أراني وقد صرت السّؤال!
د. غادة السمروط
ظلّلتني غيمةٌ، فتساقطَتْ كلماتٌ رَوَت قحطًا استبدّ بي وامتدّ في أرجائي، وأنبتَتْ في صحرائي غرسًا هطَلَتْ عليّ معانيهِ ليليّة الألوان.
أنا الآن في ظلٍّ لا أُدركُ اسمَه، تحت شجرةٍ تتزاحم حولها الأسئلة نقاطًا من ماء وحبّاتٍ من تراب. بالأمس حسبتُها جذورًا وأغصانًا، واليومَ أراها آمالًا وفضاءات.
أنا الآن في واحة الفكر، أحاول فراغًا لأكون كلمة، لأملأني حياة. الشّمس تُظلم الرّؤية، وتحرق الصّمت في صوتي. كلّ شيء حولي يتحرّك في سكون، ويتوهّج في غموض. الحياة أراها تمتدّ أمامي كما البحر يضجّ اضطرابًا أخشى أمواجَه، تطفو على صفحاتِه كلماتٌ تغفو حينا، وتحلم في كلّ حين. يوقظها نورٌ يصّاعد ويهبط، كما قلبي عند الخوف.
أنا في واحة الفكر أجوب ظلالَها، أتأمّل أفياءها، أتسلّل إلى منعطفاتها، أبحث عنّي، عن معنى يمحوني قلقًا، ويكتبُني سعادة، عن كلمة تكونُني، ترسمُني أملًا، وتلوّنُني فرحًا تعكسه إليّ مرآة الماء، فأزهو بقطعة من سماء.
أنا في واحة الفكر أستوقف الآيات فيّ وحولي، أسائلها نورًا أراه يغادرني. كلُّ ما ألوذ به يضعفُ، يتكسّر، يُظلم، ويسقط… تعبُرُني الأمانيّ منهَكةً، والأحلام ودّعَتْها العصافير، وباتتْ تتسكّع في أسفل المساء، عند رُسُوّ الزّبد على الماء.
أنا في واحة الفكر أتوه في شرود، أتوكّأ على الرّيح، تتجاذبني أشرعتُها، أبحث عن كلمةٍ أبنيها، فتأويني، أسكن إليها، فأصيرُها وتصيرُني. أنا أحاول سقفًا لا فاصلة فيه ولا نقاط، أسعى إلى دفءِ معنًى يهبّ عليّ، يبدّد تأوّهًا يخنق في صدري الهواء، وينزع بردًا تذوب فيه الحياة.
مشرّدةٌ أنا في واحةِ الفكر، أُقَلّبُ أوراقَ الليل والنّهار، أصعد جبال الدّهشة وأهبط واديَ الحقيقة، أحاول التحرّر منّي لأكون ذاتي، فلا أُفلح! أبتعد إليّ، فيتبعني كلُّ ما أرى، تهاجمني أفكارٌ على هيئة صوتٍ بغير صدى.
لماذا كلّما أصبو إلى ماءٍ، يكون يباسٌ وجفاف؟
وكلّما أتطلّع إلى نورٍ، تكون عتمةٌ وصقيع؟
لماذا كلّما سعيْتُ لأكون كلمةً، ينهار المعنى وتتناثر الحروف؟
هو السّؤال يتقدّم بي في الحياة، أقف عند شجرته، تظلّلني أغصانها، أنتظر كوّة تمدّني بقبَسٍ يبدّد علامة الاستفهام.
يطول انتظاري… ولا نورَ يُشرق، لا كلمة تهمس، وأراني وقد صرتُ السّؤال!
