نصري شمس الدين… عاش على المسرح ومات على المسرح وظلّ صوته معلّقاً في سماء لبنان

Views: 1373

سليمان بختي

مرت في 18 آذار الماضي الذكرى الـ37 لوفاة نصري شمس الدين (1927-1983). نجم الأغنية الفولكلورية في لبنان والمطرب والممثل المسرحي الذي ترك أكثر من 500 أغنية بين موّال ودبكات وعاطفية ووطنية وثنائيات. وشارك في مجمل أعمال الرحابنة المسرحية والسينمائية والتلفزيونية والاذاعية. وقع على المسرح عن 56 عاماً وهو في عزّ العطاء.

ولد نصر الدين مصطفى شمس الدين في بلدة جون عام 1927 وسط قرية محوطة بجمال طبيعي أخّاذ ومزنّرة بنهر بسري. كانت والدته تتمتع بصوت جميل ولاحظت في نصري الطفل حبّه وعشقه للغناء، فأهدته عوداً ليتمرّن ويصقل موهبته. وحتى في مرحلته الدراسية الابتدائية كان يغني لرفاقه في المدرسة ويحيي أعراس القرية حتى استحقّ لقب “مطرب الضيعة”. كان نصري في التاسعة من عمره عندما غنّى في ساحة المدرسة في حفل التخرّج أمام جمهور كبير يتقدمه رئيس وزراء لبنان الأسبق أحمد الداعوق.

 

انتقل نصري لمتابعة دراسته الثانوية في مدرسة المقاصد – صيدا. أنهى دراسته الثانوية وتفرغ لاحقاً لتدريس مادة الأدب العربي لطلاب الثانوي ولم يتجاوز الثامنة عشرة. وذات مرة توجه مدير المدرسة إلى أحد الصفوف بعدما وصل إلى مسمعه صوت غناء جميل. ليكتشف أن مدرّس اللغة العربية يحمل العود ويغني للطلاب موّال “غير شكل” لنصري في الصف. لم يخف المدير اعجابه بصوت المدرّس الشاب الموهوب ولكن خيّره بين التدريس أو الغناء والموسيقى فاختار ما يهواه القلب.

هكذا كانت بداية شروق نجم نصري في عالم الفن والغناء والطرب وفي مسيرة الأغنية اللبنانية والعربية. نزل إلى بيروت وتعرف إلى شركة “نحاس فيلم” ووقّع معهم عقداً ورافقهم إلى مصر عام 1949. ويؤكد الباحث محمود زيباوي أن العقد لم ينفذ فالتحق نصري بفرقة اسماعيل ياسين.

بقي عامين ولم يحرز تقدّماً فسافر إلى بلجيكا لمتابعة دراسته الموسيقية وعاد إلى لبنان. ولما كان مجال العمل في الموسيقى ضيقاً في لبنان اضطرّ للعمل موظفاً في البريد والهاتف في بيروت. ذات مرة، وبالصدفة، كان عائداً متعباً من عمله ورأى إعلاناً لاذاعة الشرق الأدنى يطلب التعاقد مع أصحاب المواهب فتوجّه رأساً إلى دار الإذاعة ووقف أمام اللجنة المؤلفة من عاصي ومنصور رحباني وعبد الغني شعبان وحليم الرومي. وقع خيار عاصي ومنصور عليه ليكون ركناً من أركان المسرح الرحباني ولينطلق معهم في مجمل اعمالهم منذ العام 1957 وحتى 1981 ودخل مباشرة في استكشات إذاعية “سبع ومخول وبو فارس” بدور “نصري بو دربكة”.

 

 أطلق عليه عاصي اسمه الفني “نصري شمس الدين”، وراهن عليه صوتاً شرقياً اوبرالياً أصيلاً وقوياً وحنوناً ينتقل بسهولة ويسر بين المقامات. وبقي معهم الصوت الذكوري الأول المعادل لبطولة فيروز والمحاور الأول في الثنائيات التي جمعتهما وشاركها في ادوار رئيسية بالمسرح والسينما والاذاعة والتلفزيون. نصري الظلّ والصدى والاصل والصوت والمدى. وأكمل مشواره مع الرحابنة بأعمال مسرحية مشهودة في بعلبك والأرز وبيت الدين ومسرح البيكاديللي ومعرض دمشق الدولي وفي جولاتهم العربية والعالمية.

لعب في المسرح الرحباني أدواراً متعددة ومختلفة ومقنعة ولم يهبط أبداً عن أبعاد الشخصية وحدودها بل كان يرفعها بحيويته وحضوره ويغنيها ويثريها. لعب دور المختار ورئيس البلدية والأمير فخر الدين (ذات مرة أثناء تقديمه مسرحة “أيام فخر الدين” 1966 شاهده منصور الرحباني بعد انتهاء دوره يمشي في ممر طويل لوحده، فقال: “اتركوه لنصري بعده ساكن الأمير…” ولعب دور الملك والناطور والمتصرّف والمختار والحارس والبويجي والجدّ والأب والخال والوزير وشيخ الصلح والوزير والمستشار والأمير.

 

هو احد ثلاثي أجمل سهرة مصالحة في تاريخ الغناء وفي لبنان مع فيروز ووديع الصافي في “قصيدة حب” بعلبك 1973. كما شارك صباح ونجاح سلام ومجدلا في مهرجانات بعلبك وجبيل وبيت الدين ولثلاثة عقود ومشاركاً في كل المسرحيات والأفلام التي قدمها الرحابنة منذ “أيام الحصاد” (1957) و”المحاكمة” (1959) و”موسم العزّ” مع صباح ووديع الصافي (1960) و”جسر القمر” (1962) البعلبكية و”عودة العسكر” (1963) و”الليل والقنديل” (1963) و”بياع الخواتم”- مسرحية وفيلم – (1964) و”دواليب الهوا” مع صباح (1965) و”أيام فخر الدين” (1966) و”هالة والملك” (1967) و”الشخص” (1968) و”جبال الصوان” (1969) و”يعيش يعيش” (1970) و”صح النوم” (1971) و”ناس من ورق” (1972). وفي تلك المسرحية غنى نصري أهزوجة للأخوين الرحباني يقول فيها: “جون، جون بلدي، بتعطيك زيت وزيتون، الله ع الزيت والزيتون، بلد الحبايب جون، وأنا مسوكر نايب، ربينا بفياتك وقطفنا زيتوناتك، وهلق بدي إترشح، وترشيحي مضمون”. و”ناطورة المفاتيح” (1972) و”قصيدة حب” (1973) و”المحطة” (1973) و”لولو” (1974) و”ميس الريم” (1975) و”بترا” (1977) وقدم “الشخص” ثانية مع رونزى وعرضت في الأردن عام 1980 وشارك أيضاً في افلام “بياع الخواتم” و”سفر برلك” و”بنت الحارس”، ومع صباح في “كواكب” و”ليالي الشرق”، كما اشترك معها ومع وليد غلمية في مهرجان الوهم- جبيل. كما درج نصري شمس الدين على أن يقدم كل سنة مهرجانات بيت الدين مع فرقة جون للرقص الشعبي. وكذلك شارك مع الرحابنة في البرامج التلفزيونية والاذاعية مثل “ضيعة الأغاني” (1966) و”دفاتر الليل” (1968) و”مع الحكايات” و”ليلة الهدايا”، و”سهرة حب”، “قسمة ونصيب” و”ليالي السعد” وغيرها..

استطاع نصري شمس الدين أن يحقق من خلال هذه الأعمال حضوراً راسخاً ونجاحاً باهراً في مسيرته، غناءً وتمثيلاً وقوة حضور (character) ويعود السبب إلى قوة موهبته وصقلها بالدراسة والى حدسه، وفي حدّة تعبيره عن مضامين عاشها واختبرها وتشرّب قيمها في القرية والريف. وعبّر عن شخصية ابن القرية لابساً الشروال والطربوش ودامجاً تراث القرية اللبنانية بهوية الأغنية الفلكلورية والشعبية شكلاً ومضموناً.

 

ارتبطت أغانيه بالأرض والطبيعة والحب والناس والاسماء وأجواء الريف وعاداته وتقاليده. ومع أغاني نصري شمس الدين رحنا نشرب من العين ونمرق على الطواحين ونقطف وردة حمراء ونطوف بالساحة واجواء الصيد. ونردّد معه “عم تغزل عم تغزل تحت التينة/ وعلى جرش البرغل وتلاقيني”. و”هدوني هدوني عينيها سحروني” و”نقلة نقلة” و”طلوا طلوا الصيادي” و”يا ظريف الطول” و”منتزاعل ومنرضى” و”وين بدك وين نتلاقى” وغيرها.

ولعلّ نصري لا يكتفي بأن يغني هذه الأجواء بل يضعها وينقلها ويتفاعل معها  صادقاً وبصوت قوي وعذب وأخّاذ وغامر.

استمرّ نصري شمس الدين مع الاخوين الرحباني حتى عام 1981 وكان آخر أعماله معهم برنامج تلفزيوني صوّر في الأردن بعنوان “ساعة وغنية”. ولكن لماذا انفصل عنهم وما سبب الخلافات؟

في نهاية السبعينيات صرّح نصري: “أن الاخوين رحباني أحياناً لا يسندان إليّ الدور الذي يناسبني ويناسب تاريخي الطويل معهم”. ويضيف “ومع ذلك كنت أرضى بالمسرح الغنائي وبالسيدة فيروز وبجمهوري وبالمستوى الجميل الذي كان يلازم اعمالهما الفنية والمسرحية وكنت أحب أن تنجح المسرحية قبل أن أنجح أنا”.

 

ولا أزال اذكر في حوار اذاعي مع نصري شمس الدين وقبل سنتين من وفاته وتحدث عن انفصاله عن مسرح الاخوين رحباني. وكانت مداخلة من منصور لرأب الصدع قال فيها: “نصري يتمتع بكفاءات فنية عالية وفي غنائه على المسرح عظمة وهيبة… وهو كمان رفيق مشاوير الصيد على نهر بسري”. أجاب نصري على الهواء: “خلص وقع الطربوش يا منصور”.

راح يغني منفرداً وقدم مجموعة أغاني ضمن ألبوم “الطربوش” في إشارة إلى فكّ الارتباط مع الرحابنة، وكما تقول الأغنية: “دقينا ما ردّوش/ اهدينا ما اهتموش/ خلوني في العالي العالي/ ارمي ارمي ارمي هالطربوش”.

 استمرّ يغني في الملاهي وأثناء غنائه في نادي الشرق بدمشق وافته المنيّة على المسرح، وهذه كانت أمنيته. أرسل جثمانه ليلاً إلى بلدته جون في سيارة أجرة برفقة أحد أقربائه.

 

ترك نصري شمس الدين إرثاً ضخماً من الأغاني نذكر منها: على مهلك، الله كريم، الشال، بحلفك يا طير بالفرقة، الطربوش، جينا عالدار، حيّدو الحبايب، خبروني عصافير الدار، سهران عالطاقة، سعدية، شهدي يا بيوت، عالاوف مشعل، عالعيم عالعمام، على عين الميّه يا سمرا، عالعالي الدار، عالهوب، كيف حالهن، ليلى دخل عيونها، لبنان أحلى من الحلى، منقول خلصنا، ما اصعبك عالقلب يا يوم السفر، مين قال ما كمشنا القمر ع جبالنا، يا ظريف الطول، يم الاساور، يم الزنّار، يمّ الجدايل، يا طير الشوق. وعدا المحاورات مع فيروز مثل (وك يا جدي يا بو ديب) واغنية “يوم ويومين وجمعة” وغيرها، ومع وديع الصافي ومع صباح (لمين اشتكي همومي والدلعون) ومع مجدلا (عدو العتاب) ومع نجاح سلام (يا نصري يا حبيبي وساعات الهوى) (1955) ومع نوال الكك (بويا بويا).

أغلب أغاني نصري كانت من تأليف وتلحين الاخوين رحباني إلا انه تعامل مع غيرهم أيضاً من الملحنين والمؤلفين. فمثلاً لحّن له فيلمون وهبي (عم تغزل) و(بخاطركم) كلمات اسعد السبعلي و(لبنان) كلمات أديب حداد. ولحّن له زكي ناصيف (بقطفلك وردة حمراء) و(ما أهوى بدالك) و(درب العين) ولحّن له سهيل عرفه (قلبي العطشان) كلمات عبد المنعم فقيه. ولحّن له جورج ثابت (وين بدك وين منتلاقى) كلمات توفيق بركات. ولحّن له جوزف أيوب (حكيلي يا جدي الختيار) و(قناديل الحرية) كلمات طانيوس الحلاوي. ولحّن له ملحم بركات (شفتك مرة) كلمات حسين حمزة. ولحّن له حسيب حيدر (عصفورتين) كلمات زغلول الدامور. ولحّن له زياد الرحباني (الله معك يا بني) كلمات طعان أسعد، ولحّن له عماد شمس الدين (دلع) ومن كلماته أيضاً. وكان لنصري أغاني من ألحانه مثل (ايدي وايدك) و(كوكب خدك) و(لا تشتكي) و(يم المنديل) و(يا ليلي حكيلي) وكلها من كلمات عبد الجليل وهبي. ولحّن (خيوط الذهب) و(زغار كنا) و(ع زرار الورد) كلمات أسعد السبعلي. ومن كلمات مصطفى محمود لحّن أيضاً (عودوا إلى الدار) و(ليل الهوى) و(وصية بيّ). ومن كلمات يونس الابن لحّن (محتار شو ببعتلها هدية) ومن كلمات طعان اسعد لحّن (بعدو هواكن) ومن كلمات اسعد سابا لحّن (رسول الحب).

شارك نصري شمس الدين بالعديد من الاسكتشات التي كتبها وأعدّها الاخوان رحباني ونذكر منها (كاسر مزراب العين مع فيروز) و(عبود وليلى) و(المعصرة) و(جاب الدب) و(براد الجمعية) و(ورد وشبابيك) و(رابوق) و(قوموا ناموا) و(الخاتم) و(أبو نعمان) و(جهلة بو فارس) وغيرها.

 

بعد الحرب أعادت فيروز ومنصور رحباني تقديم مقاطع من “جبال الصوان” وأعاد دور نصري الفنان ايلي الشويري وطلبت فيروز من الشويري أن يشعرها بأن الشخص الواقف أمامها هو نصري وليس ايلي الشويري. وبالتأكيد افتقدته لما أعادت تقديم مسرحية “صح النوم”.

ولما سمعت فيروز خبر وفاة نصري كتبت: “ما سبق وطلعت على مسرح ببلدي وأنت مش معي… يا رفيقي الوفي وفناني الكبير… في شي بفني زاد أنك جيت… وفي شي بفني نقص لأنك رحت… كنت ربحي الكبير وخسرتك يا نصري”.

حاز نصري شمس الدين العديد من الأوسمة والميداليات: وسام الاستحقاق اللبناني، وميدالية ذهبية من دولة الكويت، وميدالية من ليبيا ومفتاح مدينة العرب. وعام 2017 كرّمته مهرجانات بيبلوس الدولية بعمل من إعداد غدي وأسامة الرحباني بعنوان: “عالبال نصري وفيلمون”. وبالذكرى التسعين لولادته أقيم مهرجان في قريته جون أحيته الأوركسترا الشرقية اللبنانية بقيادة أندريه الحاج. كما خصّصت له بلدية جون حديقة بإسمه وفيها تمثال له.

عاش نصري شمس الدين على المسرح ومات على المسرح وخسره الفن في لبنان فناناً كبيراً لا يعوّض. ولكن هل أحد رآه بعين التكريم الحقيقية؟

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *