مِحْنَةُ العـالِـمِ مع أهـل زمانه

Views: 319

ماجد الدرويش

 

مهداةٌ إلى صاحب السماحة مفتي طرابلس والشمال السابق الدكتور الشيخ العلامة مالك الشعار

حفظه الله تعالى

 

من هو العالم ؟

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى: «ليس العالم من كَـوَّرَ عِمامته، وعرَّضَ لحيته، وأطال سبَّحَته، بل العالم من قرأ كثيرًا، وفهم ما قرأ، وعقَل ما فهِم، وعمِل بما فهم » ثم يقول رحمه الله تعالى: «ومن صفات العالم: احتمالُ النقد، وردُّ الحجة بمثلها، والبعدُ عن السَّفَهِ، والتنزُّهُ عن التزلُّفِ إلى العامّةِ بالحشْويات، والأمراءِ بالنفاق »

مثل هذه الشخصيات التي وصفها الشيخ الطنطاوي رحمه الله تعالى لا تروق للعامة التي تحركها الغرائز أكثر من الشريعة وأحكامها، حتى اشتهر قول العقلاء (العامة عمى)، وحتى ملَّ العلماءُ تصرفاتهم، فعبر بلسانهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى، قائلا: «لو أن العامة عبيدي لأعتقتهم وتبرأت من ولائهم». وما أصدق هذه الكلمة التي جاءت في رواية (قبل الجنون بقليل): «العامة أعمى يقوده مبصرون يتسترون وراء عناوين أخلاقية كبرى، إذا خالفت الأعمى صرت مارقا، فحق عليك القتل أو السجن أو النفي». 

 

وما نراه ونقرؤه ونسمعه من بعض من يُحسب على الدين بحق صاحب السماحة حفظه الله تعالى، ليس له تفسير غير الحسد الذي هو تمني زوالَ النعمة عن المحسود وانتقالهَا إلى الحاسد، وهذا نجده عند البعض من أصحاب المهن المتشاكلة، ومنها مهنة (المشيخة)، إذ هي اليوم أقربُ إلى مهنةٍ مبنيةٍ على تخصص علمي (شهاده)، مثلُها مثلُ سائر الاختصاصات، وهذا شيءٌ غيرُ العلم، فإنك تجد العالمَ الفذَّ الـمُقَدَّمَ وليس بالضرورةِ أن يكون شيخًا حاملا للشهادة الشرعية. وتجد الشيخَ الحامل للشهادة الشرعية الـمُقدَّمَ في قومه وليس بالضرورة أن يكون عالما. وتجد الشيخَ العالمَ الذي جمعَ الله تعالى له الأمرين، فهذا في غالب أحيانه يعيش محسودًا، وبالأخص إذا آتاه الله تعالى مالا وجاها، فيتوجه الحسدُ إليه من شركائه في التخصص، ومن المقدَّمين في المجتمع، وغالبُهم من الساسة، فكل فريق يجد أن هذا العالـِمَ الشيخَ ذا الجاهِ والكلمةِ المسموعةِ، والمكانةِ المرموقةِ، قد سدَّ عليه طريق التقدُّم والوصول، وهذا الظنُّ هو إلى الاعتراضِ على أقدار الله تعالى و قِسمتِه الأرزاقَ والأخلاقَ بين الناس أقربُ منه إلى الحسد ..

بل ربما أُلبِس التهجُّم على العالِـم لباس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما هو على الحقيقة إلا «حبُّ الرئاسة الدينية، فهذا داء خفي سار في نفوس الفقهاء» على ما قاله الحافظ الذهبي في ترجمة الإمام ابن حزم في كتابه (سير أعلام النبلاء) رحمهما الله تعالى. 

ويوم شقَّ الإمام أبو حنيفةَ طريقَ الفقه، وفتح بابه بعد أن كان قِـفْلًا، نالته سهامُ بعض علماء عصره الذين لم يدركوا قيمة ما جاء به، والذين كانوا يركنون إلى الأخبار التي تأتيهم من بعض طَلَبَةِ العلم الذين يفترون على الإمام أبي حنيفة، فكان هؤلاء العلماء ينالون منه غيابيًا دون معرفة مباشرة، ودون التثبت مما وصلهم من اتهامات باطلة في حقه، حتى إذا قُدِّرَ لهم التعرفُ به، والكلامُ معه، اعترفوا بأنهم كانوا مخطئين في حقه، وهذا ما حصل مع الإمامين الأوزاعيِّ ومالكٍ، رحمهما الله تعالى، وأخبار ذلك مشهورةٌ، حتى إن إمامًا مثل عبد الله بن المبارك، وهو من تلاميذ أبي حنيفة والأوزاعي، كان يقول: «إذا سمعتهم ينالون من أبي حنيفة خشيتُ عليهم المقتَ من الله»، وما ذلك إلا من شدَّةِ ما كان يقال في حقه من افتراء.

هذا أنموذج عن محنة العالم الذي جاء وصفه في كلام الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى مع بعض أهل عصره، ومنهم علماء، فما بالكم عندما يكون المتقولون عوامَّ جُهلاء؟ 

حينها نردد مع الإمام محمد بن الحسن الشيباني: «العامّةُ عمى، ولو أنَّ العامّةَ عبيدي لأعتقتهم وتبرَّأتُ من ولائهم».

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *