صلاة أخرى من فم كاهن الروح

Views: 563

 كلود ناصيف حرب

(سيدني)

 

1-  نصّ “امرأتان” لجميل الدويهي:

دخل جنود أعداء إلى قرية بعد حصار طويل، فانتقموا من سكانها، وقتلوا كثيرين منهم، وأحرقوا البيوت، وأتلفوا الزرع.

وألقى نفر منهم القبض على امرأتين… فهدّدوا الأولى بالموت إذا لم ترضَ بالمذلّة، وتسلّم جسدها إليهم طائعة… ولمّا رفضت أطلقوا النار عليها، فخرّت صريعة… أمّا الثانية، فخافت على حياتها، وفضّلت المهانة على الموت. وقبل أن يغادر الجنود، أفرغ أحدهم الرصاص في جسدها، فسقطت جثّة بجانب أختها… وإلى اليوم، ما زال في تلك القرية البعيدة قبران متجاوران، واحد مكتوب عليه: هنا ترقد امرأة ماتت من الخوف، والآخر مكتوب عليه: هنا تحيا امرأة وُلدت من الشجاعة.

 

 

 

 2- مطالعة الأديبة كلود ناصيف حرب:

قرأت باهتمام وشغف نصّ “امرأتان” للأديب اللبنانيّ المهجريّ الكبير الدكتور جميل الدويهي. والنصّ كناية عن قصّة قصيرة جداً، ومعبّرة جداً، وتثبت أنّ الأديب لا يحتاج إلى كثير من الكلام ليقول ما يريد، بل يمكنه بالقليل أن يعبّر عن عالم كبير، فيصبح النصّ هو الواقع كلّه، بما فيه، وبمَن فيه أيضاً.

امرأتان متناقضتان تؤكّدان هويّة الدويهي المفكّر الذي نقل الأدب المهجري من طبيعته الشعريّة إلى طبيعة جديدة تقوم على التوازن بين الشعر والنثر، فهو يعتبر أنّ أيّ حركة ثقافيّة لا يمكن أن تحلّق بجناح واحد.  ويقول إنّ العاطفة تجاه أيّ نوع من الشعر ليست الفيصل الذي يحدّد مصير الأدب والثقافة، وبالتالي لا يمكن الرضوخ لمنطق العاطفة عندما يتعلّق الأمر بنهضة أدبيّة في بلاد الاغتراب، على الرغم من أنّ غالبيّة المغتربين يعشقون الشعر المحكيّ ويفضّلونه على أيّ نوع آخر من أنواع الإبداع.

 ومن جهة أخرى، فإنّ الأقصوصة ذاتها تبيّن مرّة أخرى مواقف الدويهي من قضايا أساسيّة، منها دور المرأة في المجتمع، وحرّيّة الإنسان. فهو يتطرّق بصورة غير مباشرة إلى هاتين القيمتين، المرأة والحرّيّة. فالجنود الذين يدخلون إلى القرية، ويقتلون الناس، ويحرقون المحاصيل، ويهدمون البيوت، ويلقون القبض على المرأتين هم أعداء الحرّيّة التي يحبّها الدويهي وقد كتب عنها الكثير: ففي معبد الروح (العظة 15) يخاطب امرأة فيقول: “لتكن لك كرامة، فالموت على حدّ السيف أفضل من الحياة على حدود الهزيمة”. وفي العظة 25 يقول: “الحرّيّة نقيض الموت. لها الكواكب المضيئة، وله عتمة القبور، لها حفيف الشجر وله الخريف العاري”. وفي العظة 35 دعوة إلى الحرّيّة: “الحرّيّة تدعوكم إلى غلالها، والربيع يعطيكم مرايا العبير، فخذوا من صباحه أثواباً، ومن السماء خبز التقدمة، وخذوا الزهرة إلى حقلها، والينبوع إلى صوته… إنّ الذي يمنعكم عن الحرّيّة هو الخوف، ولكي تنتصروا على هذا العدوّ المتربّص بكم، اصنعوا سيوفاً من نار، ورماحاً من لهيب، واطعنوه في الصميم”.

 وكم كتب جميل عن الحرّيّة في نثره وشعره! وها هو يرسم لنا حادثة لا تنفصل عن موضوع الحرّيّة، فالقرية التي تعرّضت لاعتداء من الجنود هي صورة لأوطان كثيرة خضعت للاحتلالات من قوى خارجيّة غاشمة، والمرأتان بطلتا القصّة هما رمزان للشعوب المقهورة التي يتمّ إذلالها بقوّة السلاح، واستضعافها من جانب الأقوى والأكثر فتكاً وعنفاً. امرأتان ضعيفتان، لماذا؟ لأنهما لا تملكان القوّة المادّيّة التي تدفع الشرّ عنهما. وقد نجح الدويهي في تصويرهما تصويراً حيّاً وهما في حالة الضعف هذه، وفي عدم قدرتهما على الدفاع عن نفسيهما… ولا يبقى سوى الروح التي تقاوم أو لا تقاوم، تضعف أو لا تضعف.

وكانت لكلّ امرأة منهما روح مختلفة عن الأخرى، في استجابتها لقدر مفروض. فواحدة منهما ذات روح استسلاميّة، متخاذلة، فما إن سمعت الجنود يهدّدونها بالقتل، إذا لم تسلّم نفسها لهم، حتّى أخذت جانب السلامة، وأعطتهم كلّ ما لديها من جسد لكي ينالوا منه ويطفئوا فيه شهواتهم. أمّا المرأة الأخرى، فكانت أقوى، وكانت روحها أعظم من الخوف، فقد فضّلت الموت على أن تضحّي بحرّيّتها تحت تهديد السلاح وتفوّق الأقوى. وتساوت المرأتان بالموت عندما خدع الجنود المرأة الخائفة وقتلوها، كما قتلوا الشجاعة الرافضة لأوامرهم. فخديعة الجنود واحدة، لكنّ الموت غير واحد. هناك موت جبان وموت شجاع، والاختلاف في طريقة الموت وطبيعته هو جوهر الأقصوصة الدويهيّة، حيث أنّ المرأة التي أهرقت جسدها ودمها هي الأمّ – الأمَة المتخاذلة، والمرأة المتمرّدة هي الأمّ – الأمّة الكريمة، بل هي مثال رائع عن أمم أحرقت نفسها لكي لا تذوق المهانة ومرارة الاستعباد.

 وخاتمة القصّة هي من ابتكار الأديب والمخرج السينمائيّ في وقت واحد. فكم هو رهيب ومعبّر أن يمرّ المرء بجانب قبرين، أحدهما مكتوب عليه: “هنا ترقد امرأة ماتت من الخوف”، والثاني مكتوب عليه: “هنا تحيا امرأة ولدت من الشجاعة”!… ترقد وتحيا، ماتت وولدت، الخوف والشجاعة. ثلاث حالات متعارضة في نهاية صادمة. والصدمة لا تحدث بالموت فقط، بل بعدَه بزمن طويل، حيث تكون المرأتان شاهدتين وشهيدتين في الصراع بين الحرّيّة والعبوديّة. وهكذا يبدو أنّ القصة ليست للترفيه، بل هي لهدف أبعد، يريد أن يضيء عليه الأديب الدويهي، وهو معروف باحترامه للإنسان، بغضّ النظر عن جنسه ودينه ووطنه. ومعروف عنه أيضاً احترامه للمرأة، ففي كتابه الفكريّ “تأمّلات من صفاء الروح” كتب نصّاً بعنوان “غبيّ من يقول إنّها كذلك”، والعنوان هذا يبْرز فكر الدويهي المنادي بالمساواة في نظرة المجتمع إلى المرأة والرجل، فإذا أخطآ يخطئان معاً.

وفي نصّ آخر في “تأمّلات من صفاء الروح” بعنوان “راقصة المعبد” يدعو راقصة من الهند لترقص في المعبد، وعندما يتعجّب التلاميذ يقول لهم: “لا تستطيع الراقصة أن تقتلع جسدها وترمي به في الغياهب، فاقلعوا أنتم شهواتكم”. هذا هو الدويهي المفكّر الذي يسابق في أفكاره ويسبق، وقد أراد في نصّ “امرأتان” أن يبرهن خلود المرأة التي عجز الموت عنها وانكفأ ذليلاً أمام جبروتها وإرادتها. أليس الدويهي هو القائل: “تستطيع العاصفة أن تقتلع الأشجار من أصولها، وأن تحجب الشمس وراء الغيوم، لكنّها لا تستطيع أن تقتل الأرواح التي تخرج من قشورها عارية وتقتحم الوجود”؟ (تأمّلات من صفاء الروح – ص 28) لقد خرجت المرأة العظيمة من قشور الجسد عندما ضربتها عاصفة الموت. واقتحمت بموتها الحياة، وكانت ولادتها وخلودها في موتها. وهنا تنتهي صلاة أخرى من فم كاهن الروح، ويا له من عبقريّ في معبد للعبقريّة!

 

***

(*) المطالعة  منشورة  في كتاب  “رؤى في فكر جميل الدويهي كتبوا في هكئا حدثتني الروح” بأقلام نخبة من الأساتذة للدكتور جميل الدويهي الصادر حديثًا عن مشروع  أفكار اغترابية- سيدني

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *