ولد يرقص على دقّات قلبه

Views: 3146

ماريا عبد النور

صَمُّ الآذانِ طوعًا عن ضجيج العالم، واتّخاذ العزلة منفًى لجلد الرّوح، باخضاعها غصبًا للتأقلم مع دموع الوجود والتّكيّف مع قتله البطيء، على طريقة المستسلم الأصيل، الّذي يدعو إلى التّرفّع والنّسيان، “فالغد أجمل إن كُتِبَ له أن يكون”، إنّما هو جلدٌ عقيم لا ينجب وهمًا كاذبًا بالتّغيير.

 في بيروت، وبعد شهرٍ من انفجار المرفأ، ما زال جلدُ النّفس مستفحلًا بصمت.

ذاك الصّمت الّذي يدفعك إلى اقتلاع روحك والهرب بها بعيدًا من هذيان الوجوه، وغربة الأمكنة.

صمتُ أهالي بيروت، مستفزّ، لكنّه متى صرخ، فجّر قهرًا عتيقًا قابعًا في ذاكرة القلوب. قهرٌ على من سقط هنا، قبل أكثر من أربعين عامًا، يوم كان للبكاء موعد، وللصراخ موعد، وللموت مواعيد.

أهالي بيروت لا يتكلّمون، لا يسألون، لا يصرخون، إنّهم حتّى لا يطلبون. بتربّص كئيب، يراقبون. على الأرجح يهزأون. يهزأون منّا ومن كماماتنا ومن هواتفنا ومن انشغالنا بالأضرار، التي إن أبصرنا سعادةً في هذا الوطن، أبصرت هي معالجة.

صمتهم يلعبُ الطّاولة مع الرّجال فوق الرّكام، ويساعد النّساء بالبحث وسط الرّكام عن طعام، ومن تحت الرّكام ينتشل سيجارته ويرفعها في وجه المرفأ، علّ سخط الأمّهات يشعلها، فيدخّنها لاعنًا أمراء القتل بغثيان شديد.

بين ضجيج المرفأ وصمت أهالي بيروت، أولاد بتروا طفولتهم وثاروا بغضب على صمت أهاليهم الانهزاميّ العقيم. ساروا بتشامخ وحدّقوا بعنفوان وصرخوا بحدّة وضربوا بعنف ولعنوا الدّنيا. لعبوا الحرب بصخبها وقنابلها ورصاصها وراهنوا على انتصارها بتهوّر كبير ووهم أكبر…. لكنّ حربهم الغاضبة، ضريرة، كحروب الكبار، لا تبصر.

وحدَه ولد يرقص على دقّات قلبه، غير آبهٍ بضجيج إيقاع الحرب العبثيّة ولا بصمت أهله العقيم. وحدَه يفترشُ سماء مدينته، ويراقبُ نجومها الحالمة، ويغفو على غدٍ يريده أفضل، ثمّ يصحو، يُقبّل أحبّته، ويمدُّ ذراعيه لاحتواء حزنهم، فيضمُّ خواءً. لم يعد للحزن مكان، بدَّده فجأة خطاب الزّعيم، فتوقّف الدّمع، وعلا التّصّفيق، وأخذتِ الأقدام العاجزة تقرع على الجثُّث الحارّة، وشُرِبَتِ الكؤوس نخب الحياة،… وتحت الرّكام، نبض متقطّع، بعد.

وحدَه صرخ: هروبكم من الواقع، تجاهل. والتّجاهل في غير حينه، انتحار. اصحوا!

فرُجِمَ الولدُ وشُتِم وكُفِّرَ، ثمّ غادر الزّعيم، وعاد الصّمت ليدوّي والصّراخ ليرَوَّض.

أغلقت بيروت سماءها، وأطفأ لبنان أنواره، وبقي صوتُ المتمرّد يصدح: تأقلمكم، تواطؤ خبيث. وصمتكم، في حرم القتل، جريمة. 

فهل نبصرُ تغييرًا في أرض اعتاد شعبها لعق دمائه من أيدي قاتليه؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *