عبد الوهاب البيّاتي (1926-1999)… شاعر المنفى والبلاد المهشَّمة

Views: 1182

سليمان بختي

يعتبر الشاعر العراقي عبد الوهاب البيّاتي (1926-1999) احد أهم رموز الشعر العربي الحديث لجيل ما بعد الريادة أي السياب والملائكة والحيدري، وأحد رموز المنفى الشعري العراقي. مضى على غيابه واحد وعشرون عاماً، غادر العراق وهو دون الثلاثين وتوفي خارجه عن عمر الـ73 عاماً ودفن في دمشق في مقبرة الغرباء بالسيدة زينب.

ولد عبد الوهاب البيّاتي في بغداد في منطقة الشيخ عام 1926 والتحق بالكلية العسكرية ثم تركها إلى دار المعلمين العالية (1944) وحاز على الليسانس في اللغة العربية (1950). كان ديوانه الأول “ملائكة وشياطين” (1950) أما ديوانه الثاني فكان “أباريق مهشّمة” (بغداد 1954) و”بيروت” (1955) وحقّق له شهرة.

ويقول البياتي عن تلك المرحلة: “لم أضع نفسي منافساً لأي شاعر… أفكر في الشعر مستقبل الشعر”. كتابي “أباريق مهشّمة” اعتبره النقّاد أول ديوان حداثي في الشعر العربي”.

عمل مدرّساً في الرمادي وساهم في تحرير مجلة “الثقافة الجديدة” التي أغلقتها السلطات واعتقلته وفصلته عن وظيفته بسبب مواقفه الوطنية. وما إن أخرج من المعتقل حتى غادر إلى بيروت عبر دمشق. واستغرقت هذه الرحلة عمره كله إلا من زيارات قصيرة لبغداد. من بيروت انتقل إلى القاهرة محرراً في جريدة “الجمهورية”. اصدر ديوانه “المجد للأطفال والزيتون” (1956) ثم “اشعار في المنفى” (1957) وترجم كتاب بول ايلوار “عن الحب والحرية” (1957).

 

مثل العراق في مؤتمر التضامن الآسيوي الإفريقي عام 1958. توجّه إلى فيينا لتمثيل العرب في مؤتمر الكتاب والفنانين بدعوة من مجلس السلام العالمي. بعد ثورة 14 تموز 1958 عاد إلى العراق وعيّن مديراً للتأليف والترجمة والنشر في وزارة المعارف.

عام 1959 عيّن مستشاراً ثقافياً في سفارة العراق في موسكو ثم ترك عمله في عام 1961 ليصبح أستاذاً في جامعة موسكو وباحثاً علمياً في معهد شعوب آسيا. عام 1963 أسقط الانقلابيون الجنسية العراقية عنه ولكنه استعادها لاحقاً. وعام 1964 غادر موسكو إلى القاهرة واستقر فيها حتى عام 1972. عاد بعدها إلى بغداد وعيّن مستشاراً في وزارة الثقافة ثم ملحقاً ثقافياً في اسبانيا (1979-1990) وسمّيت في شعره بالمرحلة الاسبانية وأقام علاقات مهمة مع شعراء اسبانيا ورموز ثقافتها وترجمت دواوينه إلى الاسبانية.

عاد عام 1990 مجدداً إلى بغداد وعاش ويلات حرب الكويت. توفيت ابنته في الولايات المتحدة فغادر العراق ولم يعد أبداً. وكان في عمان (1991) ثم إلى دمشق حتى وفاته عام 1999.

أمضى البيّاتي 37 سنة في المنفى وكافح لأجل قصيدة وعالم تسوده القيم. كتب في إحدى قصائده: “أهكذا تمضي السنون/ ونحن من منفى إلى منفى ومن باب لباب/ نذوي كما تذوي الزنابق في التراب/ فقراء يا قمري نموت/ وقطارنا أبداً يفوت”.

 

ترك البياتي العديد من الدواوين إذ كان دائماً مندفعاً في الشعر والكتابة “ولم يشغلني عن الشعر شيء في حياتي على الإطلاق” يقول. كتب عام 1959 “عشرون قصيدة من برلين” و”كلمات لا تموت” (1960)، “طريق الحرية” بالروسية (1962) و”سفر الفقر والثورة”، “الذي يأتي ولا يأتي” (1966)، و”الموت في الحياة” (1968)، “تجربتي الشعرية” (1968)، “عيون الكلاب الميتة” (1969)، “بكائية إلى شمس حزيران والمرتزقة” (1969)، “الكتابة على الطين” (1970)، و”يوميات سياسي محترف” (1970)، “قصائد حب على بوابات العالم السبع” (1971). صدرت أعماله الكاملة في 3 أجزاء (1972). “سيرة ذاتية لسارق النار” (1974)، “كتاب البحر” (1975)، “صمت شيراز” (1975)، “صوت السنوات الضوئية” (1979)، “مملكة السنبلة”، “بستان عائشة” (1989)، “كتاب المراثي” (1995)، “الحريق” (1996)، “خمسون قصيدة حب” (1997)، “البحر بعيد أسمعه يتنهد” (1998)، “ينابيع الشمس” (1999)، وله مسرحية بعنوان “محاكمة في نيسابور” (1973)، وجمعت حواراته في كتاب “كنت أشكو إلى الحجر”.

عبر البياتي في شعره عن الإنسان العربي في قضاياه وتطلعاته وخصوصاً في الفترة الخصبة بين الخمسينات والسبعينات. استمدّ حواره من التاريخ والأسطورة ليعبر عن رؤيته الشعرية الداعية إلى الثورة ورابطاً نفسه بثورات كل العصور والبلدان والمدن. تأثر بالأدب الواقعي وبقراءاته لكبار المتصوّفة كما قراءاته لناظم حكمت ونيرودا وماياكوفسكي. وعرف شعره بالنزوع نحو العالمية والصوفية والاسطورية التي شكلت إحدى ملاحم حضوره الشعري وحداثته.

وظف البياتي ظروفه الذاتية والموضوعية وعلاقاته الشخصية لترسيخ اسمه كشاعر كبير مع نرجسية لاسعة. ولقد حظي شعره بالدراسة والاهتمام على المستوى النقدي والاكاديمي فكتب عنه الناقد إحسان عباس دراسة تناولت كتابه “أباريق مهشّمة” وهذه الدراسة لعبت دوراً في تطوره الفكري والفني والشعري على ما يعترف البياتي نفسه. وكذلك رشحه نجيب محفوظ لجائزة نوبل للآداب. وكانت له صداقات مع شعراء عرب مثل نزار قباني ومحمد الفيتوري وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري ومحمود درويش وغيرهم.

تصدّى البيّاتي للقمع السياسي في العالم العربي. كتب غير مرة، “يموت الديكتاتور ويبقى الشاعر”. كما عرفت قصيدته “الطاووس” شهرة في العالم العربي ويقول فيها: “مدن بالطاعون تموت، وأخرى يضربها الزلزال/ ومجاعات وحروب في كل مكان ودمار/ وحضارات وعصور تنهار/ لكن الطاووس بلا خجل، يظهر عورته للناس/”.

 

ولبث البياتي يرتحل من مكان إلى مكان حتى قال في كتابه “مملكة السنبلة” (1979) فيما يشبه الرؤيا: “يموت الشاعر منفياً أو منتحراً أو مجنوناً أو عبداً أو خادماً في هذه البقع السوداء وفي تلك الأقفاص الذهبية، حيث الشعب المأخوذ العاري بين حد الماء إلى حد الماء يموت ببطء تحت سياط الإرهاب وحيداً معزولاً منبوذاً محروقاً قرب الأقفاص”.

لعلّ هذا الشعور الصعب والقاسي بالعزلة والمنفى والنبذ والرهبة والجنون جعله يكتب قصيدة من أروع قصائد الشعر العربي الحديث بعنوان “مسافر بلا حقائب” يقول فيها: “من لامكان/ لا وجه، لا تاريخ لي، من لامكان/ تحت السماء، وفي عويل الريح اسمعها تناديني تعال/ مستنقع التاريخ يعبره رجال/ والأرض ما زالت، وما زال الرجال/ يلهو بهم عبث الظلال/… أبداً لأجلي، لم يكن هذا النهار/ الباب أغلق! سأكون! لا جدوى، سأبقى دائماً من لامكان/ لا وجه، لا تاريخ لي، من لامكان/”.

كأن قصة حياة الشاعر عبد الوهاب البياتي هي قصة الزمن العربي، قصة الحصار والمنفى والحرية ورؤية عالم ينهار. فإلى أين يمضي الشاعر، والى أين ترتحل الأنام؟ والى أين تذهب بلادنا؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *