الدنيا بألف خير ..

Views: 624

ماجد الدرويش

إلى أخي الحبيب، الذي يقع مني موقع الروح من الجسد، العلامة الفقيه الداعية الشيخ محمد جمال الدين هاشم، الحنفي الأزهري الأسيوطي،

وإلى الصديق العزيز الدكتور خالد بغدادي نائب رئيس جامعة بيروت العربية لشؤون فرع طرابلس، الذي بات ابنا بارا بطرابلس،

اقدم هذه الهدية:

في عام ١٩٥١ م زار العلامة الداعية الرحالة الأديب السيد ابو الحسن الندوي الهندي مصر، ودون زيارته في كتابه المشوق: (مذكرات سائح في الشرق العربي)، ولفتني ما كتبه تحت عنوان (من السويس إلى القاهرة) من كلمات في المقارنة بين شخصية السائق الذي رافقهم في الطريق، وبين شخصية السائق الهندي، كلمات تظهر فيها أريحية السيد أبي الحسن وتجرده وتحرقه على القيم التي كانت تنسل من طباع المسلمين سريعا.. قال رحمه الله / ص ١٨ و ١٩ / :

واخذنا في طريق الصحراء إلى القاهرة، فإذا هي قاحلة مجدبة لا نبات فيها ولا بناء، وفي الطريق أوقف السائق سيارته، وقال: هنا نصلي الظهر.

وأسجل هنا أني رأيت السائق المصري ممتازا في أخلاقه وعفة لسانه ودينه عن السُّواق الهنود الذين هم مضرب المثل في بذاءة اللسان، وشذوذ الأخلاق والمعاكسة، والذي يهتم فيهم بالصلاة والواجبات الدينية نادر جدا، أو لا أدري هل الذي رأيت في هذا السائق المصري عام في السواق او كان شاذا في طبقته، تجيب عن ذلك تجارب كثيرة.

نعم : تجيب عن ذلك تجارب كثيرة.

ومن هذه التجارب ما حصل معي شخصيا في مطلع القرن العشرين، فقد زرت مصر للمرة الأولى في حياتي يوم كان شيخَ الأزهر العلامة المفسر الإمام السيد طنطاوي شيخ مشايخنا، رحمه الله تعالى، وكان المفتي الدكتور علي جمعة، وكان رئيس جامعة الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وهو اليوم الإمام الأكبر لجامع الأزهر الشريف، يومها، وبعد انقضاء الزيارة ركبت (التاكسي) متوجها إلى المطار للعودة إلى لبنان، وكنت أرتدي الزي المشيخي المعتاد عندنا في لبنان (العِمّة والجُبة)، ولا تسألوا كم حذرني الأصدقاء من ان غالب السائقين يعمدون إلى إطالة الطريق لزيادة (التعريفة).

 وبالفعل اخذت معنا الطريق ردحا من الزمن من مدينة نصر إلى المطار، وراودتني وساوس بأن السائق يتعمد إطالة الطريق، وأخذت بتهيأة نفسي لدفع بدل محترم.

ولم تتوقف هذه الوساوس إلا عندما لاحت لنا معالم المطار. وبعد أن توقفت السيارة، سارع السائق إلى النزول لجلب الحقائب من صندوق السيارة، فنظرت إلى العداد لأجهز البدل، ففوجئت بانه لم يسجل شيئا، فتيقنت أنني سوف أسدد (التعريفة) بالعملة الصعبة.

وأخذت الافكار تعتورني يمينا وشمالا، لكنني اخيرا عزمت بتفويض الأمر إلى الله تعالى، وأنني لا بد ان أدفع ما يطلب بسبب تقصيري في مراقبة العداد ابتداء، ومعلوم أن القانون لا يحمي المغفلين.

سارع السائق إلى جلب عربة ، ووضع الحقائب عليها، وقال لي عبارة ما زالت حتى اليوم ترن بأذني، (بالسلامة يا باشا)، إذن هذا التصرف النبيل لا بد أن تكون له كلفة زائدة، أيعقل ان يتكبد عناء إخراج الحقائب ووضعها على العربة ، ولا أقابل صنيعه بإحسان؟

أخرجت محفظتي وسألته السؤال الذي كنت انتظر له جوابا مكلفا جدا: كم تريد يا عم؟ 

يا الله ، كلما تذكرت هذا الموقف تغرورق عيني بالدموع، لقد اجابني الجواب الوحيد الذي لم أكن اتوقعه على الإطلاق، (عيب يا باشا، دنت مولانا وضيفنا، عيب)..

ولم يرض أن يأخذ قرشا واحدا..

ما اكثر ظنونك يا ابن آدم، وما أقل تحسينك الظن بالناس.. عيب ، نعم .. عيب ..

إنه درس بليغ بالقيم والأخلاق التي نظن انها لم تعد موجودة.

هذه الحادثة ذكرتها بمناسبة ما دونه السيد ابو الحسن الندوي رحمه الله عن انطباعه بشأن سائق التاكسي عام ١٩٥٠، دونتها عام ٢٠٢٠ ، لأجيب عن تساؤله الأخير بأن هذا السائق ليس شذوذا عن القاعدة، وإنما في سُّواق مصر كثيرون امثاله ماضيا وحاضرا ومستقبلا حتى يرث الله الارض ومن عليها.

فالدنيا ما زالت بألف خير ..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *