أغرب الطقوس في احتفالات المكسيك بيوم الموت

Views: 935

د. محمّد م. خطّابي*

عرف سكّان المكسيك من شعوب المايا والأزتيك وسواهما من الحضارات السّابقة للوجود الكولومبي في أمريكا اللاتينية مؤخراً إحتفالات كبرى بيوم الموت، وتعتبر هذه الإحتفاليات من أغرب الطقوس الغرائبية التي تجسّد نظرتهم للغيب، وللعالم الآخر، والبعث، وهكذا تعرف الحياة في مختلف مدن وقرى المكسيك في فاتح تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام يوماً هادئاً لم يألفه الأجانب القاطنون في مدينة مكسيكو سيتي العملاقة، إذ لم يكونوا يرون في الشوارع سوى القليل من المارّة، يجوبون الأزقّة مهرولين، متوجّسين، مشدوهين، كانت هناك بعض قشور البيض الملوّن المكسّر عند مداخل بعض الدور والأبواب، وكان الأمر يبدو غريبا أو على الأقلّ غير مألوف. إتّضح بعد ذلك أنّ السكّان قد غادروا المدن، وأمّوا المقابر، كانت أصوات الغناء والصيّاح تتعالى في كل مكان، ورائحة البخور الغريبة تزكّم الأنوف، والناس ما برحوا في حيرة من أمرهم، يهرولون وبأيديهم باقات من الورود والزهور المختلفة الألوان، والأشكال، والأحجام، وفى الأسواق لم تكن ترى سوى القرع (اليقطين) وقد إحتلّت الصّدارة بين جميع الخضر والفواكه والمعروضات.

تقاليد متوارثة

الإحتفال بـ “يوم الموت” كان من أكبر التظاهرات التي يقيمها الأحياء لموتاهم، فالمكسيكيّون يعتقدون أنّ الموتى في هذا اليوم يعودون إلى دورهم، فيعدّ لهم أهاليهم أطيب المأكولات، وأشهى الأطعمة، وبالذات تلك الأطباق التي كان يحبّها الميت عندما كان على قيد الحياة، فضلاً عن إعداد أنواع مختلفة من الفواكه، والعسل، والسكّر، والملح وبعض الحلوى التي يطلقون عليها “خبز الموتى” ويعتقدون أن موتاهم يخرجون إليهم في ذلك اليوم فيقضون الليل كلّه معهم في المقابر فيسهرون فيها حتى الصّباح.

هذه التظاهرات، والإحتفاليات الغريبة تنحدر أصولها وجذورها من العادات الضاربة في القدم للسكّان الأصليين للقارة الامريكية، وقد أصبحت هذه العادة مزيجا بين العوائد الشعبية المتوارثة العتيقة، ومن المعتقدات التي إستجدّت بعد إكتشاف العالم الجديد. وما زالت هذه العادات منتشرة بين الناس على إختلاف طبقاتهم، ومستوياتهم الإجتماعية والثقافية، ولهذه الإحتفالات عندهم رموز عميقة، وهي تجسيم لمفهوم الإنسان ونظرته للموت كحدث طبيعي لا يمكن ردّه أو صدّه أو التغلّب عليه، أو تفاديه، يشلّ حركة الكائن، ويعود به من حيث أتى أوّل مرّة.

عرفت مختلف الحضارات القديمة هذا النّوع من الطقوس التي تحتفل بالموت كظاهرة طبيعية محيّرة، وقد خلّفت لنا تلك الحضارات معالم، ومآثر، ومقابر أشهرها أهرامات مصر بالجيزة وسقارة وسواهما، فضلا عن أهرامات حضارات السكّان الأصليين في القارة الأمريكية، إذ يعتبر الموت في هذه الحضارات نوعا من التصرّف العلوي، وحدوثه لا يبعث على الحزن والأسى، حيث يتقبّله الناس كحدث طبيعي.

ويرجع الإحتفال بالموت في الحضارات المكسيكية إلى ما يزيد على أربعة آلاف سنة خلت. ومثلما هو الشأن عند الفراعنة وبعض الحضارات القديمة الأخرى، فقد عثرت على بقايا هياكل آدمية وبجانبها حاجياتها الخاصة، ومجسّمات مصغّرة وأقنعة وأوان وجواهر ومعادن وحليّ نفيسة من ذهب وفضّة، ويشم وسواه من المعادن. وكانت كلّ ميتة عندهم لها تفسير خاص، فالمحاربون عندما يموتون يصبحون “رفقاء الشمس” وكذلك النساء اللواتي يمتن عند الولادة. ويذهب الأطفال إلى مكان أشجاره وثماره تذرّ لبنا، أمّا هؤلاء الذين يموتون على إثر مرض عضال، أو الذين ماتوا على إثر نزول صاعقة، أو هبوب عاصفة، أو الذين ماتوا غرقاً فلهم مصير آخر بعد الموت أقلّ درجة من السّابقة.

ومن عادة الأزتيك أنه عندما كان يموت أحدهم يجعلونه يجلس القرفصاء ثمّ يوثقونه ويضعونه في قماش من قطن، وكانوا يضعون في فمه قطعة من يشم كانت ترمز إلى قلبه، وعليه، أن يتخلّى عنها وهو في طريقه إلى “متكتلات”وهو مكان الموتى، ثمّ يخيطون الكتّان والجثّة بداخله. وفي ساحة بعيدة عن المدينة يعدّون منصّة عالية يضعون عليها الميت محاطاً بحاجياته الخاصّة التي كان يستعملها في حياته، وتعدّ أسرته بعض المأكولات التي غالبا ما تكون من عجّة الذرة، واللوبياء. ويقوم كبير القوم ليتأكّد من أنه لا شيء ينقصه، ثمّ تضرم النيران عليه على طريقة الهندوس، وعندما يعلو اللهب في الفضاء يجلس أفراد عائلة الميت وهم يتأمّلون نهاية عزيزهم وينشدون أغنيات هي مزيج بين الحزن والفرح في آن واحد، ثمّ يوضع الرّماد داخل وعاء إلى جانب اليشم، ويعتقد الأزتيك أنّ الموت ليس سوى شكل جديد للحياة، كما كانوا يعتقدون في العالم الآخر، وكان كل ميت يصنّف حسب الأعمال التي قام بها في حياته، وعندما يصل إلى السماء السابعة يترك هناك قطعة اليشم التي وضعها الأحياء في فمه عند مماته.

وكان السكان الاصليّون يؤمنون بالبعث، وهم يفسّرون ذلك بإختفاء النجوم وراء الآفاق، ثم تعود للظهور من جديد، كما يشبه عالم الاموات عندهم كذلك بحبوب الذرة التي بعد أن ترمى في أحشاء الثرىَ تعود للحياة من جديد في شكل نبات قائم مثمر، وكانوا يعتقدون أنّ الخلود للرّوح وليس للجسد الذي يلحق به الفناء. وكانت الجمجمة عندهم لا ترمز للموت وحسب، بل إنّها ترمز للحياة كذلك، إذ أنها تعني الأمل في البعث من جديد. وكانت الأرض عندهم بمثابة محطّة للمرور، أو جسر للعبور إلى عالم آخر، وهكذا كان مفهوم الزّمن أو العالم المرئي، والعالم غير المرئي ليس سوى عالم واحد، وهنا تكمن ثنائية الإعتقاد في الموت والحياة، وأنّ الموت في آخر المطاف هو دليل الخلود وليس العكس.

يوم الموت

الموت عند السكان الأصليين يسوّي في نظرهم بين جميع الأحياء ولا يمكن لمخلوق أن يفلت منه، وهو واقع يومي يحاول الناس نسيانه، إلاّ أنه يدركهم في آخر المطاف مهما طال مقامهم في هذه الديار، ويقاسم الشاعر الأزتيكي الكبير”نيزاو الكويوتل” شاعرنا العربي القديم زهير بن أبي سلمى المزني هذه الحقيقة فيقول هو الآخر: “هكذا نحن أحياء- أموات.. لابدّ لنا يوماً أن نرحل.. عن هذا العالم الأرضي.. مهما طال بنا به المقام”.

ويعمل الناس في المكسيك مرّة من كل عام في هذه التواريخ على ارتداء لباس المنيّة، أو قناع الحِمام يتمثّلونه في الحياة قبل الممات إستذكاراً وإستحضاراً لموتاهم، ومن ثمّ جاءت هذه الإحتفالات، حيث يخيّل للناس أنهم سيلتقون بموتاهم، وفي هذه الأيام يوقد في أعلى مكان من المنزل نور خافت إلى جانب مائدة وضعت عليها أشهى المأكولات، وأطيب الفواكه وألذّ الحلويات التي كانت أثيرة لدى الميت في حياته، وفي يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر يبدأ الإحتفال، وعندما تسمع ضربات النواقيس (12 ضربة) عندئذ توقد الشموع والأنوار في مختلف الدور، وفي تلك اللحظة تخلو المدينة من المارّة ويسودها سكون شامل، ويبدأ الأطفال في إيقاد عيدان الندّ والبخور التي تشيع روائح زكية في مختلف أركان البيوتات والمنازل، وتوضع إلى جانب المائدة ورود، وأزهار، وشموع بيضاء، كما يوضع كوب من ماء ومجسّمات من طين وفخار لإستقبال الموتى، وفي الصّباح يتخيّل الناس أنّ موتاهم الصغار يأتون لزيارتهم ويشاركونهم طعام الإفطار، وفي الساعة الثانية عشرة زوالا تستبدل الزهور البيض بالصّفر ثم تقرع النواقيس من جديد لإستقبال الموتى الكبار، كما تستبدل الشموع بقناديل سوداء، وشموع أكبر حجماً من الشموع السابقة، وفي الساعة الثانية عشرة ليلا يترحّم على الأموات، وعند الصباح تقرع الأجراس من جديد، عندئذ يخرج الناس من دورهم ويتّجهون للمقابر، وأشاعوا البخور في الأجواء، ويقضون الليل كله إلى جانب أحبّائهم الرّاحلين وقد غطّوا القبور بالورود والأزهار، وفي الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر يتزاورون في ما بينهم ويتبادلون الأطعمة والأطباق التي كانوا قد أعدّوها لموتاهم، وهم يحملون آلاف الشموع والقناديل المضاءة، ويشكّلون بذلك منظراً مثيراً حيث تتلألأ الأضواء الصغيرة تحت عباءة الليل الحالكة، وبذلك تغدو هذه التظاهرات تجسيداً نابضاً للإحتفال بالحياة في أجلى معانيها.

ولا يُعرف كيف وصلت إحتفاليات شبيهة بتلك التي تجري في المكسيك إلى الولايات المتحدة الأمريكية تحت إسم “هالويّن” أو ليلة السّاحرات، ويعتقد أنه ربما تكون قد وصلت إليها من إنغلترّا، أو إيرلاندا، (السّلتيك) حيث كانت وما تزال هذه العادة منتشرة إلى اليوم بشكل أوسع من السابق، وكانت بعض بلدان أمريكا اللاتينية قد عملت على منع إقامة هذه الإحتفالات خاصة في الأماكن العامة، والشوارع وفي المدارس والمعاهد. وقد دأب الناس في معظم هذه البلدان اليوم على إحياء هذه الإحتفالات في ليلة 31 تشرين الأول/أكتوبر حيث يرتدون الأقنعة والأردية التنكّرية لهذه الغاية.

الموت والأدب

من المعروف أنه قد كُتب الكثير عن الموت في مختلف العصور، وهناك عشرات القصص والحكايات والأساطير التي تتناول هذه الظاهرة الطبيعية، فمن وجهة نظر المواطن المكسيكي الموت يعيش بيننا، ويضحك، ويبكي، ويغنّي والإحتفالات التي تقام للموت إنما تأتي إنطلاقا من هذا المفهوم الذي نجده مبثوثا في العديد من الحكم، والاشعار، والامثال السائرة، فالموت في هذه الموروثات هو رفيق كلّ من تدبّ فيه الحياة، وهكذا فالجمجمة المصنوعة من القرع (اليقطين) والعيش (الخبز) المرشوش بمسحوق السكّر والملح والحلويات والزهور ذات اللون الأصفر، ترمز إلى الشحوب والذبول، واللون الأحمر عندهم هو رمز الحياة والحيوية، كلّ ذلك يقدّم في الإحتفال وإلى جانبه تكتب الحكم والأمثال والاشعار التي تذكّر بالموت. وكلمة الموت هذه التي تقشعرّ لها الأبدان في مختلف أنحاء العالم هي بالنسبة إلى المواطن المكسيكي شيء مألوف، فهو يلاطف الموت، وينام إلى جانبه، و يرتمي في أحضانه، بل إنه يسخر منه.

وليس في الآداب العالمية كاتب أو شاعر أو مبدع لم يتعرّض للموت في أعماله، وهو موضوع كان له وجود في مختلف العصور، في ملاحم بلاد الرافدين، وفي مصر القديمة، وعند الرّومان، والإغريق، وعند قدماء السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية، وفي الأدب العربي قديمه وحديثه. وهناك العديد من الشعراء والفنّانين الذين تغنّوا بالموت أو كتبوا عنه، ففي الأدب الإيبرو/أمريكي نجد ممّن كتبوا عن الموت الكثيرين، منهم على سبيل المثال وليس الحصر: روبين داريّو، وخورخي لويس بورخيس، وبابلو نيرودا، وإيرنيستو ساباتو، وإدواردو غاليانو، وفيديريكو غارسيا لوركا، ورفائيل ألبرتي، وفيّا رّوتيا، وخوسّيه بوسادا، وبرونو ترافين، وأوكتافيو باث، وبرناردو أورتيس، وفريدا كاحلو، وخوان رولفو الذي قدّم لنا في قصّته الشهيرة “بيدرو بارامو” بطلا من الأموات، وكارلوس فوينتيس الذي تعرّض لموضوع الموت في شخص رجل مسنّ يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية بحثاً عن الحِمام خلال الثورة المكسيكية لأنه يعتقد أنّ إستشهاده في هذه المعركة أكثر شرفاً له من أن يموت موتة طبيعية في منزله. كما نجد موضوع الموت عند معظم الشّعراء لدى معظم الأمم بمن فيهم العرب، منهم زهير، وطرفة، والأعشى، والخنساء، وأبو العتاهية، وأبو تمّام، وابن الروّمي، والمتنبّي، والمعرّي (فى داليته الشهيرة وسواها)، فضلاً عن عمر الخيّام، وطاغور، وبودلير، ورامبو، وكافكا، وباسكال، وريلكه، وكامو، وهمنغواي، وسواهم من الأدباء والشعراء العالميين وهم كثير.

 ***

(*) محمد خطّابي، كاتب من المغرب عضو الاكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم كولومبيا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *