عصام محفوظ الضجة من حصانه

Views: 362

شوقي أبي شقرا

كانت الصلة وأداة اللقاء وكانت النجمـة والبركـة وهـي كلهـا السـاهرة علیـه وعلـى العتبـة وعلـى أنـه ما زال یبتكر الحجـة تلـو الحجـة تلـو البیـان لیكـون الحـيّ والمـالئ والمـاء. وان یكـون بـرج الكلمـة. وذلك هو عنوانه وقطاره الذي مرّ في أثلامنا وعبر الحدود والمعوقات الشائكة.

 وكان من صدره ومن عقله وقوده وهكذا نما وتصاعدت أوراقه وضیاؤه أمامنا، حتى تلك النافـذة. وهنا الكلمة الخصبة تسكن المساحة وتمنح القـادم إلیهـا منـذ أوائـل العمـر فـي رفقـة رهـط الشـقاوة، أن یكون الناجح بقلمه ذي الخیال وذي النار المقدسة. ولا رماد سوى من سیكارته. أمـا هـو فإنـه بدأ وسار وانطلق وطالما أنقذ نفسه وعطاءه من مخالب الفناء والعبور الجاسر وطالما غامر ولم یخسر وجرب التجربة وكان في ضـربة الحـظ وفـي أنـه كـان یـربح ویمتلـئ بالنضـارة. ومن أسعده حينئذٍ  وكان یمتشق حفنة المال وحفنة الأدب والأسئلة الناجحة ویریني كل ذلك وهو تحت الخدر تحت هذه العریشة وكأنها القدر. وكان عصام وظل هكذا یربح ویـربح أو یتراجـع قلـیلا في زورقه إلى الشاطئ، إلى ذاته حیث الضیاء وقلیل من العتمة. وهنا هذا القلیل لم یفارقه حتى في آونـة الغـزل والنعـاس اللذیـذ والفـيء الـذي یغطـي بقایـا الخریـف ومضـمار الزعـل، وذلـك القلـق ملتصقًا كالطابع على جبین عطائه.

لكنهــا الكلمــة وفــي كــل أوان ظلــت هــي إیاهــا وظلت تلك الجنيّة الخفیــة وذات الهاویــة والقاعـدة علـى مسـند القاعـدة، وعلـى أننـي رحـت إلـى هـذا القـادم وفـي قلبـه نـداء الأبجدیـة، ونـداء اللغـة العربیـة لنكـون معـاً  وان نجلـس فـي قصـرها. ثـم نكـون فـي الرحلـة إلـى شـتى الصـور، شـتى الأیـام التـي مـا أجملهـا وعانـت كـذلك حقبـة ثمینـة ومزدحمـة بالطیبـات وبـألوان المعرفـة. وكـذلك بالحكایــات تنــزل إلــى مخبــأ العــب، إلــى عطــر الحــدائق وعطــر الإبــداع وعطــر الوصــول إلــى العاصمة بیروت.

عصام محفوظ

 

وهــذه هــي العاصــمة حیــث الجاذبیــة والاشــواق وحیــث الــرؤى وحیــث الأحــلام وحیــث النــوم فــي المنامـات المنتشـرة آنـذاك وسـاحة البـرج هـي الصـمیم والحـل مـن المنـاطق هنـا یلجـأون وینـامون ویشترون ویرسلون المثال والقدوة. ثم یؤوبون إلى الضیعة في الویك-أند. والحكایة السعیدة أیضاً هـي عصـام محفـوظ الـذي منـذ كـان لـي الواسـطة منـذ مطلـع المغـامرة لأن نلتقــي. وكـان اللقــاء الذهني والثقافي الأول في مكتبة جـورج فـي مـدخل البنایـة بـین سـینما دنیـا وسـینما روكسـي. وهـو كـان یعكـف علـى دیـواني الأول “أكیـاس الفقـراء” الصـادر فـي دار مجلـة شـعر وعـن حلقـة الثریـا، وینظر وینظـر ویفـتح ویغلـق. وأنـا فـي هـذه اللحظـات رأیتـه وحفظـت الهیئـة التـي هـو والتـي تؤلفـه كتاباً مفتوحاً أو فنجـان قهـوة ویفـور. وبـیّن لي من هو في الأيام المشعّة التـي كنـا دولابهـا یكـرج إلـى الإمـام والـى الشـأن الطلیعـي، والـى سـائر الخطایـا المحترمـة حتـى السـمو عبرهـا إلـى الغایـة وحتــى أمــا الانغــلاق وأمــا دونهــا أو الانفتــاح والحصــول علــى شــرارة النعمــة هــو نعمــة النضــج والاندفاع في موجة المواهب وبحر السـفر إلـى هنـاك، إلـى مـا نسـتحق أن نقطفـه وأن نكـون رأس القافلة السعیدة الأفكار والطموحات.

وفي الأثناء هو عصام ذو عفوية وذو حنكـة إلا حـین یسـوق السـیارة. وكأنـه مثـل شـارلي  شـابلن الـذي كـم یضـحك لـه وكـم یصـدمه الحـاجز أو یقـع هـو وهـي فـي الجـورة. ویـدع الطریـق والسلامة العرجاء. وعصام واحد أحد مثل أولئك الموهوبین.

وكان بصیغة المفرد وصیغة المثنى وصیغة الجمع. ذلك أنه الطائر الذي حط في ملعب بیروت، وفي ساحتها الخصبة والذائعة النشید والأغاني. ولعلّه كـان الفتـى الأوسـع والأقـوى علـى أن تكون بیروت هي مأواه باكرًا وهي عروسه منذ تلك الآونة. وكان طوال العهد وطوال الزمـان،  وحیداً وحیداً. ولعلّه  هنا في قرارة نفسه شاء أن یكون الشاعر ثم المفكر ثم الصحافي ثم النموذج الذي یریده أن یكون على قدر المهام وعلى قدر ما یأمل هو أن یكون.

وفي ما بعد تدحرجت الصـخرة صـخرة النمـو والقطـاف وحصـاد التـألیف والكتابـة فـي النقـد وفــي القصــیدة وفــي مــدى. وهــوذا عصــام فــي جریــدة “النهــار” ذو جدیــة وذو حكمــة وذو معنــى یختلف عن سواه قلیلا أو في بعض الأحیان. وأنني، منذ الاقتراب على هذا النحو، كنا دائماً صدد النشاط المزدهر، وفي صدد الحقیقة حقیقة الفنـون والأعمـال الثمینـة الوجـود واللـزوم لیكـون الأمر عافیة وصعوداً إلى فوق في كل شيء وفي كل ما هو جلل.  

وربما عصام هو كذلك، على هذا النحو من الكینونة، أتیح له أن یكون ذلك النـاظر المؤرخ  ذلك الناقد. وأراه ناقداً كأنه الأول في القصیدة الحدیثة وفي سماء الحداثة الذي یجمع من التـراث مـا یجمـع ومـن الكتابـات القائمـة والمعجوقـة الـرداء والوجهـات. وهـو واحـد مـن رهـط الأدبـاء كـانوا السـبب فـي هـذه الناحیـة الجلـى والفریـدة، فـي انفتـاح الآخـرین علـى نهضـتنا، فـي حلقـة الثریـا وفـي مجلـة شـعر، وفـي بیـروت هـذه العاصـمة التـي كـم حضـنت مـن الضیوف منذ أول الطریق والى منتصف الزمان ومنتصف اللیل وأرجوحة الصباح وأغاني الوقت الذي لم یرَ من قبل هذه الكثافـة وهـذه الیقظـة وهـذه الخطـى والجلبـة فـي الشـعر وفـي النثـر، وفـي الفكر الطلیعي الذهن.

ولا أنسى كونه صار مسرحیاً. ولا كوني أنا الـذي یبـدو أننـي صـرفته إلـى خشـبة المسـرح، منـذ تلـك القصـیدة وهـي “زلیخـة” وحـین قرأهـا فـي مجلـة شـعر فـي نـدوة الخمـیس، قلـت لـه تعلیقـاً: “أنت مسرحي”.

وعصام لا ختام بـل كلنـا نعجـب ونحبّـه وفـي كتابـه مختـارات مـن الشـعراء الـرواد، جعلنـي وشاءني لعبة مسرحیة. وجعل النص من بعض كتبي كأنـه یـدوخ ویقلـب الآخـر والقـارئ معـاً مشاهد تخطر على بال وتهبط إلى قاع المعاني وتندلق كأنها أسـطورة وزینـة فـي كـل مسـاء وفـي جموع الامسیات.

وأراني الآن ذلك الزائر حین هو وجده فـي غرفتـه البیروتیـة، وكـان بـه أول المـرض. ومـن ثم كانت المسرحیة الأخیرة وهي هو وهي طغت على جسده وعلى غصنه نقطة ندى واندحرت.

ونقطـة ثانیـة فـي طریقـه إلـى الحیـاة المـلأى. وهـي كونـه دائـم الحضـور ودائـم الثقـة بأنـه أوصـى لنـا بالتجربـة. وهـي علـى المسـرح حیـث الحركـة منـه ولدیـه والیـه فائقـة الحضـور وغیـر ملتبسة. وهي في العجب وفي التساؤلات التـي لا تغـدو غریبـة، ومـا عـادت هكـذا. بـل تقـف علـى الشرفة عظة أمام الجمهور ولكن أي جمهور وأي جماعـة. ولا بـأس أنـه الشـهادة والشـاهد ویتـرك غبار المعركة وحوالیه، وحول حصانه الوهمي وحوافره المنطلقة إلى الرحاب. ونسمع من المنازل تلك الضجة وأنفاس البطل.

وأن فكــرة یقفــز وأنــه یــرقص ویتلاعــب فــي جنینــة التــراث وأن قلمــه دائمــاً یحمحــم ونحــن نصغي ویستخفنا السرور وینهمر الطّرب.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *