خمسة عشر عاماً على غياب هشام شرابي… المفكر في الحرية والتنوير والنهضة

Views: 1569

سليمان بختي

مضى على غياب المفكر هشام شرابي (1927-2005) خمسة عشر عاماً. ولم يزل حضوره في الثقافة العربية راسخاً باعتباره صاحب الوعي النقدي الشقي والذي انتقل عبر طروحاته في نقد النظام الابدي إلى النقد الحضاري ومنه إلى النهضة الشاملة.

ولد هشام شرابي في يافا فلسطين في 4 نيسان 1927، والده كان حاكم صلح في يافا فترة ما بين الحربين. درس في مدرسة الفرندز في رام الله. ثم انتقل إلى بيروت لمواصلة دروسه في الانترناشونال كولدج. وفي كل هذه النشأة المدرسية كان شرابي بعيداً عن الثقافة التقليدية حتى انه يكتب في “صور الماضي” انه “منذ الصغر، في المدارس الأجنبية… وكنت محظوظاً خصوصاً إني درست على مدرسين غرسوا في نفسي الثقة والشعور بالاستقلال”.

 

التحق بالجامعة الأميركية في بيروت وتخرّج منها بإجازة في الفلسفة (حزيران 1948) وفي تلك الفترة عاش شرابي أول تجربة سياسية أثرت في حياته طويلاً. وبعد أن مال لفترة قصيرة إلى القومية العربية ونشر في مجلة “العروة الوثقى” في الجامعة الأميركية أول مقال له وكان بعنوان “طريق الوجوديين”. انخرط شرابي بقوة في 19/ 6/ 46 في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه أنطون سعادة (1904-1949) في ثلاثينات القرن الماضي. وانعقدت بينهما صداقة قوية وحميمة. ويقول شرابي حول انضامه إلى الحزب بأنه كان يبحث آنذاك “عن عقيدة ألفّ حياتها حولها، عن ذات تتجاوز الأنا الفردية وعن هوية اجتماعية تضفي على حياتي وجوداً حقيقياً محسوساً فوجدتها في عقيدة “الحزب السوري القومي الاجتماعي”. ولكن ماذا مثل سعاده لشرابي من معانٍ وروابط “الرجل الحديث بالمعنى الكامل للكلمة”. و”إن لقائي بسعاده كان أهم حدث في حياتي”.

نال الماجستير في الفلسفة من جامعة شيكاغو (1948)، وكانت رسالته بعنوان “مشكلة القيم في فلسفة هارتمن ولويس” (ترجمت ونشرت عن دار نلسن بعد وفاته عام 2008). وعاد إلى بيروت مجدداً بمهمات تنظيم صفوف الحزب وعيّن وكيلاً لعميد الثقافة فيه. ولعلّ قربه من سعاده في تلك الفترة وكان ناموس الزعيم جعله يكتشف فيه “المفكر الفذّ والمثقف العضوي” واكتشف في كبته “روح الحداثة والتنوير في تفكير أنطون سعاده وبخاصة في علمانيته وايمانه بالعقل والعلوم الحديثة وحتمية التقدم البشري”.

عمل شرابي في تلك الفترة بشغف واندفاع وكان ماثلاً أمامه حرية المجتمع ونهضته وترسيخ هويته وتحرير الإرادة وتعزيز قيمة الإنسان وكرامته. ولكن هذه التجربة كانت قصيرة نسبياً وانتهت بصدمة مؤلمة إذ ضُرب الحزب من قبل السلطة اللبنانية وحكم على رئيسه بالاعدام  ونفذ الحكم عام 1949. وعمدت السلطة إلى ملاحقة أعضاء الحزب فقرّر شرابي  العودة إلى أميركا ومتابعة دراسة الدكتوراه، وكانت بعنوان “العلاقات الثقافية بين أوروبا والعالم العربي في القرن الحادي عشرة في طليطلة”، لم تنشر أطروحته ولم تترجم إلى العربية بعد.

في ربيع 1953 تعاقد مع جامعة جورجتاون محاضراً في مادة “تاريخ الفكر الأوروبي الحديث” واستمر أستاذاً فخرياً فيها حتى وفاته في بيروت عام 2005.

 

عاش هشام شرابي في عزلة أكاديمية في السنوات الأولى من تدريسه بالجامعة وكان قد قطع صلته بالحزب بعد اغتيال المالكي عام 1955 في دمشق. كان منهمكاً ببعض الأبحاث الأكاديمية المتعلقة بالمحاضرات التي يلقيها. أخرجته حرب 1967 من عزلته الأكاديمية فانهمك بدراسة أسباب الهزيمة والتخلف والبحث عن العوامل التي تؤثر في الصراع العربي الإسرائيلي. وفي فترة لاحقة كان قريباً من منظمة التحرير الفلسطينية وخصوصاً خليل الوزير “أبو جهاد”.

كان في حياة هشام شرابي  ثلاثيات كثيرة. في المدن: يافا التي كلما تنشق زهر الليمون ذكرته بطفولته فيها. عكا: أجمل مدينة رأيتها في حياتي. لم أجد مكاناً آخر يماثلها زرته وبياضاً… عكا هي ذاكرتي عن الوطن”. وبيروت “الرائعة في ازرق سحرها واخضر اشجارها وأحمر قرميدها”.

وفي ضميره: فلسطين وأنطون سعاده وهمّ المجتمع العربي. وفي كتبه الفكرية: النقد الحضاري (1990)- (2005) و”النظام الابدي” مترجم (1987) و(2000) وترجمة موفقة من محمود شريح، “مقدمات لدراسة المجتمع العربي”، في خمس طبعات آخرها (نلسن، 1999).

وفي كتبه الأدبية: الجمر والرماد (1978) و”الرحلة الأخيرة” (الدار البيضاء 1988) وصور الماضي (1993) (1998).

وفي كتبه عن القضية الفلسطينية “المقاومة الفلسطينية في وجه إسرائيل وأميركا” (بيروت 1970) “الفدائيون الفلسطينيون صدقهم وفاعليتهم”، “نصوص ومقالات عن القضية الفلسطينية” (2001). وفي كتبه عن العالم العربي: “الحكومات والسياسات في الشرق الأوسط في القرن العشرين”، “القومية والثورة في العالم العربي”، “الدبلوماسية والاستراتيجية في الصراع العربي الإسرائيلي”. وفي كتبه عن الثقافة والمثقفين: “المثقفون العرب والغرب” (1971) (1999) “أزمة المثقفين العرب” (2002) وهو آخر ما كتبه، وقد ضمنه حوارات مع عمرو عبد السميع وصقر أبو فخر.

 

وكان يحضّر كتاباً عن دور الثقافة في العالم العربي وآخر عن رحلته إلى فلسطين بعنوان “سبعة أيام في فلسطين” عام 2004. على اثر زيارة قام بها إلى فلسطين عام 2001 زمن الانتفاضة الثانية، حتى انه لبس ثياب الممرض حتى يزور بعض المناطق المحظورة. وظهرت صورته في الحوار الذي أجراه معه صقر أبو فخر (5 حزيران 2001، السفير) عاد مفعماً بالأمل بالجيل الجديد.

كما ترأس عام 1971 فصلية “مجلة الدراسات الفلسطينية بالانكليزية وصندوق القدس منذ تأسيسه عام 1977، والمؤسسة العربية الأميركية للشؤون الثقافية عام 1979 وكان رئيساً للجنة التنفيذية في المركز الفلسطيني للدراسات السياسية عام 1990.

أما آخر محاضرة ألقاها فكانت في نادي خريجي الجامعة الأميركية في بيروت وكانت بعنوان “أنطون سعاده صورة شخصية عن قرب” (2004، وقبل أشهر قليلة من وفاته).

كان هشام شرابي منهمكاً على العمل لأجل تجاوز مجتمعنا ازماته فكتب في مقدمة كتابه “النقد الحضاري…”: “إذا أردنا لمجتمعنا العربي أن يتجاوز أزمته المتفاقمة وان يسترجع قواه ويدخل التاريخ فلا بدّ من القيام بعملية نقد حضاري تمكّنه من خلق وعي ذاتي مستقل واستعادة العقلانية الهادفة”.

 

ولم يكتفِ بل استطاع أن يؤسس منهجاً علمياً تحليلياً ونقدياً للكشف عن العوامل التي تعرقل النهوض من خلال كتابه “النظام الأبوي” واشكالية تخلف المجتمع الغربي. لا أزال اذكر في حوار مطوّل،حين سألته عن المعوّقات الديموقراطية التي تكمن في اللاوعي الديني الموروث وفي البنية التركيبية للعائلة العربية، أجاب: “اعتقد أن العائلة العربية في الأساس ليست عائلة ديموقراطية. هناك الأب المسيطر، الرجل الملهم الفرد الذي يقود الأمة شيخ القبيلة أو العشيرة أو الطائفة. الخطوة الأولى في التحرير تكمن في التحرير الذاتي وبدايته التخلص من عبودية الفكر المسيطر”.

عندما اصدر كتابه “الجمر والرماد” (1978-1998) أثار صدًى طيباً لصدقه وجرأته وصراحة مواجهة الذات والآخرين والقناعات. جعل من سيرته الذاتية الفكرية مصدراً لمعرفة تطوّره الفكري ومواجهته للتحولات التي عاشها. وخرج بمعرفة عقلانية تحررية. أو كما قالت خالدة سعيد ازدوج لديه الذات بالموضوع.

كان أكثر ما استحوذ على شرابي هو تحقيق الحداثة في المجتمعات: عقلنة الحضارة وعلمنة المجتمع.

ولا أزال اذكر محاضرته في جامعة قسنطينة في الجزائر (2001) حين شعر أن هناك نقزة في القاعة من كلمة “حداثة” كيف استبدلها بسرعة بكلمة “التغيير الاجتماعي” فسلكت الأمور واصاب المعنى. ورأيته يبتسم مندهشاً في مكتبة الإسكندرية عندما طرح أحد المحاضرين مفهوم “النظام الامومي” مقابل “النظام الابوي”.

 

كنت قريباً من هشام شرابي، المفكر والصديق، في سنواته الأخيرة في بيروت. أراه واقفاً على شرفة منزله قرب المنارة يتأمل بحر بيروت ويقول: “هذا البحر وهذا الهواء امتداداً لبحر عكا ويافا. كم تبدو الأشياء واضحة. ليس صالحاً إلا ما نصلحه نحن. وليس فاسداً إلا ما نفسده نحن”. أو حين اتصل بي في 30 آذار عام 2000 سائلاً عن موعد انطلاق المظاهرة في يوم الأرض لأنه يريد المشاركة. وكان في سبعينه وبدأت صحته تعتلّ.

كان هشام شرابي مفكراً في الحرية والتنوير وأحد رموز ومعالم حركة التحرر الوطني والاجتماعي والحضاري في بلادنا. فتح الباب لمفاهيم كثيرة كي تدخل السجال والنقاش في حياتنا. ولم يطلب في مسعاه ونضاله أمراً لنفسه بل همّه انتصار القضية وتقدّم المجتمع.

كان متصالحاً مع نفسه ومع فلسطينيته وسوريته وعروبته وانسانيته.

كان سقراطياً يرى الحياة ببصره وببصيرته ولكنه بكلمات ادونيس “كان وطناً آخر داخل وطنه”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *