هدى النعماني… رحلت من العالم إلى الحرف واللون والضياء

Views: 606

سليمان بختي

تركت الشاعرة والرسامة هدى النعماني النقطة والدائرة واللون، وحامت صوب المعاني العالية الشفافة كحومة الطلق.

لم تطمح في حياتها إلى أكثر من محبرة وكتاب، لون وقماش، مكان نضر ووجوه وقلوب نقية وقيم الحق والخير والجمال. أدركت في تجربتها أمرين:

أن الشوق لا يبزه إلا الخيال.

وأن الحياة الحقيقية ليست إلا حياة القلب على ما يقول القشيري.

كان لها علاقة أنيقة وراقية مع الأشياء: اللوحات الجدارية للكبار، والسجاد المنسوج من الحائط إلى الحائط، والقطع النادرة. وأن تكون كما أحبت دائماً واسطة العقد ومسعى الخير وصديقة الشعراء والشاعرات: نزار قباني، محمود درويش وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال وأدونيس وعصام محفوظ ومعين بسيسو وبلند الحيدري وهنري صعب وعقل العويط وجوزيف صايغ وصلاح ستيتية وسمير الصايغ وياسين رفاعية ومحمود شريح وفوزي عطوي ورفيق خوري وناديا تويني ومي منسى وفينوس خوري وهدى أديب ونور سلمان ونهاد سلامة وندى الحاج. وأيضاً أصوات الغناء جاهدة وهبة وسحر طه وهبة القواص وغيرهم.. كأنها كانت تقرب القصيدة من الحياة رغم الأمزجة والأخلاط والواقع. ذات مرة سألها أنسي الحاج: “من أنتِ؟” وكانت تحاول مراعاة الجميع والسهر على راحتهم. أعادت في بيروت زمن الصالونات الثقافية ورونقها الراقي الجميل.

كتبت غير مرة: “هذه الجذور التي تتسلق الأرض والذاكرة/ وجهنا المعلق كمرآة/ صوتنا المزروع كالثلج”.

 

وُلدت هُدى نعماني في دمشق ودرست في مدارس اللاييك والفرانسيسكان العلمانية المختلطة. ثم انتسبت إلى كلية الحقوق في جامعة دمشق. ومن زملائها قسطنطين زريق ومأمون الكزبري وغيرهم. مارست المحاماة لمدة سنتين في مكتب خالها سعيد الغزي (تولى رئاسة الوزراء في سوريا)، ثم انتقلت للقاهرة بحكم عمل زوجها الدكتور عبد القادر النعماني عميداً للجامعة الأميركية فيها، وهناك التقت محمد عبد الوهاب وأحمد رامي وصالح جودت وعبد الحليم حافظ. وكتبت عدة رسائل إلى الرئيس جمال عبد الناصر فدعاها إلى الانضمام إلى مكتبه، فتهيّبت.

في العام 1968 عادت إلى بيروت وبدأت الكتابة في الصحف والدوريات اللبنانية. وأسست دار نشر باسمها في بيروت.

 في زمن الحرب، عُرفت بالشاعرة التي تحدت الموت وصمدت على خطوط التماس، ولكنها اضطرت إلى إخلاء منزلها في العام 1985. وانتقلت إلى واشنطن ولندن. ولجأت إلى الرسم وإقامة معارض متتالية في أميركا وانكلترا وبيروت. ألقت شعرها في العديد من الجامعات الأميركية “جورج تاون وهارفارد وتكساس وديوك”. وتُرجم كتابها “أذكر كنت نقطة” إلى الانكليزية وصدر في واشنطن. وكانت أول شاعرة عربية تُسجل أشعارها في مكتبة الكونغرس الأميركية.

تركت هدى نعماني العديد من الكتب الشعرية التي كانت تتعب على إخراجها وتزيينها بالرسوم. ونذكر منها: “إليك” (1970)، “أناملي لم” (1971) “قصيدة الحب” (1972) “أذكر كنت نقطة” (1978) “هاء تتدحرج على الثلج” (1982) “رؤيا على العرش” (1989) “هدى أنا الحق” (1990) أثار هذا الكتاب إشكالات مع المراجع الدينية. “كتاب الوجد” (1998) “لا عذر للدم”، “للراعي” (2004) “لمن الأرض لمن الله” (2006) “دائرة القفل” بالإنكليزية (2009) وكتابها الأخير “السير في الآخرين” (قطوف من ذكريات ومن بروق) دار نلسن 2015.

حمل صوتها الخاص الطالع من عبق التراث والمتحدر من أجمل الحاضرات العربية دمشق والقاهرة وبيروت، ذاك الصعود الخلاب نحو الكشف ومروج الروح. ورأت أن الشعر هو الخَلْق، هو الروح، هو السحر، أحرف تغنّي بملامح الجنون.

عادت إلى بيتها بعد الحرب وقبّلت الجدران “جئتُ معي الليل والنهار والقارات السبع”. سألت النعماني في كتابها “لمن الأرض لمن الله” السؤال الأصعب الذي يطرحه الصوفي على نفسه. وغدت الكتابة عندها كتابة على الآفاق ودخول في ملكوت النص الصوفي، على شدوٍ وابتهالات ورجاءات الخلق الصوفي نفسه.

 عاشت هدى النعماني تجربتها وفي قلبها نداءٌ خفيّ، وأدركت أن السماء والأرض ليسا على نقيض فعلى مرآة المجرة، الكون كله هو كتاب الله الواحد. وسيّجت نفسها بحب الله والأرض وحب الآخرين. وعاشت أيضاً في أحلامها والرؤى تلتقي الأقطاب والأولياء والقديسات وتدرك أن “لا عرش هنالك بل لا نهاية/لا يد هنالك بل غيوم/لا صوت هنالك بل سر الأسرار/كيف أفتح الباب وأخطو نحوك”.

 

وكانت تقلق على الظلم إذ يهوي على العالم، فتخاطب السماء “أن تهبط من جديد بأبطالٍ جدد بأنبياء جدد”. وصف المطران جورج خضر شعرها بأنه “صخب أضداد. والضد يواجه الضد لتتكون الصورة المكتملة الإشعاع. شاعرة سماوية لكنها لا تلغي الدنيا. تحرك قلبك وتنقيه معاً.”

في آخر الأيام لم يكن الاعتزال هو الاهتداء. كأنها اكتفت من هذا العالم بالحب. “تُشرق الشمس من ابتسامة بسام ويتمحور الليل في عيون أنيس”. ويكبر القلب بلهفة الأحفاد وأخبارهم. كتبت مخطوطات وأكملت رواية ولكن حريق غرفتها قبل سنة أو أكثر أتى على الآثار وأدخلها في كآبة. وما عادت تقترب من الكتب والأوراق والأيام والأسابيع والفصول. واقتربت من حديقة الصمت والصدى، ومن النجاوى والتذكارات. لم تخَف من الموت، فلطالما رأته “جنة ترميك في السماء من الأبد إلى الأبد”.

وكان لها أن تكتب لنا ما يشبه الوصية “لا تخافوا. من الليل يبزغ النهار. من الضعف تنبت القوة. من التعدد تلتئم الأجزاء. إلى جميع الخائفين: لا تخافوا”.

على غرار الكبار، ترحل وتأخذ عالمها معها، وشيء من روح المدينة.

هدى النعماني. وداعاً.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *