محمّد محفُل مؤرّخ من طرازٍ خصوصيّ

Views: 320

د. أحمد حلواني

“نجوم لا تأفل”، عنوان اختاره د. محمود السيّد، نائب رئيس “مجمع اللّغة العربيّة في دمشق” لكِتاب أصدره المجمع حول كوكبة من مفكّرين/أعلام بذلوا حياتهم خدمةً للعِلم والمَعرفة، فأبدعوا في ما خاضوا فيه من مجالات فكريّة شكّلت باقات في حدائق الإبداع، بقي زهرها يفوح شذاه ويزداد إشعاعه ألقاً في الطّاقات القرائيّة على مُختلف أجيالها.

مع رحيل عددٍ كبير من المفكّرين والأدباء العرب خلال السنوات القليلة الماضية، بدأتُ أعيش حالة خوف شديد وحزن عميق على حياتنا المستقبليّة كعرب، بخاصّة في ظلّ الأوضاع القلقة التي تتخبّط فيها بلداننا اليوم، فنحن مُحاصرون بالحروب الأهليّة والتهديدات الخارجيّة والتخلُّف والفساد، مع ما ينتج عن ذلك من فقر وبطالة ونزوح ونقْصٍ في كوادر التعليم وانتهاكٍ للحرّيات الأكاديميّة وحرمانِ التعليم الجامعي من أساتذته الكِبار وتدنٍّ في مستواه وانسدادٍ في آفاقه.

وإذا كانت سوريا تعيش هذه الحالة بوضوح مع رحيل عددٍ كبير من المفكّرين الأعلام (وفق د. السيّد من مُقيمين ونازحين)، فإنّني سأحاول التوقّف عند أستاذٍ ابتعد عن العمل السياسي الذي التزمه في فَورة الشباب لينكفئ ضمن رحابة الفكر النهضوي بقالبه العِلمي المحض، وليتفرَّغ للتدريس في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة دمشق، ثمّ ليُنتخَب عضواً في مجمع اللّغة العربيّة ويُمارس عمله قارئاً محكِّماً وباحثاً ومؤلِّفاً.

إنّه د. محمّد كامل محفُل الذي وُلد في حلب سنة 1928 ودرسَ في مدارسها حتّى نَيله الشهادة الثانويّة، ثمّ حصلَ على إجازة في الآداب من قسم التاريخ في جامعة دمشق، وانتسب إلى المعهد العالي للمُعلّمين (كليّة التربية لاحقاً) وحصل منه على شهادة الدبلوم العامّة في التربية.

تمّ إيفاده من قِبَلِ وزارة المَعارف في سوريا أواخر العام 1954 لمُتابَعة دراسته العليا في التاريخ القديم في جامعة السوربون في باريس، حيث درسَ اللّغات القديمة الشرقيّة والكلاسيكيّة الإغريقيّة واللّاتينيّة. كما درسَ عِلم الآثار في معهد اللّوفر في باريس أيضاً، إلّا أنّه لم يستطع الحصول على شهادة الدكتوراه بسبب طرْده من فرنسا بتهمة مُساعدة “جبهة التحرير الوطنيّة الجزائريّة”، فانتقل إلى جامعة جنيف في سويسرا وتخصَّص في دراسته هنالك بعلاقة الإمبراطوريّة الرومانيّة بالعالَم المَشرقي.

وفي العام 1967 عاد إلى سوريا من دون تمكّنه من الحصول على شهادة الدكتوراه السويسريّة مع موفدين آخرين، منهم أديب اللّجمي وغسّان الرفاعي لأسبابٍ تتعلّق بمَوقفهم من هزيمة حرب حزيران (يونيو)67، فعمل مُدرّساً في جامعة دمشق لمادّتَيْ التاريخ القديم واللّغتَيْن اللّاتينيّة والإغريقيّة. كما درَّس تاريخ الحضارات والفنّ وتاريخ العمارة في كلّيّتَيْ الفنون الجميلة والهندسة المعماريّة في الجامعة نفسها.

ولدى افتتاح الجامعة الأردنيّة في عمّان، عمل محمّد محفُل أستاذاً زائراً فيها بين أعوام 1968–1971 مع مجموعة كبيرة من الأساتذة الجامعيّين السوريّين، منهم الدكاترة: فاخر عاقل ونبيه عاقل وصلاح الدّين عمر باشا. تولّى محفُل رئاسة تحرير مجلّة “دراسات تاريخيّة”، وهي مجلّة محكّمة أصدرتها لجنة “إعادة كِتابة تاريخ العرب” والتي أصبح أمين سرّها بين أعوام 1994–2003.

في العام 1999، منحته جامعة الدراسات الإسلاميّة في باكستان درجة الدكتوراه بتقدير مُمتاز مع مرتبة الشرف العليا تقديراً لنِتاجه العِلمي.

ألَّف د. محفُل، وهو مؤرِّخ من نَوعٍ خصوصي، عدداً كبيراً من الكُتب الجامعيّة منها: “تاريخ الرومان” و”تاريخ اليونان”، بالاشتراك مع د. كامل عيّاد (اللّيبي الأصل)؛ و”تاريخ العمارة” و”المدخل إلى اللّغتَين الآراميّة واللّاتينيّة”، فضلاً عن عددٍ كبير من الترجمات والمقالات والدراسات التاريخيّة والسياسيّة.

كما مُنح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة المُمتازة، وتمّت تسميته بمرسومٍ رئاسيّ عضواً في “مجمع اللّغة العربيّة في دمشق” خلفاً للعلّامة الكبير د.عبد الكريم اليافي، فكانت له إسهاماتٌ عِلميّة كبيرة في نشاطات المَجمع ودَوره.

ومن كُتبه العِلميّة والثقافيّة: “أسلافنا العرب”، وهو دراسة عن دَور العرب في فجر الحضارة الأوروبيّة، “سارة.. المرأة التي هدمت الإمبراطوريّة العثمانيّة” (ترجمة)، “النهضة القوميّة الثقافيّة العربيّة”، وهو سفر جامع لأعلام النهضة في الوطن العربي في القرن التاسع عشر (تقديم ومُراجعة الترجمة لأصل الكِتاب الصادر بالأرمنيّة)، “الدولة والمُجتمع”، وهو دراسة فريدة للمغرب العربي للدكتور بوخريسة بوبكر الجزائري (تقديم وتحقيق ومُراجَعة). “دمشق الأسطورة والتاريخ.. من ذاكرة الحَجَر إلى ذكرى البشر”، بمناسبة احتفاليّة دمشق عاصمة للثقافة العربيّة عام 2008، “مُعجم ألفاظ الحضارة الجزء الأوّل” (المِهن والحرِف والمنزل والمَلابِس) بالمُشارَكة.

رحل د. محّمد محفُل عن عمرٍ يُناهز 91 عاماً في 8 كانون الثاني (يناير) من العام 2019. وفي توقّفنا عند أفكاره نحتاج إلى بحث طويل، إلّا أنّنا سنتوقّف عند أفكاره السياسيّة تجاه الدولة والمُجتمع ومَكانة الأقطار المغاربيّة في الشمال الإفريقي، من خلال تقديمه كِتاب (د. بوخريسة بوبكر) الصادر في دمشق في العام 2005، حيث تبدو فيها مُحاولته الجدّيّة بتفنيد موضوع التحليل السكّاني، سواء في القرية أم المدينة أم الدولة، من حيث علاقة الجنس المحلّي بالعناصر الوافدة ومدى عُمق التأثير والتأثّر بينها وبين غيرها من منظورٍ تاريخي أو ديني، مع تأكيده على أهميّة البحث في العلاقة العربيّة والإسلاميّة في تكوُّن المُجتمع المَغاربي نتيجة الفتح وإنهاء سيطرة الإمبراطوريّة الرومانيّة.

وفي هذا يستعرض د. محمّد محفُل مجموعة أفكار لمفكّرين أوروبيّين تجاه الإمبراطوريّة الرومانيّة ومنها: بوسويه Bossuet 1627–1704 الأسقف الشهير بمواعظه ودراساته اللّاهوتيّة التاريخيّة مشيراً إلى روما ودولتها: “هذه الإمبراطوريّة العظمى التي ابتلعت سائر إمبراطوريّات المعمورة وانبثقت عنها أكبر مَمالك العالَم، تلك التي ما زلنا نُبجِّل شرائعها وقوانينها، فعلينا بالتالي أن نتذكّرها ونقتدي بها قبل مُختلف الإمبراطوريّات الأخرى”.

ويذكر أيضاً ما كَتبه جان جاك روسّو (1712–1798): “ظلّت روما خلال خمسمائة سنة معجزة لا تخبو ولن يحلم العالَم بتكرارها ثانية بعد الآن”.

كما يذكر ما ذكره الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو في سفره المعروف “روح الشرائع”، فضلاً عن المؤرِّخ الفرنسي جول ميشليه (1798–1874) ليُجمِل مَواقف أسلافه في تعبير “تاريخ روما يلخّص تاريخ العالَم”، بحيث يؤكِّد المفكّرون الأوروبيّون أنّ العالَم هو أوروبا، فهي المَرجع في مفاهيم التجمّع الإنساني والتاريخ، وهي المقياس الذي يَرجع إليه في رسم مستويات التحضّر والتوحّش أو البداوة.

وفي هذا يوضّح د. محفُل في مُراجعته كِتاب د. بوخريسة أهميّة الفتح الإسلامي في التخلُّص من سيطرة الإمبراطوريّة الرومانيّة وتشكُّل شمال إفريقي جديد مُرتبط بالمَشرق العربي الإسلامي عبر الدولة الأمويّة بديلاً من ارتباط الفكر الأوروبي بالإمبراطوريّة الرومانيّة الذي بقي يحلم باستعادة مجده العالَمي، مُعتبِراً أنّ هذه المَواقف الفكريّة الأوروبيّة حول مجد روما والمركزيّة الأوروبيّة كانت هي التبرير الواضح للحملات الاستعماريّة الأوروبيّة في مختلف قارّات العالَم، ومنها الشمال الإفريقي الذي توزَّع استعماره بين فرنسا وإسبانيا وإيطاليا.

وعن فتْح الشمال الإفريقي وتحريره، يوضِّح د. محفُل أنّ ما ذكره د. بوخريسة في كِتابه عن ترحيب السكّان الأصليّين، ولاسيّما العامّة منهم بهذا الفتْح واندماجهم بسرعة إسلاميّاً وثقافيّاً، تُشير كلّها إلى الأصول المُشترَكة بين البربر والعرب (وفق ما أوضحه محمّد مختار العرباوي في كِتابه: “البربر عرب قدامى”) وأيضاً ما بيّنه د.عثمان السعدي في كِتابه “البربر الأمازيغ.. عرب عاربة”.

وفي هذا يقول د. بوخريسة: “نظراً لمَوقع الفضاء الاجتماعي المَغاربي المُتميّز، فقد مكّنه ذلك في الميدان الاقتصادي والتجاري، خصوصاً من الاتّحاد بشبكة النشاطات التجاريّة والاقتصاديّة للأمّة العربيّة والإسلاميّة. كما مثّل بحقّ مجالاً لتقاطُع القوافل التجاريّة والتقائها، وذلك بين منطقة المشرق العربي وبلدان الجنوب الصحراويّة، وكذلك المنطقة الغربيّة للإسلام وأهلها الأندلسيّين، والتي شكّلت جميعها نقطة تحوّل وتغيّر في التكوين الاجتماعي والاقتصادي للسكّان، وذلك بفعل التأثُّر الجزئي لخصوصيّة البنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة لمنطقة الشرق الإسلامي”.

ويضيف: “وفي هذا الإطار نُلاحظ تأثّر دوائر المُلك والسلطان في الإمارات المغاربيّة المُتداوَلة على الفضاء الاجتماعي المَغاربي المُباشر والواضح بنظيراتها في منطقة الشرق الأوسط، على الرّغم ممّا تحظى به من استقلاليّة وتولّي شؤونها قوّاد من البربر المُسلمين، أي امتلاك البربر لمصيرهم في إطار الحضارة العربيّة الإسلاميّة”. وهو ما يبيِّن الفرق بين السيطرة الرومانيّة والفتْح العربي الإسلامي.

إنّ هذا التأثُّر والتأثير بين المَشرق العربي الإسلامي والمغاربي الذي أوضحه د. محفُل ومؤلِّف الكتاب د. بوخريسة بوبكر، يستطيع أيّ باحث أن يراه مُستمرّاً وفاعِلاً، على الرّغم من القطريّة العربيّة التي تأسّست بعد جلاء المُستعمِر الأوروبي وانحلال الدولة العثمانيّة وتحت غطاء جامعة الدول العربيّة، وهو ما تؤكّده الأحداث الجارية من حراك وتفاعُل مُشترَك بين شعوب المنطقة العربيّة كلّها وما يؤكّده الإعلام في تواصله الحديث والمتطوّر عبر محطّاته ومَواقعه ومُراسليه وانشداد الجمهور العربي إلى معرفة تفاصيل ما يدور في كلّ بقعة من بقاعه تفاعُلاً ومُشارَكةً وتعاطُفاً عمليّاً ونفسيّاً تؤكّد جميعها أهميّة تطوير جامعة الدول العربيّة التي احتفلت بعيدها التأسيسي وما زالت على حالها دونما تطوّر منذ أكثر من سبعين عاماً.

***

(*) كاتب من سوريا

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *