ .قلت لها: انه يستعيد حياته.لم تتمكن من العودة الى لبنان. ماتت هناك في بلاد تتشوق فيها الى لبنان الذي هو البلاد”.

“حبّوبة” يا د.”توما” هي كل لبناني هاجر او سافر على امل العودة، فمات الأمل وبقيت العودة تصارع الغربة، والأيام تموت خلف الشوق الى الوطن.

هذه الالتفاتة الصغيرة الى سؤال “حبّوبة” ذكّرتني بالمرحوم والدي الذي كان دوما يسألني “هل ستعودين الى لبنان”؟ وأنا كنت أتصنع الابتسامة واللامبالاة، وأقول له: ان شاء الله. وكان سؤاله يقتلني، وأنا أنظر اليه بيأس، دون أن أجيب.

لكن اليوم! وقد رحل والدي، ولم يعد يسمع ألمي، فبإمكاني أن أقول له:

اليوم يا والدي أبوح اليك خلف ضباب المجهول، أن الزمن اقتلعني من جذوري، وغفوت في إناء غربة توجعني. رحلت، وبرحيلك أيقظت حقائب الدموع التي اغرقتني حنينا، وحرمتني من أن انظر اليك النظرة الأخيرة.

لمن أعود وقد رحل أهل الدار؟ غربة قضمت سنوات عمري، وأنا أتحرق شوقا، وصمتا، إلى وطن أصبح رهينة الأيام السود.

وطني لبنان، أنظر اليه عبر كوة ذكريات اصبحت شاحبة، ضاعت فيها كلمات، وغاب في خباياها حكايات.

رحلت يا والدي واخذت معك السؤال “متى سترجعين؟ هل ستعودين؟”

لم يعد هناك من يدق باب غربتي ليسألني، لقد رحل الطارق، وبقي صدى سؤاله يعذبني في وحدتي.

تائهة أنا في زمن أهوج، ابحث عن وجوه غابت في دهاليز النسيان.

تساقطت أيامي، وأنا كطفلة، قابعة خلف جدار الانتظار. أسافر الى طرقات ضاعت فيها عناوين، وتهاوت فيها وجوه.

لمن اعود، وقد سرقوا حلم العودة من حقائبي، خطفوا أجمل أيام عمري، وها هم اليوم يقتلون بقية العمر.

إلى أين تريدني أن أعود يا والدي؟ لأعيش، في خيمة الذل والعار، مستعطية سارقي أعمارنا، ومقوّضي حياتنا؟

لقد قتلوا الانسان فينا، وما زالوا على بقايا هياكلنا يساومون.

فرغم كل الحنين الذي ينهش سنوات عمري، لن أكون أسيرة جنونهم، لن أعود للذل في أرض بلادي، سأموت في غربتي منسية، أفضل من أن أموت ذليلة في غربة وطني.

باريس 28-7-2020

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *