حظيرة الخنازير

Views: 1049

هدى عيد

 

حدَثَ ذلك خلالَ حربٍ ما، في مكانٍ ما، في زمنٍ ما…

 

( مُهداة إلى صدديقي الدّكتور م.ع.)

كان الأسيرُ ” عَاري” يرتجفُ بعنف. عظامُ هيكله العظميّ البالغِ تعدادُها مئتان وست قطعٍ من الحجم الطّويل والمتوسّط والقصير – يحرِص على تذكّر هذه المعلومة وسواها من مخزونات دماغه المحصّلة قبل الأسر، بغية الحفاظ على مقدرته العقليّة المصعوقة – تلك العظام بدت في حالة رقص هستيريّ لم يتمكّن من إيقافه لحظة واحدة.

يرفضُ الالتفاتَ إلى الخلف. صار الخلفُ رعباً يفوق كلّ الكوابيس، وكلّ عذابات الجحيم.

يتوالى، منذ أيّام، سقوط القتلى أمام عينيه. موتٌ، موتٌ، موت في كلّ لحظة، في كلّ شبر، وعند كلّ إغماضة عين.

“يا ربَّ السّمواتِ السّبع، ويا ربّ الأرضين السّبع بك وحدَك أستغيث، أما زلت تسمعُ أنّات الموجوعين في زوايا أرضك المنهوبة المستباحة”؟

فَكّرَ: هل سيستريحُ السّفاحون في هذا المساء الحزين؟ صورة “ديمتري” المتخبّط في دمائه على الأرض أدمَت قلبه، أو ربّما هي لم تُدمه، بل أسقطته في مزيد من حالات الذّهول، وارتخاء الفكّين. ” ديمتري” كان الأسير السّابع والأربعين الّذي تمّ إعدامه في هذا النّهار الدّامي السّيّال. سقوطه رجّ الأرض رجّاً. لم يدرك “عَاري” لمَ، أكان ذلك بسبب سِمنته المفرطة، أم بسبب قلبه الأبيض النّظيف؟

فَكّرَ “عَاري” أنّ الطّيبين يُسحقون في الأرض كالحشرات في غالب الأحيان، ولكنْ لماذا يُسحقون ما داموا قد وثقوا بعدالةِ الرّب الرّحيم؟ لم يستطع رأسُه إكمالَ عدّ القتلى، فقد مرّت سحابةٌ دخانيّة غبراء أمام ناظريه أفقدته القدرة على التّمييز؛ ربّما تكون تلك السّحابة الصّغيرة تشكّلت من دخان الرّصاصات الّتي كانت تنطلق بصخبٍ مجنون. إنّها المرّة الثّانية الّتي تغشى عينيه، وتكاد تُعدم قدرةَ إبصارِه الأشياءَ والشّخوص.

بصعوبةٍ شقّ جفنيه. استعاد إحساس الغثيان الذي ترافق مع طغيان سحابة دخان. عرف الحالة عينها في الأسبوع الفائت، عندما كانوا يعبرون منطقةَ السّهوب في طريقهم إلى هذا المعسكر. مشهدُ الجثث المترامية ولّدت في ساقيه طاقة دافعة إلى الأمام. أراد بقوّة النّجاة والعودة إلى الدّيار. أملٌ يائس أخير.

يلتفُّ على نفسه داخل المعطف الممزّق، ويسير بإصرار لعين. الجثث تتكوم على رُقع الثّلوج المترامية، إنّها أبواب الجحيم تطلّ من الأفواه الفاغرة، ومن جحوظ العيون. أقدامه تزداد خفّة وانسياباً. يريد يعدو ليس إلاّ؛ يهرب من مشاهد الرّعب، يفرّ من جلده إن استطاع إلى ذلك سبيلا.

من بعيد، كان هيكلٌ آدميّ أجرد يجلس متكوّماً على نفسه. لم يستطع كبح جماح استغرابه من قعود ذاك الأخير، على كومة الثّلج، مجرّداً هكذا. استمرّت خطواته تتقدّم بعزم. تمكّن من محاذاته، فسار بهدوء فضوليّ على مسافة قريبة منه. التفت الهيكل البشريّ العاري إليه، كان فمه مدمّى تماماً، يداه تحملان ما بدا له قلباً يقطر سائلاً لزجاً مال لونه إلى السّواد. أوقف نهشه، وراح ينظر برعب إلى وجه “عَاري”، ثمّ أعاد بصرَه بسرعة إلى الجثة الرّابضة بين ساقيه. كاد يحتضنُ ما بين يديه.

شعر “عَاري” بالخوف الشّديد. أفزعَه الذّعرُ المنبثقُ من عيني ذاك الوحش الآدميّ المهزوم. الهزيمة تصنعُ الوحوش، أو هي قد تصنع الأبطال كما قيلَ له وللآخرين!

عاودته الرّغبة في العَدو، لكنه لم يجرؤ. الضّابط المسؤول يضبط إيقاعاتِ أقدامهم: لا رَيثٌ ولا عَجَلٌ. قلبه طبلٌ أجوف تتعالى أصواتُ نحيبه، وهو يرى أشباحاً عارية أخرى. يتقدّم والأجساد المتأرجحة المكوّمة على الجثث تقتاتُ أجزاءها. يتكرّر الفِعل عينه في مشهد سرياليّ عظيم، أيّها الرّبُّ القدير رُحماك، أيّها الرّب القدير مؤكّد أنّك تسمع وتبصر ما أراه !

عند بلوغ سور المعسكر، كانت السّحابة الدّخانيّة قد أعمت عينيه تماماً، فتسارعت ضربات قلبه حتّى أصمّت أذنيه. حاول رفع رأسه ليستنشقَ الهواء بعمق، لكنّه أخفق تماماً. أحسّ بجسده المُنهك يتداعى كجدار هَرِمٍ قديم.

في صباح اليوم الثّاني، أخبره رفيق أسرِه “ألتون” أنّه قد أحصى عدد ساعات غيابه عن الوجود، فبلغت أربع عشرة ساعة. خُيّل إلى ألتون، للوهلة الأولى، أنّه مات لذلك وضع يده فوق منخاريه، عندما شعر بحرارة أنفاسه الفاترة، حشره في زاوية الغرفة المعتمة بعيداً عن أعين الجنود المراقبين احتراماً منه لأمانيه الشّخصيّة والأنانيّة. اعترف لعاري بمرحٍ مفاجئ، فألتون لم يشأ لرفيقه الرّاحة والهروب. هو أمِلَ في عودته إلى الحياة، ليتشاركا الألم من جديد.أخبره أنّ عدد الأسرى الّذين تمكّنوا من النّجاة، والوصول معهما قد بلغ خمسة وستين أسيراً فقط. أكثر من أربعمئة رجل لقوا حتوفهم غدراً، وقهراً، وجوعاً.

كانت السّاعة قد بلغت العاشرة عندما تمّ جمعهم كلّهم، في الباحة الأماميّة المُعشوشبة للمعسكر. أُمروا بالانتصاب وقوفاً ثابتين، رافعي الرّؤوس ومفتخرين بنجاتهم!

 أمامهم مباشرة، في منطقة الوسط تحديداً، وقف الضّابط الأرقش المسؤول عنهم، وقال باعتزاز وبتهكّم حاول إخفاءه قدر الإمكان: 

–  حسناً يبدو أنّكم أبطالٌ حقيقيّون، أو أنّكم حمقى مجانين، لكن أيّاً يكن فسيجري توظيف طاقاتكم الكامنة لما فيه خيرُ هذه البشرية جمعاء.

جهِد للابتسام بخفّة قبل انسحابه، لكن وجهه لم يستطع مجاراته. التفت بقوّة إلى الجنود الّذين وقفوا بشكل نصف دائريّ أمامه، قائلاً بصوت واضح حادٍّ كسكّين :

–  إنّهم لكم بكلّيتهم الآن، فأحسنوا العناية بهم.

تمثّلت العناية المطلوبة بهم، كما اكتشف الأسرى بعد ساعات، في تسخيرهم  لعمليات اقتلاع صخور ضخمة قائمة في أراضي التّلة المقابلة للمعسكر الّذي جُعلوا فيه.

 أمضوا شهرين كاملين يستيقظون عند الخامسة صباحاً، وأجسادهم تتمايل جرّاء هزالها وتراجع طاقاتها؛ توقظهم صافرات الحرس الّتي تنطلق حادة متتابعة كأزيز. يهرولون، بعد اليقظة المزعجة، إلى العمل، تلفحهم برودة الصّباح المضمّخة بصقيع الثّلوج الّتي استقرّت على رؤوس الجبال المحيطة بالمعسكر.

تُقدَّم لهم عند العاشرة صباحاً، وجبة طعام بسيطة هي عبارة عن خبز بائت سيّء التّحضير، وقليل من الحبوب اليابسة، بينما ينتحي الجنود المراقبون في ناحية بعيدة، يتناوبون على تناول فطورهم الّذي تنبعث منه روائح ساخنة شهيّة.

أمّا الوجبة الّتي كانت تحملُ لهم بعضاً من فرح، فكان موعدها يحين عند السّاعة السّابعة مساء. تتضمن تلك الوجبة ثلاث قطع لحم متوسطة الحجم لكلّ أسير منهم، بالإضافة إلى كمية معقولة من القمح المخلوط بالشّعير، أو من حبّات البطاطا الدّاكنة الألوان .

تمثّلت فلسفة ذلك التّدبير،  وِفق ما أخبرهم به أحد الجنود، وهو رجل بسيط لطيف خلافاً للآخرين، في كون القائمين على المعسكر يريدون لهم أن يشعروا بشبع البطون، وأن يناموا بعمق، بعد شقائهم طوال النّهار – فالجائع لا ينام – ليتمكّنوا هم من الاستراحة، والتّلهي ببعض أنواع الرّذائل الّتي كانوا يتقنون، والّتي كانت تشي بها ضحكات وتأوّهات تصدر، من بعضهم، بين حينٍ وحين، تتسرّب من القاعة العلويّة الّتي يبيتون فيها.

حملت إطلالةُ شهر نيسان، لأولئك الأسرى، غمّاً غير متوقّع، خالف ناموس الطّبيعة المقدّس وبشائرها في هذا الشّهر الجميل. فقد انتهت مرحلة اقتلاع الصّخور، وجعلِها على الجانبين الأيمن والأيسر، باتّجاه التّلة المقابلة لمعسكرهم، ما أفسح في المجال أمام مرور آلاتٍ جديدة راحت تمهّد الطّريق بشكل سيدهشُ الجميع، وسيتركهم في حالة استغراب وإرباك حقيقيّيَن طيلة فترة بعد الظهر الّتي بوشرت خلالها العملية، وفي مساء ذلك النّهار أيضاً.

أمّا المطلوب منهم منذ بداية شهر نيسان، فيمكن تلخيصه كالآتي، وقد تلاه أحد الجنود على شكل بيان مكتوب: الانطلاق فجراً من المعسكر باتّجاه الغابة الواقعة بعد منطقة السّهوب. قطْعُ أشجار الزّان السّامقة الثّقيلة الجذوع. قيامُ مجموعات منهم بنقلها إلى التّلة المشار إليها، والّتي مُهّدت الطّريق في سبيل بلوغها.

تنبّهَ جميع الأسرى العاملين على تنفيذ المهمة الجديدة، لحظة توزيع صحاف الطّعام، في الّليلة الأولى من ليالي شهر نيسان الجميل، إلى أمر خطير للغاية تمثّل في انخفاض عدد قطع الّلحم إلى قطعتين اثنتين فقط. حدثٌ طارئ أغاظ الجميع.

 في اليوم الثّاني، اختفت قطعة الّلحم الثّانية، فانتشرت همهاتٌ كثيرة، وانطلقت الشّرارات حادّة من العيون، أمّا في اليوم الثّالث فقد عمَّ الحزن الممزوج بالغضب الجميعَ، إذِ اختفت قطعة الّلحم الأخيرة من صحونهم، ما فجّر حناجرَ كثيرين منهم، فعلَت أصواتٌ ورُميت صحافٌ، وأُطلقت لعناتٌ محمومةٌ طالت كلّ الجنود، وكلّ من يقف خلف تصرّفهم الأرعن من مسؤولين.

استخدم الجنود المسؤولون، عن ضبط حركة الأسرى، كلّ مهاراتهم المعروفة في مجالَي التّرهيب والتّأديب من فصلٍ سريع وحاسم بين المتقاربين، صبّ المياه الباردة على الأرضية المتعفنة الرّطبة، إطلاق السّياط الحامية لاسعةً في كلّ اتّجاه، السّباب والصّراخ، ومحاولات رشّ البصاق الكثيف، والرّكل بأعقاب البنادق حتّى اختفى آخرُ صوتٍ معارض، وتظاهر الجميع باستقبال ملائكةِ النّوم منهكين.

إلاّ أنّ عاري لم ينم.

كانت المرّة الأولى الّتي استطاع فيها أن يشعر بكمّ هائل من الذّل والهوان – ذلّ وهوان جيل بل أجيال، من أفراد أسرته، أهينوا أوقتلوا في حروب سابقة، وحدّثه من نجا بتفاصيلها- لا سيّما بعد أن علقت عبارة الجندي الطّيب في أذنيه، وهو يحاول تهدئة الغاضبين، مؤكّداً لهم أنّ تغذيتهم بالّلحم ستُستأنف، بعد أن ينتهي العمّال الجدد من بناء قصر ” العميد” على التّلة المباركة، وأشار إلى حيث ينقلون بألمٍ مُمضّ، الأغصان الضّخمة والجذوع.

خطرت في باله فكرة همس بها، في أذن ألتون، بعد أن أيقظه. تمثّلت تلك الفكرة  في خطوة بسيطة جوهرها التّظاهر الجماعيّ بالنوم العميق، ورفض الذّهاب إلى الغابة عند الصّباح. وافقه ألتون ملوّحاً بيده الثّقيلة غاطاً في النّوم ثانية.

انطلقت الصّفارات المعتادة عند الخامسة متواليةً. اهتزت الأجساد بتململ، وارتفعت بعض الرّؤوس، إلاّ أنّ عاري راح يهمس بصوت كالفحيح:

–  لاقيامَ، لا عملَ، لا أشجارَ تُقطَعُ اليوم، ابقَوا نائمين.

 سرت همهمةٌ قوية بين الرّجال المدّدين على الأسرّة، ثمّ اختفت الأصوات وغرق المكان في سكون مُميت. وحدها الصّفارات بقيت تنطلق، في حدّة مبحوحة غاضبة، من سلوك الأسرى المشين!

انقضت فترة هدوء مريب بدا معه وكأنّ شيئاً خطيراً سيحدث، فخلال ثلاث ساعات، كانت أصوات أقدام ثقيلة تروح وتجيء بعنف، تطرق بحُنقٍ الأرضية الخشبيّة المرتفعة، عن مستوى الأرضية الرّطبة الّتي احتلتها أسرّة الرّجال.

روحٌ غريب مُفرِحٌ سرَى في المكان. شعر الأسرى للمرّة الأولى بالتّحدي، وبالقدرة على رفض الواقع الظّالم الّذي وُجدوا فيه. تشبّثوا بأسرّتهم، وراحوا يحيّون بابتسام “عاري” صاحب هذه الفكرة الرّائعة الّتي فرّجت عن غضبتهم.

 أحسّ عاري بالمسؤولية المباغتة الّتي ألقيت على عاتقه حيال فرح هؤلاء الرّجال، هل مسموح لهم حقّاً بقول “الّلا”، وبتقرير المصير؟

خيّل إلى المسمّرين على الأسرّة أنّ السّاعة سنة، وأنّ الدّقائق والثّواني جمرات لاسعات. كانت الأقدام الثّقيلة في حالة ذهاب وإياب مستمرّين، لكن لا كلام يُسمع، لا عبارات تُلقى، همهماتٌ وهدير وغضبٌ مكتوم. الغضبُ ينتقلُ في الجوّ كريح.

 مرّت ساعة، ساعتان، ساعتان ونصف السّاعة، أو ثلاث ساعات، هكذا قدّر “عاري”، عندما دُفع الباب الحديديّ الضّخم المُرتج مُصدراً صوتاً كئيباً ناعباً. تقدّمت أقدامٌ كثيرة، هكذا قدّروا جميعاً، لكنّها وقفت عند نقطة معينة، وحسناً فعلت، قبل أن تثب القلوب من بين الضّلوع.

 لهاثُ بعض الأنفاس صار ساخناً محروراً، وقدمان اثنتان فقط راحتا تتقدّمان بثقة وبهدوء من الأجساد المدّدة على الأسرّة. تتقدّمان وتقفان قليلاً، ثمّ تنتقلان بهدوء من ناحية إلى أخرى، ويبدو أنّ صاحبها هو من طلق صوته برقّة مصطنعة، متسائلاً بتهكّم فضح هويّته:

– حسناً ماذا تريدون أيّها الأبطال، قيل لي إنّكم مستاؤون من اختفاء قطع الّلحم من صحونكم، يا لها من مسألة بسيطة لا تستدعي طبعاً كلَّ هذا التّصرّف الأرعن من قبلكم. لذلك عليكم يا أصدقائي الصغار، لكي تكفّروا عن التّأخير الّذي تسببتم به، أن تتعجّلوا بالنّهوض الآن، فتسرعوا بالمغادرة إلى مراكزكم المحدّدة، حتّى تتمكّنوا من العودة، وتناول وجباتكم “الّلاحمة ” في موعدها، بعد أن تضاعفوا كمية الأخشاب الّتي تنقلونها كتعويض مهذّب من قبلكم.

–   لم نعد نريد الطّعام، نحن نريد الحرّية، أطلقوا سراحنا، وكفاكم استعباداً وإذلالاً لنا.

كان ذاك صوت ” عاري” الّذي فاجأه بخروجه من حنجرته بثقة، وعمق، وهدوء. أعلن عاري مطلبه، بعد أن انتصب واقفاً بسرعة، أمام آسريه.

وكسِحرٍ طائر في الفضاء، استنشق سائرُ الممدّدين عبير الشّجاعة الّتي فاحت من وقوف زميلهم، فانتصبوا جميعاً على أقدامهم الخشنة، وهدروا بصوتٍ واحد:

–   نعم، الحرّية، الحريّة، الحرّية، نحن نريد الحريّة أيّها المتوحشون، الحريّة أيّها المنافقون الّذين تأكلون أجسادنا أمام أعيننا، من أعطاكم الحقّ لتفعلوا بنا ما تفعلون، من، ومن، ومن…؟!

في الوقت الّذي استعدّ فيه الجنود لإطلاق الرّصاص متّخذين وضعيات التّأهب القصوى، أشار الضّابط بهدوء وبروية مبتسماً أمام الوجوه الغاضبة، الحاقدة، والخائفة في آن، ثمّ التفت إلى الأسرى قائلاً بلطافة وودّ:

-لا شكّ أنّكم تستحقون الحرّية، والرّاحة، والطّعام الفاخر كذلك، وستحظون حتماً بكلّ ما تريدون. هيّا لقد تعجّلتُ كعادتي – أنا إنسان متسرّع بالفعل- فطلبت منكم العودة إلى العمل اليوم، وأنتم بحاجة ماسّة إلى الرّاحة، لا بأس، لابأس، عودوا إلى أسرّتكم وارتاحوا جميعاً، ولن يزعجكم بعد الآن أحدٌ من هؤلاء الجنود الأجلاف.

انسحب الرّجل الّلزج بخفّة قِطّ، وهو ينظر إلى الرّجال الغاضبين. أشار بطرف عينيه إلى جنوده ففعلوا فعلَه، وغادروا جميعهم المكان بسرعة. انبعث صرير البوابة الحديدية مجدّداً، لكنّ صرير أعصاب الأسرى المذهولين كان أعلى وأشدّ هولاً وصخباً.

لم يعرفوا كيف انقضى ليلهم، وكانت فُلول الظّلام ما زالت في طريقها إلى الاندحار، عندما علا في باحة المعسكر خليطٌ هائل من الأصوات، احتاج الكثيرون منهم إلى التّركيز المطلق، عساهم يتمكّنون من معرفة حقيقة ما يجري في الخارج.

تمكّن عاري من تمييز أصوات إطارت شاحنة بطيئة ثقيلة، وأصوات بشريّة متنوّعة غريبة، إضافة إلى أصوات بعض المعدّات، إلاّ أنّ أصواتاً أخرى أثارت فضوله تماماً، فأرهف متفكّراً هل هي أصوات مواشٍ؟ أصوات أغنام، أبقار، خيول أم ماذا؟

في الفناء حركة قوائم تتوالى بعصبيّة، نعم، نعم هي خنخاتٌ وثغاء، هل هو ثغاء، لا ليس ثغاء، إنّه قُباع خنازير، عاري يعرف أصواتها جيّداً، وينفر منها منذ طفولته، يكرهُ ضجيجها، وقذاراتها، واعتداءاتها، بل هجوماتها المتتالية من حظيرة جارهم البخيل إلى حديقة منزلهم المتواضع.

 ارتعد من  هذه الأفكار، ربّما هو يتوهّم، لا، لا داعي للتّفكير، الأفضل أن ينتظر ويراقب كي يرى الحقيقة بدل أن يتوهّم. نظر إلى الرّجال المتهالكين من حوله، كان الجوع قارصاً قد استبدّ بأمعائهم الخاوية، فكادوا يصرخون بالرّجاء والدّعاء، لكن عاري طلب منهم الصّبر قليلاً: طريق الحرّية صعب وشاقّ وطويل، هكذا قال لهم بارتباك، وهم ما يزالون في يوم نضالهم الأوّل، لكن من قال لك إنّنا نريد أن نناضل، من قال إنّنا نريد الحرية؟ صرخ أحد الأسرى، وهو يتلوّى جرّاء عواء أمعائه.

انقضى النّهارُ قاسياً عصيبا،ً فقد امتلأ العنبر بضجيج تلك الخنازير السّعيدة بمقرّها الرّحب الجديد، وكانت خنخناتها وقفزها المتسارع على بعضها بعضاً، وأصواتها البغضية قد ملأت الأجواء، وقد أكّد لهم صديقهم الجندي الطّيب عصراً، ما استنتجوه خلال النّهار:

–  نعم، لقد أمر الضّابط المسؤول بإنشاء هذه الحظيرة أمام عنبركم بالظبط، ولن يسمح لكم بالطعام والشّراب والخروج إلاّ بإذنه.

قال عاري في نفسه: لابأس، لا بدّ من الصّبر والذّكاء لخوض هذه المعركة، لكنّه ابتسم بمرارة في دخيلته، عندما ذكّر نفسه “هذه المعركة غير المتكافئة بالأحرى”.

مرّ يومٌ عصيب ثانٍ أضيفت فيه إلى أصوات الخنازير روائح برازها وبولها. اتُّخذ حيال فضلاتها إجراء غريب، فقد جُمعت قرب البوابة الحديدية، وسُمعت خرخرة المياه تُصبّ فوقها، لتنساب تلك المياه من تحت حافة البوابة الضخمة مالئة العنبرَ، بروائح كريهة غريبة تفجّر الأنوف، والرّؤوس، والصّدور.

 ازداد التّململ والحقد على الضّابط الشّرير حيناً، وعلى الجوع الماحق حينا،ً وعلى ” عاري” المتمرّد في أغلب الأحايين، فتجرّأ أحدهم، وصفعه بحقد، وهم يتشاورون في شأنهم قائلاً له بلؤم:

–  كنت أفضّل استنشاق روائح الغابة، وعطورأغصانها الطرّية الهشة، على استنشاق روائح الخنازير الّتي تشبهك أيّها المتمرّد الّلعين.

في اليوم الرّابع اجتمع أربعة منهم، فتشاوروا، وتهامسوا طويلاً، ثمّ راحوا يطرقون البوابة بعنف طالبين الطّعام، والخروج إلى العمل في الغابة، لكنّ أصواتهم ضاعت تماماً وسط خرخرات الخنازير.

كرّروا، في اليوم الخامس، هتافاتهم، بعد أن انضم آخرون إلى الصّارخين دونما جدوى، صاروا يصرخون وهم ينظرون إلى عاري بحقد ظاهر يطلّ من الأنفاس ومن العيون، بعد أن أخبرهم صديقهم الجندي “ما هو المطلوب” بوضوح :

–  اعتذار حقيقي وصادق وعميق، من صديقهم عاري، دون سواه يقدّمه إلى الضّابط المسؤول أمام كلّ الموجودين.

في اليوم السّابع، فُتح بابٌ جانبيٌ في الجدار الغربيّ من العنبر الكبير، لم يكونوا قد تبّينوه قبل ذلك أبداً، ثمّ وُضع برميل كبير فاحت منه رائحة تشي ببعض الطعام، وألقيت باستهانة صحاف وملاعق وكميات من الخبز البائت على الأرضيّة الرّطبة الملوّثة بالجراثيم!

 سارع معظمهم إلى ملء صحنه بعد إغلاق الباب، كذلك سارعوا إلى بصق ما تناولوه بسرعة، بمجرد أن تذوّقوه. لقد كان خليطاً من ماء وأعشاب وأملاح. لكنهم عادوا إلى محاولات الابتلاع والاستساغة، ولو توهماً، لنَسَم طعام ما.

كان عاري ينظر إليهم خائر القوى، تنتابه أحاسيس غريبة مضطربة يريد إنقاذهم مما زجّ نفسه وإيّاهم في أتونه، لكنّه يشعر، في الوقت عينه، بالفخر والفرح العميق لأنه احترم إنسانيته وتمرّد على جلاّديه، في يوم من الأيّام، وسأل نفسه في صمته أكثر من مرّة:

– من الّذي يصنع الجلاّدين والأقوياء؟  ما الّذي يغذّيهم سوى الانهزام والضّعف؟

اقترب منه ألتون، وقدّم إليه صحناً ممتلئاً ممّا قدّموه، لم يجرؤ على تصنيف المحتوى، رائحته دفعته إلى القيء، رائحة روث الخنازير الممجزوجة بالبول والماء والخوف، يا ربّ السّموات هل تسمع قلبي الحزين؟  ازدادت نظرات الحقد الموجّهة إليه عمقاً، والعيون تفاقمت شراستها.

اختلطت الرّوائح القذرة السّابقة بروائح الفضلات البشرية، بعد إصابة بعض الّذين تناولوا ما في صحافهم، بإسهال شديد. صار جوّ المكان مشحوناً بشكلٍ بغيض.

في اليوم الثّامن مات أوّل الأسرى عند السّعة الحادية عشرة. لم يتحمّل جسده نزف المياه، ومات آخر عند حلول الظّلام.

 وقف عاري، في اليوم التّاسع، متداعياً أمام البوابة الجانبية، كلّ ما فيه يسيل. راح يخبط على البوابة الحديدية، والصّدى العنيف يرجّ جدران قلبه المترع؛ يخبط بقبضتيه الواهنتين، وصوته يردّد غصباً عنه:

– افتحوا الباب أرجوكم افتحوه، وسأتلو صلوات اعتذاري عن طِلابِ الحرية أمامكم، سأتلوها أمام الرّب، وأمام البشر أجمعين. ثمّ راح يخرخر كخنزيرٍ بريّ عنيد، ويطرق الباب برأسه مراراً معلناً: سأكون خنزيراً إذا أردتم، سأكون لكم ما تريدون!

أمام النّافذة الزّجاجيّة العريضة الكائنة في الطّابق العلويّ المشرف على عنبر الأسرى، جلس الضّابط المسؤول مبتسماً في انتصار ونشوة جليَين. حرّك قلماً، رفع زجاجة، وارتشف قطرةً من كأس كريستاليّ قديم. تنفّس بارتياح وعمق، نظر إلى الجنديّ المنتصب إلى يمينه يراقب، بطرف خفي، المشهد الكائن في العنبر السّفليّ؛ نظرّ إليه ملياً هازّاً رأسه المرّة تلو الأخرى، كسحليّة ضخمة تستمتع بأشعة الشمس بعد يومٍ ماطر سخي، ثمَّ قال له بفرحٍ طفوليّ لم يستطع كبحه:

–  التّرويضُ فنٌّ عظيم أيّها الجندي الوَفي، التّرويض…يا له من فنّ عظيم!

(13 تموز 2020)

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *