في شِعر وديع سعادة نتنشّقُ عبيرَ المخلوقات ونتنفّسُ حضورَ الغائبين

Views: 106

مارلين سعاده

في بداية انطلاقتي الأدبيّة عام 2013، ظنّ كثيرون أنّني ابنة الشاعر وديع سعادة، فحظيت بنعمة هذا الاسم مرّتين. 

لا شكّ، كان هذا الأمر مبعث فخرٍ لي، ولكن، لم أشأ أن يظنَّ الناس أنّني أروّج لنفسي من خلال ربط اسمي باسم شاعرٍ كبير؛ لذا، وعملًا بنصيحة الإعلامي الصديق جورج طرابلسي، الذي شكوت له من هذا الإرباك الحاصل، اكتفيت بكتابة اسمي من دون ذكر اسم والدي الذي أعتزّ به وأفتخر. 

ولكن، أنّى لي أن أتغاضى عن فكر وديع سعادة الشاعر، لا سيّما أنّه ابن “شبطين” من بلاد البترون، جارة قريتي “العلالي”؟ فكنت أتابع أخباره متابعةً خجولة من مقيم لمغترب، إلى أن ناداني طيفه لإيقاف الوقت وتذليل المسافات، ومراسلته حيث هو، في أستراليا… ولم تمرّ دقائق على رسالتي حتّى وصلني صوته عبر الهاتف ليؤكّد لي أنّه يسكن حيث لا حدود ولا مسافات، ويُدخلني، بلمحةٍ، عالمَه الشعريّ الفريد! هو القائل في حوار له عام 2014، عبر قناة “الميادين”، مع الإعلامي والشاعر زاهي وهبي، ضمن حلقةٍ من برنامجه “بيت القصيد”: “الوطنُ هو حيث نجدُ الراحة؛ والمكان، عمومًا، ليس مساحةً جغرافيّة، هو مساحةٌ في داخلنا، نأخذه معنا أينما كنّا؛ ووطنُ الشاعر الوحيد لغتُه”.

 

لقد ارتحلْتُ إلى عالم وديع سعادة عفوَ الخاطر، مبحرةً في اجوائه الرحبة المتفلّتة من قيود الزمان والمكان، الغارقة في سكون الذات وهي تستكشفُ ذاتَها ومحيطَها، وتتلو مزاميرَها مناجيةً الكون كما تراه على حقيقته، لا كما يصوّره لها العالَم المادّيّ. فتجلّى عالمه أمام ناظريَّ ساطعًا مضيئًا، كاشفًا عن نفسٍ مرهفة الحسّ، تبحث عن حقيقة وجودها المغمّس بالغربة المشوبة بالشجَن، والتوق لكلّ غائب؛ فقصائد وديع سعادة مشبعة بوجع الرحيل، هو المهاجر أبدًا بين وطنَيْن، يسكنان وجدانه ويهيمنان على لغته.

في قصيدته “مِثْل ظنون” يقول وديع سعادة: “ظَنَّ الترابَ غيماً سقطَ ويبسَ محتفظاً من الفضاء بلهاثِ ناسٍ كانوا يعبرون في صحارى حارقة. ظنَّ الشجرَ أياديَ دُفنت تحت التراب في حروبٍ قديمة، والعشبَ كلماتٍ كان القتلى يريدون قولها وهم يحتضرون. ظنَّ العصافيرَ نظراتِ موتى تبحث عن عيونها والأحجارَ رؤوسًا تبحث عن أجسادها، وظنَّ ما يظنُّه ظنونًا”.

 

نتعرّف من خلال قصائد وديع سعادة إلى “أناه” المتعانقة مع الكون، فنتنشّقُ معه عبيرَ المخلوقات ونتنفّسُ حضورَ الغائبين. فلنسمعه يقول:

“النسائمُ التي مرّت في رئتَيْه كانت لها أسماء…

أمكنةٌ كثيرةٌ في رئتيه وناس كثيرون

دخلوا مع الهواء ثمّ غابوا

وما تنفّسه كان غيابَهم

ما في صدره كان رئات العابرين ولم يكن يتنفّس الهواء بل العبور”.

 

كلّ هذا التماهي، وهذا الاتّحاد الكامل بالآخر وبالوجود، كلّ هذا الانعتاق، تُجسّده كلمات وديع سعادة الشعريّة، وكأنّها تخلقه من جديد؛ تبثّه حياةً جديدة إذ تقذفه في عمقِ كياننا، فيولِّد فينا نبْضًا جديدًا يمنحنا النشوة والفرح بولادةٍ موعودةٍ لعالمٍ جديد، أكثرَ جمالًا، وأصدقَ بوْحًا، وأعمقَ أثرًا ممّا كنّا لنعاينه في عالمٍ خالٍ من مثل هذا الفكر وهذه الكلمات! 

كلماتُه تجسّد هذا التوق الذي يتملّكنا للاتّحاد بالوجود، ليس أيُّ وجود، وإنّما الوجود المفعم بالخير والجمال والنقاء والصفاء؛ الوجود المزيَّن ببقعٍ بيضاء، لا حمراء… السابحُ في فضاءاتٍ من الضياء، حدودها المدى المعقودُ بأجنحة ملائكة السلام، السلام الذي نتوق إليه، وتفتقده أرضنا العطشى للحبّ، التائهة في صحارى الموت.

***

* “النهار”

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *