أنطون جرجي: العود المبحوح

Views: 607

د. جان توما

عاش أنطون جرجي (١٩٠٧-١٩٦٩) ناسيًا تكاليف الدنيا لكنها لم تنسه. ولد في “مرسين”وأتت به عائلته صغيرًا إلى الميناء حيث تدرّج في مهنة التوريق.كنت ألحظ بعد مماته آلة عوده الوتريّة مرتاحة على ظهر خزانة بيته. لم أجرؤ يومها على سؤال زوجته الكسندرا عبدو  (١٩١٩-٢٠٠٧) – المولودة مع أخيها أبراهيم في الميناء بعد نزوح والدها ووالدتها من ” مرسين” أيضًا- : لماذا لا يزال” العود” مرتاحا فوق سطح خزانة، فيما صاحب” العود” مرتاح تحت التراب؟!

لم أسلها ربّما خوفًا من الجواب أو بعدم وجود جواب. لكنّي كنت أعرف أنّ أوتار  هذا ” العود” يمدّ قلبها بنبض من غاب. لعلّ وتره إذا شدّ عزف أجمل أمسيات ما مضى.

كان انطون زعيم طاولة العشاء في نهاية كلّ اسبوع، يجتمع الجيران حول لقمة جامعة وكأس؛ يغنون ويصفقون، وأنطون يرافقهم عزفًا وكورسًا وطربًا. كانت أغنيتهم المفضّلة في ختام العشاء: “يا طيرة طيري يا حمامة”، لفيروز وصباح فخري، تحيّة لغياب من أحبوهم والذين يعودون كلّ اسبوعين، في رسالة ورقيّة، يحملها البريد لتبريد شوقهم وتخفيف لوعة البعاد، خاصة من ابنهما “خريستو” (١٩٤٢-١٩٨٧) الذي هاجر مع عائلته إلى استراليا وبقيت الكسندرا تنتظر رجوعه عمرًا طويلًا، ورحلت دون أن تعلم أنّ ابنها رحل قبلها وهو بانتظارها.

ما زلت أذكر شاربَي انطون وطريقة تراقصهما مع نقرة الريشة على الوتر الموجوع، ذاك الوتر الخامس الذي زاده الموسيقار “زرياب” (٧٨٩-٨٥٧م)، تلميذ اسحق الموصلي(٧٦٧-٨٥٠م) ، الوافد من العراق إلى الأندلس والذي استكمل به موسيقاه العبقرية. انطون ورفاقه لم يسمعا بالاثنين ولكنهما كانا معهما في جلستهم العامرة بالشوق والحنين وتذكّر الأحبة.

ما زالت صورة” العود” المرتاح على ظهر خزانة البيت في بالي، فيما أجهل أين صار العود والخزانة بعد رحيل أنطون والكسندرا وتفرّق أولادهما السبعة بين لبنان واستراليا و.. الموت.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *