أمين الريحاني… الجوّالُ الأمين

Views: 481

د. جورج شبلي 

( في ذكرى رحيله )

تحتَ زيتونةِ “الفريكة”، قرأَ أمين الريحاني كرّاسةَ الأبجديّة ، لكنّ غِيرة الجَوزَةِ المُجاورةِ لتلك الزيتونةِ لم تمنعْها من التنبّؤِ بأنّ الأمينَ سوف يطوفُ الآفاقَ ويجاري الأكابرَ ويتنكَّبُ مبادئَ الثورةِ الفرنسية . لقد لبّى هُتافَ الأرض، ودافِعُه فريضةُ المعرفةِ بأحوالِ الدّنيا، بحَجَرِها وأقوامِها، وذلك الوَلَعُ بالمغامرةِ والتّجربة، حتى باتت رِحلاتُه مزيجاً من الغرائبِ والثّقافةِ والمَواقِفِ والنّوادرِ الفَكِهَة. 

في مَشيَخَةِ المَشرقِ أُلبِس الأمينُ عباءةَ النَّهضَويّ، فكان داعيةَ تغليبِ التّفكيرِ على التّكفير، والإنفتاحِ على حضارةِ الغربِ بديلاً من القَطيعةِ والتَّزَمُّت، والنّهوضِ بالتَّنويرِ لا التّشكيكِ به.

 

والريحاني قَوَّامٌ على التّجديد، ربّما لأنّه من لبنانَ السبّاقِ الى فَتحِ رئتيه لِهُبوبِ التقدّم، أو لأنّه أسّسَ لِمُنازَلةٍ بين التَكَهُّفِ المُتَمَشرِقِ وبين مَدَنيّاتِ النّاس، داعياً الى التّفاعُلِ الهادِفِ مع رُقِيِّ الشّعوبِ بَعيداً عن أيِّ تَجَمُّد . والحقيقةُ أنّ الريحاني لم يكن مُرتَاباً من التَّغيير، على عكس الكثيرين المُرتَعِبين من أنْ يهدمَ التّخالطُ بنيانَهم، فهو يَعلمُ تماماً أنّ المُحَصَّنَ بالأصولِ لا يُخشى عليه من مُهاجِمين بمَعاوِلَ مُحَطَّمة . والريحاني مُتَحَدٍّ مُشاكِسٌ في بيئةٍ إتِّباعيّةٍ مُكَلَّلَةٍ بضبابِ الجَهلِ والتّنافر، يَسوقُه حنينٌ الى الإلفةِ والأمان، وتتحضَّرُ في قلبه وعلى لسانه دعوةُ

يَقِظَةٍ الى التآلفِ والوحدة . هذه الدّعوةُ لم تكن سَوادَ حِبرٍ في بَياضِ الكَراريس، بل هي ضَربٌ من السياسةِ النّفسيّة ، ففي كلِّ عقل، مهما تَصَخَّر، جوانبُ وَعيٍ غافيةٌ لا يَقدِرُ على إيقاظِها إلاّ البارِعون من أهلِ الصَّلاح . وهي بالذّات هَدَفيّةُ الريحاني من رِحلاته في بلادِ العرب .

 

إنقسمَ الذين تناولوا الريحاني بالدراسةِ ونَقدِ ما روته رحلاتُه، فوجدَ البعضُ أنْ لا سَنَدَ يدعمُ ما أوردَه، وخَلُصوا الى أنّ الكثيرَ ممّا جاء من أخباره ينتمي الى أدبِ الرِّحلةِ أو تَأَدُّبِها، وهو مجرّدُ مذكّراتٍ أو أخبارٌ كتبها المؤلّفُ ولا يُعَوَّلُ عليها في عِلم الوقائع . بينما وجدها البعض الآخرُ توثيقاً أميناً يمكنُ الاعتمادُ عليه، ورأَوا في صاحبها مَرجَعاً مُعتَبَراً ومن أهلِ الدِّرايةِ والعلم . ويفترقُ الريحانيُّ عمّن تركوا نتاجاتٍ في الرِّحلة، فبينما شَوَّهَ النُّسّاخُ حقيقةَ أكثرِ ما كُتِب بالتّحريفِ والتّدخُّلِ والحَذفِ لتصبحَ الرِّحلة معهم بعضاً من أساطيرَ لا خيطَ يربطُها بالحقيقة، أكّدَت مؤلّفاتُ الأمينِ على التزامِه بإقليميّتِه من دون تكلّفٍ أو تَصَنُّع . فالواقعُ الإقليميُّ وجدَ جذورَه في مُشتَرِعِه الإنسانِ العربيّ، وفي صِيَغِ تعبيرِه، وفي عاداتِ بيئتِه وتقاليدها، وفي الحوادثِ التي تجري في جواءِ هذه البيئة، وقد أخرجَها الأمينُ لوحةً ذاتَ طابَعٍ خاصٍ تتميّزُ بالتقريريّةِ والانطباعيّةِ والتّحليلِ الواقعيِّ الرّاقي، بما في ذلك الجوُّ الاجتماعيُّ والسياسيُّ المُتَعَثِّرُ والرّجعيُّ الذي لم يُسدِلْ عليه الأمينُ ستارةً تخفيه .

 أمّا طَمسُ دعوةِ الأمينِ بادّعاءِ أنّها مائِعةٌ ما استطاعَت أن تُرَكِّبَ الحُسنَ من غير الحُسن، أوأنْ لا قِوامَ لها بغيرِ التّطبيق، فهو أمرٌ مردودٌ لأنّ المَدعُوّين اليها والذين استحسنوا في الأمين اللّسانَ الذكيّ، أَسقطوا كلَّ ظنٍّ بإمكان استبطانِ دعوتِه مجموعةً من الخِدَع،  فتفاعلوا إيجاباً في اتّجاهين، وإن بِخَفَر، ولكن بِفِطَرٍ سليمة . وحصلَ التّواصلُ، من جهة، بين أركانِ الأمّةِ المُهَدَّدة بالتَّفَكُّكِ والأطماع، فخفَّ سعيرُ التَّصارعِ وبُدِءَ الحديثُ عن وحدةٍ قوميّة . وتمَّ انفتاحٌ، من جهة ثانية، على معطياتِ الغرب الحضاريّة، فاستُقدِمَ منها ما يتناسبُ مع  خصوصيّةِ الهويّةِ الشّرقية، لتفادي الضَّياعِ والنَّسجِ الكاملِ على مِنوالِ عاداتِ الآخرين . من هنا يُعَدُّ الريحانيُّ واحداً من المَفاصِلِ المِثاليّةِ في توطيدِ الفكرِ القوميّ، وفي العلاقةِ بين أُمَم الشّرقِ والغرب .

 

ما أَعجبَ ما تتشابهُ التّهَمُ على اختلافِ الأجيال، وفي مُقَدِّمِها التّهمةُ بالتَكَسُّب . وهي ظاهرةٌ راجَت عند العرب، ومعناها التقَرُّبُ من الملوكِ وأصحابِ المَقاماتِ مُجامَلةً وتَزَلُّفاً، طلباً لِنَوالِهم ورِفدِهم . ومن الشَّطَطِ إدراجُ جميعِ المُتَعاملين مع ذوي النّفوذ، من الشعراءِ والخطباءِ والكُتّاب، في لائحةِ المُستَفيدين، فمنهم مَن انقلبَ سِحرُ التكسُّبِ عليه فنالَ مَمدوحُه الشّهرةَ على ظهرِه،كما هي حالُ كافورٍ مع المتنبّي . أمّا الرّيحاني الذي لم يَبِعْ بضاعتَه لأَحد، فقد تحاملَ عليه شُهودُ زورٍ ورَوَّجوا لإشاعاتٍ تطالُ مِهنيّتَه وتَعَفُّفَه الماديّ، وألصقوا به  تهمةَ التكسّبِ من الملوكِ والأمراءِ والرؤساءِ الذين التَقاهُم وكتبَ في سِيَرِهم وبلدانِهم . والحقيقةُ أنّ الأمينَ في تَجوالِه على مساحةِ العالمِ العربي، كان الأمينَ على عروبتِه والمُلتَزِمَ قناعاتِه القوميّةَ من دون الانحرافِ إلاّ الى الحقيقة . فقد ساهمَ في تركيزِ وسائلِ النّهوضِ بأحوالِ هذه البُقعةِ العزيزةِ من الكون ، لإصلاحِها إجتماعيّاً وفكرياً وسياسياً، فلم يسكُتْ عن أيِّ مَظهرٍ إستعماريٍّ أو ديكتاتوريّ. وقد ناضلَ لتحريرِ أهلِ موطنِه الكبيرِ من الإقطاعِ والتسلّط، ومارسَ نشاطاً سياسياً ضدَّ الحكمِ العثمانيِّ الجائِر، وهاجمَ الانتدابَين الفرنسيَّ والبريطانيَّ الّلذَين فَرَضا سيطرةً مُحكَمَةً على حريّةِ شّعوبِ هذه المنطقة ، وطالبَ بسيادةِ بُلدانِها ومَنْحِها حريّةَ القرار. 

ماتَ أمين الريحانيّ، صاحبُ الشخصيّةِ الجريئةِ وثورةِ الصِّدق، وهو يردّدُ : “الكَفَنُ لا جَيبَ له”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *