نبوءةُ نبعٍ

Views: 937

يوسف طراد

أجمل اللوحات بسمات سطورٍ، رغم الغمام والتراب الذي ضاق ذرعًا من الأشجار الباسقة فوقه، من دون ثمرٍ أو طيورٍ مغرّدةٍ، أتت في معاني كتاب (أوراق قروية) للدكتور إميل منذر، الذي صدر عن دار المفيد للنشر، علّ المعجزات تُجترح من خلال نصوصه ويعود الزمن لأصالته.

ثلاث عشر قصّةً، تقرأها ببسمةٍ وضحكةٍ حينًا ودمعةٍ غالبًا. حين يُقرأ الإهداء تظهر السخرية على قسمات القارىء، أَيُعقل أن تكون قريةٌ حبيبة إمرىء في القرن الحادي والعشرين، حيث أصبحت الكرة الأرضية قريةً واحدةً؟ لكن خلال القراءة تنسحب السخرية خجولةً أمام الشغف جنونًا، على ملامح الأمكنة الدهرية القروية المقدّسة، يرتسم جمال المجتمع، البسيط في أطيافه وممارساته والعظيم في حكمة أهله، يرتسم في فضاء الفكر بعطر التراب، نقاء زهر الليمون، وداعة البنفسج وشموخ الأرز. هل هو الحنين يحمل الكاتب إلى الكتابة بجنونٍ لتظهر الفنون حاملة معها القارىء خارج الجغرافيا وداخل التاريخ.

اِنطلق الكتاب اعتبارًا من أول قصّةٍ (لعبة حظ) لينتهي بـ(حضارة تزول). سطور ضمّنها منذر أنستولوجيا الحنين إلى الزمن القديم الجميل في قريته كفرقطرا، قبل التّهجير وبعده وخلاله من الجبل، فحوت الهجرة القسرية، والهروب من نداء الدم، الذي أفرز الحقد والموت. المساكن الجديدة المتباعدة بعد التهجير، وعنصرية القبول والتقبّل من المجتمع الجديد. علاقات الشخصيات، وانعكاس بساطتها حقيقةً تعيش في شعور كلّ قرويٍ أصيلٍ، قُطع من أرضه ورمي بعيدًا، وما زالت جذوره تحت تراب الحنين. تَفاعل النصوص في تساؤلاتٍ وجودية وتوزيعها بإحكامٍ على جميع القصص. اللياقة السردية التي ظهرت مرسحًا للحقيقة والخيال. والمشاركة النسوية وعلاقة المرأة القروية بالريف، جهادها مع بعلها سابرةً أغوار الطبيعة لصالح حياةٍ مقبولة لأولادها في انطلاقتهم لحياةٍ أفضل.

للوصف الدقيق في مجرياته الجميل في مفرداته، علاقةٌ حميمةٌ بالأدب الريفي. فواقعية الإسقاط الرائع لكلّ قصّةٍ أتت ثوبًا رائعًا بصفائه ونقاوته لكل ضحكة لوزةٍ، صوت معولٍ، استراحة فلّاحٍ، شجرةٌ دهريةٌ، قطين شيرٍ، صخرةٌ ممدوحةٌ فوق واديٍ كانت تضم حميم لقاء أحبةٍ، موقع كرمٍ، حكاية المزارعين في أعراس القطاف، بيدرٌ قديمٌ، تعبٌ وكفاحٌ من أجل الغلال، تينةٌ عنيدةٌ، بندقية (دكْ)، مشلال عصافيرٍ، قبوٌ خرابٌ كأطلال عُنيّزةٍ وخولةٍ، سطيحة أمام عليّة، صبحيةٌ وسهريةٌ، سليلٌ بين الحقول وفي الوعر، أغاني مكاري غادٍ، مراحٌ قديمٌ، حليبٌ سائلٌ في ذاكرة من رحل، حديث وجاق، ثرثرة حطب تنورٍ وصاجٍ، غرام جرنٍ ومدقةٍ، صوت شاقوفٍ، نوادرٌ في مدرسةٍ قرويةٍ، طاحونٌ قديمٌ، عينٌ مطمورةٌ أو مجروفةٌ ومياه نهرٍ عذبةٌ روت تعب السنين في الماضي القريب، قبل سرعة الحاضر ووميض المستقبل.

أسهب الكاتب في ترجمة الجمال على الصفحات، بوفرةٍ وإحاطةٍ كليةٍ، لكنه ضنّ علينا بتتابع المعلومات عن انطباق أوزان الشعر العاميّ على مثيلاتٍ لها في الشعر الفصيح، (ف “الندب يماثله مجزؤ الرمل” و”المعنّى” يسمى في العروض “رجزًا” و”القصيد الطويل وافرًا” و”القصير سريعا” و”الشروقي بسيطًا” والقرادي خببًا”)، ولم يذكر العتابا والدلعونا وبقية الفنون الزجلية التراثية الجميلة. علّه يُفندها مستقبلًا في كتابٍ يُغني الأدب والتراث.

بوجود أمثال إميل منذر، ومهما حصل، لن ترحل الذكريات والغابات والحكايات. فأية حضارةٍ مشوهةٍ تنسينا ماضينا، تهدم حاضرنا، تسمم مستقبلنا وتمحي جهد الآباء و الأجداد؟ فكان كتابه (أوراق قروية) نبوءة نبعٍ تروي حقول الخير صدى لا يتعب في حضن الجبل السرمدي.

(الإثنين 20 كانون الثاني 2020)

***

(*) موقع Mon liban

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *