معلّم الأجيال… مهنة الرقص على نار الفقر والجهل

Views: 249

أنطوان يزبك

 

مع الأزمات التي ألمّت بالبلد ، وأطاحت بكل شيء، كان قطاع التعليم المتضرر الأكبر، ولكن معظم الناس لا يعرفون أو يتناسون أن القطاع التربوي متداع منذ بداية الحرب الأهليّة ، صحيح أن التعليم في لبنان كان من أرقى وأفضل ما وضع من مناهج، ليس في هذه النقطة من العالم فحسب بل في العالم أجمع إذ تبوّأ لبنان أعلى المراتب بين الدول المتحضرة في مجالي: التربية والتدريس ، ولكن المشكلة تبدأ مع عقلية الناس والمجتمع الذي لا يحترم العلم والمعلمين والأساتذة ، مجتمع وضع الأستاذ في أسفل الدركات ، ولم يعطه حقّه أبدًا ، على الأقل في ما يستحقّه من  الاحترام والتقدير نفسيًا ومعنويًا.

من طبيعة اللبناني ، أن ينفق ماله في أمور تافهة ويقنن في الأمور الدقيقة المهمة والضرورية ، وهذا من عجيب التصرفات الإنسانية والأمثلة كثيرة!

من النوادر الشعبية التي تتناولها الناس منذ أمد بعيد؛حكاية الرجل في ضيعة لبنانية ،  جاء في بداية العام الدراسي ، لكي يسجّل ولده في مدرسة مشهود لها بالعلم الصحيح والصيت الحسن ؛ يديرها واحد من خيرة الأساتذة النجباء الكبار،  من أصحاب الكفاءة ، يشهد له في الدقّة المعرفة ومهارة التعليم، ولمّا عرف الأب الجاهل ،البخيل وصاحب الثروة الكبيرة ، أن كلفة عام دراسي كامل ،في تلك المدرسة، يوازي  ليرة ذهبيّة ، شهق مفجوعا مدهوشا وقال:

بليرة ذهب أشتري حمارًا يعينني على نقل صناديق التفاح من الرزقات إلى الضيعة !..

أجابه الأستاذ الألمعي على الفور:

عال عظيم عليك بشراء الحمار بدل تعليم ولدك! . وهيك يا خواجه بتكسب حمارين ، بدل حمار واحد!!.. 

منذ أعوام مضت ، وكان ذلك في واحدة من الصيفيات التي يصح القول فيها إنها عادية أيام الخير والبركة ، اخبرني استاذ صديقي أن  قصة مشابهة حصلت معه ،إذ كان خلال العطلة يفتح مدرسة صيفية للراسبين من التلامذة الذين يتحضرون لخوض امتحانات استلحاق تمهيدا لترفيعهم إلى الصف الأعلى، وكذلك يعطي دروسا لمن يرغب في الاستزادة من العلوم والدروس الخاصة، وذات يوم  حضر رجل  سيظهر لاحقا انّه من سلالة صاحب الحمار الشهير والعقل التعتير من الذين يقعون على بكير ، ومعه ولده الراسب ، وهدفه أن  يدرس خلال  الصيفية من أجل تحسين مستواه العلمي والتربوي  تمهيدا لخوض امتحان الاستلحاق بداية العام الدراسي الجديد ، وحالما  عرف الوالد الأجرة المطلوبة، بدا على محيّاه الانزعاج الشديد ، و قال للأستاذ : بهذا المبلغ الكبير  اشتري بضعة اغنام وأرعاها وأسمّنها وأذبحها وأعدّها للقورما ونأكلها مع الفاصوليا والبيض في الشتويّة!!  وعليه يبدو ان الرجل كان قلقًا على مؤونة الشتاء ، أكثر من قلقه على مستقبل ولده ونجاحه !

تضحكنا كثيرا  هذه النوادر ونتهكّم على الأستاذ والتلاميذ والأهل في آن، بيد أننا نضحك من فرط الألم والأسى،  نضحك بمرارة  على أنفسنا وعلى مجتمعنا المادي الجاهل، الذي لم يعرف يومًا كيفية تحديد أولوياته وحاجاته الحقيقية!

 نضحك على عقلية متخلّفة وجهالة عمياء، دمّرت المجتمع في الصميم ، والقهر يأكلنا على شكل غصّة في الحلق ؛ نضحك على جثة وطن فقد أعز ما يملك !

التعليم كما اختبرته لعقود مضت ، كان من الأساس بهدلة وترقيعًا ومهنة شاقة ومردودها المادي لا ينفع ولا يطعم أو يشبع من جوع، وفي الحقيقة لا يشبع الأستاذ سوى من الكلام والوعود والنفاق والعبودية والاستغباء،  أما أسباب هذا الوضع المزري  فهي كثيرة ومتعددة تبدأ بطبيعة شعبنا الذي ينفق على تفاهات من مآكل  ومشرب ومآدب فاخرة وثياب فاحشة وسيارات ثمينة  وبنايات فارهة،   ويحجم عن  الإنفاق على أهم شيء على الإطلاق وهو التعليم ، الذي من دونه لا نستطيع أن نبني الإنسان، وتنتهي المسألة في المهنة بحدّ ذاتها التي لم تنمُ نموًا سليمًا منطقيًا كمهنة المحامي والمكانيكي وطبيب الأسنان والمعالج الفيزيائي والنجّار وعامل البناء وسائق سيارة الأجرة والمحاسب وموظف الشركات الخاصة ، إلخ..

كل المهن واكبت الغلاء والنمو الاقتصادي وتأقلمت باستثناء مهنة التعليم، ذلك أن ما تدخله السياسة تقضي عليه وتفسده حكمًا،  وهذا الأمر محسوم ، وما كان تابعًا  للاكليروس الديني من كل الطوائف والمؤسسات التعليمية الخاصة ينتج الفساد كما العشب الضار في الأرض التي تترك بوارًا ولا تحرثها السكّة الصالحة ، ولا يبذر فيها البذار السليم القويم فلا جنى ولا حصاد ! هذه العلل ضربت جسم التعليم: علّة السياسة وعلّة المؤسسة الخاصة التي لا هدف لها  سوى الأرباح السريعة غير الشرعية والأرباح المشبوهة من دون حسيب ورقيب  على حساب المستوى التربوي والتعليمي ، مضحّية بمستقبل التلامذة وجودة التعليم .

هكذا تسير الأمور من عقود لا  أحد يهتم  بجوهر التعليم ورسالته ولا هدف غير  الربح المادّي كما كل شيء في هذا الوطن المنكوب الذي نهشه الفساد وحب الذات والاستبداد وذبحته يد التجّار  الظلّام وشوّهته أيدي القذارة والسخام!

عود على بدء؛ في الزمن الماضي كان تلامذة المدرسة التي كان يطلق عليها اسم مدرسة تحت السنديانة يدفعون للأستاذ أجرة التعليم على شكل نقل حطب التدفئة إلى مدفئة الصف وتقديم مؤونة عينية للأستاذ  وبعض الحاجيات أي بالمختصر يتحنّنون عليه وكأنه شحّاذ .

وفي أغلب الأحيان كانوا يجلبون معهم إلى أستاذهم المسكين؛ البرغل والبيض ، فالبرغل موفور ولا يخلو بيت منه من بيوت ذلك الزمان في القرى ، كما كان لكل عائلة  خمّ دجاج ، فالبيض لا ينقطع ، حتى أتى نهار وضاق ذلك الأستاذ ذرعًا من هذا النظام الغذائي الذي ينفر منه أفقر الفقراء، فضلا عن حاجته الملحّة  إلى بدلة جديدة ومصروف وهو تاليا لا يعيش كناسك في الطبيعة. لذلك حزم أمره وعمّم على التلامذة في بداية العام الدّراسي، ان يبلّغوا ذويهم أنه لن يقبل بعد الآن سوى المال النقدي، فهرع الأهل ليراجعوه  ويعرفوا سبب الطلب الجديد، بيد أنّه أبى أن يكلّمهم وكتب على كرتونة هذه الأبيات وعلّقها فوق رأسه حيث يجلس:

أنا معلّمكم  الشدياق

بهالسنة منداق

طالب السعفة

والله بيعفي!

ويقصد بمنداق أن ضيق الحال بلغ به مبلغًا، والسعفة أي أنه بحاجة إلى  المساعدة المالية وليس العينية .. وهل كان الأستاذ يومًا في ظل تشريعاتنا وقوانيننا البالية  سوى مضيوق الحال يطلب المساعدة ويطالب بالحقوق المهدورة؟ !!…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *