​في مئويّة خليل حاوي

Views: 111

ماجـد صالح الســـــامرّائي

ونبدأ الكلام في المناسبة بالسؤال عمّا إذا كان احتفال بَلْدته “الشوير” قد جاء، وإنْ متأخّراً، ليتوِّج باسمه أحد شوارعها فيكون أوّل شارع يحمل اسماً، وأيّ اسم، من بعد أن كانت شوارعها، وظلّت حتّى هذا التاريخ الذي انعقد فيه الاحتفاء، شوارع يُستدلّ عليها بالأرقام التي تتّخذها، حيث لكلّ شارع رقمه، لا بالأسماء، وهي التي أَنجبت أسماءً كبيرة في الأدب والفنّ والسياسة؟

وهل سيكون التمثال الذي أُقيم لشخصه مُنطلَقاً ودافِعاً لتخليد ذكرى مَن ولدوا فيها، واقترنت أسماؤهم بها مكاناً؟

وهل ستكون الخطوة الأُخرى بأن تُصبح الدار البسيطة التي كان يسكنها، والتي لا تعود بشيء منها لشخصه، “متحفاً” يضمّ ما تبقّى من “ذخائر” هذا الشاعر الكبير، حتّى وإن كانت “ذخائر من ورق”؟

نثير هذه الأسئلة مُدركين أنّ هذا الشاعر الكبير على مستوى الحداثة العربيّة كان أن “صنع تاريخه الخاصّ” بنفسه، ومن خلال قصيدته التي حرّكها الزمن/ وتحرَّكت، هي نفسها، بالزمن حركة أراد أن يكون لها “بُعدها الحضاري الجديد”.. فكان.

ونبدأ من النهاية

من بعد أن كتبَ قصيدته “لعازر62″، وضمّها إلى ديوانه الثالث “بَيادر الجوع” (1965)، وجدَ الواقعَ يخذل الشعر والشاعر في حركة واحدة، فما كان منه إلّا أن صَمتَ صمْت المُتشتّتِ واقعاً وحالة.. كأنّه يتمثّل قول “ابن المقفّع”: “ما أُريده لا يأتيني، وما يأتيني لا أُريده”.

ويوم اجتاح الصهاينة أرضَ لبنان في العام 1982، وجد الواقعَ يخون القصيدة والشاعر والإنسان مرّة واحدة، فلا يقوى أيّ منهم على الردّ المُفترض.. إلاّ هو، حيث ردَّ، محتجّاً، بنفسه. وبديل أن يُطلقَ ذخيرة بندقيّته على العدوّ، أطلقها على نفسه.. وانتحر، لأنّه وجد نفسَه غير قادرة على رؤية ما لا تريد أن تراه: الاجتياح.

قبل هذا، ارتبط خليل حاوي، شاعراً وشعراً، بسؤالَين: سؤال انبثق عمّا دعاه بـ”الرؤيا الشعريّة”، التي هي حلم كونيّ… و”سؤال الوجود” الذي اتّخذ من الإنسان مَدار بحثٍ ومَسارَ تقصٍّ.. لتنهض الدلالة عنده عبر هذَين السؤالَين/ ومن خلالهما.. وقد كتبَ ما سيُعرَّف نقديّاً بـ”القصيدة العضويّة” القائمة على ما ميّزها بـ”ثوريّة المُواجَهة”، و”جذريّة” ما حملت من توجّهات، ووضعت من حلول جاءت في “صيغة رؤويّة”.. وقد حمَّلَها سؤالَين:

“سؤال الشعر” القائم على بناء رؤيا جديدة..

و”سؤال الشاعر” المُنبثق عن رؤية حضاريّة…

وفي كليهما كان أن انفتح على الواقع بحساسيّة نستطيع القول إنّ فيها الكثير ممّا هو شخصي يخصّ الشاعر تكويناً فكريّاً احتكمت بداياته عليه بما كان له على تلك البدايات/ ومنها من تطلُّعٍ مستقبليّ مداه: بناء المستقبل وفاقاً لما كان يحمل من رؤية حضاريّة جديدة، منها/ وبها: ابتكر الصورة متمثّلاً وجه الواقع الذي أراد، ومُندفعاً بتصوّراتٍ لعالَمٍ يقوم على المُغايرة، ويرى رؤيا التغيير.

وكما عند السيّاب، هناك دائماً رؤية (وقد سمّاها رؤيا) تنتقل بصور التعبير من “واقع التمثيل” إلى “فضاء الحركة” التي كان كلٌّ من الشاعرَين يُعيد تشكيل الواقع بهاـ وهي ما سيسمّيها حاوي بـ”الرؤيا الانبعاثيّة”.

إلّا أنّ حاوي، في غير قصيدة له، يذهب أبعد ممّا ذهب فيه السيّاب، متحوِّلاً بالقصيدة من “واقع الرؤية” إلى “مدارات الرؤيا” فيربط عمل الشاعر بـ”الرؤيا النبوئيّة” بما لها من دلالات الفعل والمعنى، في عمليّة تساوُق بين “التحوّل” و”التحويل”.. فـ”الذّات الشاعرة” منه تحتضن “الكَوني” وما هو منه، ما يجعل من “الرمز الأُسطوري” عنده عنصرَ تمثيلٍ لغير معنى، بقدر ما يحتفظ الواحد منها بأبعادِ تمثيله واقعاً، مرتفعاً بهذا الواقع إلى مستوى الأسطورة المؤسِّسة (أو التي يؤسِّس الشاعر بها) لما يرمي تأكيده من حقيقة وجوهر يتّصلان بالإنسان والوجود. والرمز الأسطوري عنده مفتوح على بُعدَين: الخيال بوصفه إمكاناً، والإمكان باعِثاً على تصوّرات تتحوّل بالواقعي/ والواقع إلى “رموز دلاليّة” حيّة جعلَ منها أبعاداً حضاريّة لنهضة الإنسان العربي الجديد. فهو إذ يأخذ الأسطورة بجوهرها الرمزي، كما يفعل السيّاب، إنّما يُطوّر أبعاد الرمز باتّجاه “معانيه”، هو الشاعر، ليتّسع المعنى منها بشمول دلالته. فهو هنا لا يكتفي من الأسطورة كونها “حاملة معنى” فحسب، بل يجعل منها، شعريّاً، “خالقة معنى” يتركّز في عمليّة استشراف مستقبلي تحمله “رؤيا الشاعر”ـ التي هي “رؤيا الولادة الجديدة” التي نجد مصبّها الواسع في عمله الشعري الثاني “الناي والريح” (1961)، حيث يُشاهد بوعيه، لا بعينَيه وحدههما، ولا يأخذ نفسه بالمتخيّل فحسب.

في “لعازر62” نجد الشاعر يعيش صحوة الواقع بانهيار الحلم فيه. وهو في هذه القصيدة لا يخرج على طرائق البناء الشعري المُعتادة منه، والتي بنى عليها قصائده قبلها: فالرمز يولد، وينمو، ويتطوّر، مُنفتحاً بالرؤيا التي يحمل على عالَم له إيقاعه الواقعي، إلّا أنّه، هنا، إيقاع مؤطَّر برموز الانهيار.. كما يتحوّل “الابتهال” عنده، كما جاء في قصائد قبلها، إلى “مرثاة”، بحُكم ما حملت قصيدته الملحميّة هذه من مضامين مُغايرة أساسها الخَيبة، وعلامتها الانهيار.

ونجده في هذه القصيدة تحديداً لا يُركِّز على “الصورة الشعريّة”، كما في قصائد أُخرى له، قدر تركيزه على الفكرة والمَوقف وصلتهما بما تلقّاه، هو الشاعر، واقعاً، جاعلاً للأبعاد الرمزيّة علائقها الواقعيّة. أمّا محمولاتها الرمزيّة فهي محمولات مُنتزَعة من الواقع أكثر من كونها انحداراً تخييليّاً عن الرمز. فالرمز الأسطوري هنا ذو تماهيات واقعيّة، دلالاتها مُقترِنة بما “وقع” و”حصل” ممّا يواجهه الإنسان مواجهة هزيمة وانكسار، لا ولادة محمّلة بروح التجدّد.

ولهذه القصيدة، التي شكَّلت ختام الذروة الشعريّة عند الشاعر، وبما انبنت عليه من انثيالات المَشاعر والأحاسيس والرؤى، جذر، ومحور:

– فأمّا الجذر فهو في نموّ الدلالات وتصاعدها، بدءاً من الحال الطبيعي والأمر الموضوعي، انعطافاً إلى الرمزي الذي يُعمّق الدلالة الواقعيّة للقصيدة..

– وأمّا المحور فهو ما يتمثّل في الولادة والموت (بخلاف الأسطورة التمّوزيّة التي تقوم على: الموت، والولادة، فالتجدُّد).

وفي هذه القصيدة يتداخل عالَمان: عالَم الواقع بمُعطياته التي خذلت “رؤيا الشاعر”، و”عالَم الرؤيا الأسطوريّة” التي جعلت التعبير عمّا هو واقعي أغنى دلالة في ما خلق من مسارات أُخرى للمعنى. ويبقى “استدعاء الرمز” من طرف الشاعر متواصلاً على امتدادات مَسار القصيدة، يفتح آفاق التحوّلات أمام ما لها من محمولات واقعيّة أخذت بُعدها الرمزي.

من هنا انفردت هذه القصيدة بما حملت، أم حمَّلَها الشاعر، من خصوصيّة الرؤيا والتعبير بالقياس إلى قصائد أُخرى له: فهذا التحرّك الفاعل، والمُتفاعل، بين “الرمز” و”الواقع”، وبين “الواقع” و”الرمز” يُكسب التعبير الشعري فيها خصوصيته بما يحمل من أبعاد تتّصل بمعانٍ ودلالات علامته الكبرى الانهيار: انهيار الذّات بانهيار الواقع وتراجُع أصوات الحياة فيه. فهي تُفارِق رؤى الخلق والتجدُّد في قصائد أُخرى له مثل: “الجسر”. وبديل أن يكون الحال “حال قوّة” نجده يمثِّل “حالة ضعف” سببها انكسار الواقع برؤيا الإنسان.

العودة إلى البدايات

مع أنّه دخل معترك الحداثة العربيّة متأخِّراً بعض الشيء عمَّن عُرفوا بـ”الشعراء الروّاد”، فإنّه ما لبث أن أعطى الحداثة في قصيدته بُعداً خاصّاً لم يجد مجلّة “شعر” قد توفّرت عليه، وهو الذي رافقَ إصدارها في عامها الأوّل (1957)، بالتزامن مع صدور أوّل عمل شعري له “نهر الرماد”، ولا هي، المجلّة، “استساغت” ذلك “التوجّه القومي العربي” منه، فتمنّعتْ عن أن تفتح له صفحاتها كما أراد، ولا طاوعها هو، شعراً، بما اختطَّت لـ”شعرائها” من توجّه.

وكما كان التحوّل منه عن “شعر” قد اقترن بتحوّل تجديدي له خصوصيّته من حيث “الرؤيا” (التي جعل منها تسمية لحالة مثّلت بديلاً فنيّاً وموضوعيّاً لـ”التجربة”، تسمية، عند مجايليه)، فإنّ “رموزه”، هي الأُخرى، مثّلتْ انعطافة حيّة جمعت بين الواقع، في حيويّة حركيّته، وقد تمثَّلها في صورة “خلق جديد”ـ والأساطير برمزيّتها الدلاليّة، و”شخصيّاتها” التي حرَّرها من بُعدها الديني الذي انطوت عليه في “الكُتب المقدَّسة”، ما جعلَ مَن ربطوا بين تجربته هذه وما أطلقوا عليه “البُعد الحضاري” في حركة الحداثة العربيّة، يتمثّلون في ما كتب “ميلاداً آخر” للقصيدة الجديدةـ وإن كان الشاعر فيها قد بقي الأقرب إلى عالَم بدر شاكر السيّاب الشعري، مع تميُّز كلٍّ منهما بفرادة رؤياه، وخصوصيّة تجربته، وإن جمعتهما خصائص موضوعيّة مثل: الفداء، والموت، والانبعاث، والتجدُّد.. حيث جاء عمله الشعري الثاني “الناي والريح” (1961) متمثّلاً هذا كلّه: “البطل” في انتصاره، ومن ثمّ، في “لعازر 62” البطل في انكساره. (yellowtail.tech)

***

(*)  كاتب وناقد من العراق

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

 

   

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *