مَظَاهِرٌ  لِحَرَكِيَّةِ  الفِكْرِ  العَرَبِي عَبْرَ  الفَاعِلِيَّتَيْنِ الفَنِّيَّةِ  والاجْتِمَاعِيَّةِ  لِلبيان الأَدَبِي الحلقة الثانية (في فاعليَّة البيان الأدبي)

Views: 704

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

إنَّ الفكر العربي اليوم، وقد استوعب تَشَعُّبَاتٍ إنسانيَّة ومعرفيَّة ممعنة في الغنى، للوظيفتين التعبيريَّة والجماليَّة؛ أضحى، بدوره، مجالاً رحباً لتحقيقفاعليَّةٍ حياتيَّةٍ حداثيَّةٍ مميَّزةٍ في ميدانِ البَيانِ الأدبيِّ المُعاصِر. تقومُ، هذه الفاعليَّةُ الحياتيَّةُ الحداثيَّةُ، على التَّواصِل المُسْتَمِرِّ بينَ”البيانِ الأَدَبِيِّ”، بوصفهِ وجوداًفكريَّاً وفَنِيَّاً مُرْسَلاً باستمرارٍ، ومُسْتَقْبِلِ هذا “البيان”،بِحُكْمِ كَوْنِهِ وجوداً قابلاً للتَّفاعلِ الفِكْرِيِّ والأَدَبِيِّ باستمرارٍ. ولعلَّ مِنْ أبرزِفسحاتِ فهمِ هذه الفاعليَّةِ للفِكْرِ العَرَبِيِّ، ما يميلُ النَّقدُ الأَدَبِيُ المُعاصِرُ إلى تصويرِهِ على أنَّهُ مَعْيُوشِيَّةُ البَيانِ الأَدَبِيِّ، أو حَيَويَّةُ وُجودِهِ.

بات من الضَّروريِّ، إذاً، وبناءً على ما وَرَدَ آنفاً مِنْ معطياتٍ، الانتباهُ إلى حساسيَّةِ العلاقةِ،التي يمكن أنْ تنشأ بين مُرسِلِ البيانِ الأَدَبِيِّ العَرَبِيِّ وأهميتها، والبيان عينه، من جهة؛ ومُسْتَقْبِلِ هذا البيان الأدبيِّ، مِنْ جهةٍ ثانيةٍ. إنَّها، في الواقعِ، فاعليَّةُ الفِكْرِ العربِيِّ المُعاصِرِ، التي تقومُ على خصوصيَّتينِ أساسينِ؛تتمثَّلُ أولاهُما بالقدرةِ الإِبْلاَغِيَّةِ للبَيانِ الأَدَبِيِّ؛ في حينِ تتمثَّلُ الثَّانيةُ بالعلاقاتِ التَّأثيريَّةِ التي يُمكنُ للبيانِ الأدبيِّ أنْ يُنْشِئها، مِن خلالِ الصِّلَةِ التي يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ عَبْرَ تعامُلِ المُسْتَقْبِلِ مَعَه.

محاولةٌ تشكيليَّةٌ لـ”الفِكْرَةِ والبَيانِ”، مِنْ أعمالِ الفنَّان الفرنسيِّ المُعاصر “لوران فولكو” Laurent Folco

*

تقومُ العلاقةُ التَّوصيليَّةُ في “البَيانِ الأَدَبِيِّ” على أمورٍ لعلَّ مِنْ أبرزِها وأكثرِها فاعليَّةً أمرين اثنين؛يكمنُ الأوَّل في الفِكرِ الذي يَنْبَني منه “البيان”، ويتجلَّى الثَّاني في القُدْرَةِ الإِبْلاَغِيَّةِ المُتَحَصِّلةِ من إظهارِ”البيانِ”. ويؤلِّفُ الفِكرُ، في هذا المجالِ، انطلاقةً أساساً للفِعْلِ التَّوصيليِّ في “البيانِ الأَدَبِيِّ”؛إذ يُقَدِّمُ ما يُمكنُ أَنْ يُعْرَفَبالبَذْرَةِ التي تتحكَّم في أنظمةِ نُمُوِّ”البيانِ الأَدَبِيِّ” وتفاعله.

يُمْكِنُ لـ”البيانِ الأدبِيِّ” المُعاصِرِ أنْ يُشَكِّلُ نوعاً مِنَ الرَّسائل التي تُوَجَّه إلى جمهورِ القُرَّاءِ، أو ما يُمْكِن تَسْمِيَتَهُ مُسْتَقْبِلِي البيانِ الأدبيِّ. وبِحُكْمِ الفِكْرِ الذي يَتَشَكَّلُ منهُ “البيانُ الأدبيُّ”، وبِحُكْمِ ما في هذا “البيان” مِنْ مجالاتٍ إبلاغِيَّةٍ، فإن هذا “البيانَ” يَتَحوَّلُ مِنْ كَوْنِهِ رسالةً إلى كَوْنِهِ نَوْعاً مِنَ التَّوْجِيهاتِ، بَلْ الأَوامِرِ التي تَسْتَقِرُّ في وَعْيِ المُسْتَقْبِلِ أو لا وَعْيِهِ. يَتَحَوَّلُ”البيانُ الأَدبيُّ”، ههُنا، إلى وجودٍ مُحَرِّضٍ في الحياة الخاصَّةِ كما العامَّة؛ ويتحوَّلُ، بفضلِ ما يحمِلُهُ مِنْ مغرياتٍ وتَسْهيلاتٍ إبلاغيَّةٍ إلى وجودٍ قِيمِيٍّ في هذهِ الحياةِ. ومع تعدُّدِ هذه الرَّسائلِ أو التَّوجيهات، أو الأوامر، وتَكرارِها، فإنَّ”البيانَ الأدبيَّ” يُضحي فاعِلِيَّةً اجتماعيَّةً أساساً تُوَجِّهُ الحياةَ الخاصَّةَ كما العامَّةَ، لكثيرٍ مِنْ مُسْتَقْبِلِيها.

يتَّخذُ موضوعُ فاعليَّةُ”البيانِ الأدبيِّ” خطورةً قصوى، عندما يَحْمِلُ “البيانُ الأدبيُّ”  فِكْراً غَيْرَ الذي يَسْعى الفَرْدُ أو الجماعةُ إلى عَيْشِهِ. وتتجلَّى هذهِ الخطورةُ مِنْ خلالِ قدرةِ “البيانِ الأدبيِّ”، بِحُكْمِ ما يمتلكُهُ مِنْقِيَمٍ وفُسُحاتٍ إبلاغيَّةٍ وطاقاتِ تأثيرٍ على الانفعالِ الإنسانيِّ، على اختراقِ الحواجزِ التي قد يُمْكِنُ للوَعْيِّ الفرديِّ أو الجَمْعِيِّ إقامتها في هذا المجال. يُصبحُ “البيانُ الأدبيُّ”، ههُنا، عنصرَ “تخريبٍ”؛ بيدَ أنَّه لا يَنْفَكُّ، بِحُكْمِ فاعليَّتِيهِ الفَنِيَّةِ والاجتماعيَّة، شاهداً على وضعِ مُسْتَقْبِلِهِ. فإذا ما كان المُسْتَقْبِلُ إيجابيَّاً، في تجاوبِهِ مع “بيانٍ أدبيٍّ” يتنافى مع أفكارِ هذا المُسْتَقْبِلِ ومبادئِهِ الأَيْديُولوجيَّةِ؛ فإنَّ “البيان”يشهدُ على هذا المُسْتَقْبِلِ بِضَعْفِ الوعيِّ الذي يتبنَّاهُ أو عدمِ نُضْجِهِ.

لا بدَّ، ههُنا، مِنْ إعلانِ”خيانةِ” الممارسةِ الأدبيَّةِ، عبرَ طاقاتِها الفَنِيَّةِ والجمَالِيَّةِ، لِلْقِيَمِ التي يتبنَّاها مُسْتَقْبِلُ “البيانَ الأدبيَّ” الذي يتشكَّلُ عبرها. ولا بدَّ، أيضاً، مِنَ الإشارةِ إلى أنَّ هذه “الخيانة” قد تكونُ لصالحِ هذه القِيَمِ إذا ما حَوَّلَتْها عن “سلبيَّتها” في وجودها، إلى ما هو إيجابيٌّ في هذا الوجود؛ وقد تكون ضدَّ هذه القِيَمِ إذا ما دفعت مُسْتَقْبِل “البيانِ الأدبيِّ” إلى ممارسةِ خِلاف ما يُؤْمِنُ بهِ في هذا المجالِ. وكيفما دارَ الأمرُ، فإنَّ هذهِ الفاعليَّةَ لـ”البيانِ الأَدَبِيِّ” تكونُ، في غالبِ الأحيانِ، عَبْرَ لاوَعْيِ المُسْتَقْبِل، بفضلِ ما تُوحِيهِ لَهُ الفاعليَّتانِ التَّوصيليَّةِ والتَّأثيريَّةِ لـ”البيانِ”. فهاتانِ الفاعليَّتانِ قد تكونانِ، على ما فيهما مِنْ جمالٍ وسِحْرٍ، فاعليتينِ “مُضِرَّتينِ” بما اعتادَ عليهِ هذا المُسْتَقْبِلُ.

ينطبقُ هذا الكلامُ على الموضوعاتِ كُلّها التي يتطرًّقُ إليها “البيانُ الأَدَبِيُّ”؛ وهوَ يبقى شاهِداً على حقيقةِ مُسْتَقْبِلِهِ في هذا المجال. لِذا، فإنَّ أيَّ دراسةٍ لِحَرَكِيَّةِ الفِكْرِ العَرَبِيِّ، عَبْرَ الفاعليَّتينِ الفنيَّةِ والجماليَّةِ، لأيِّ “بيانٍ أدبيٍّ”،وأيَّاً كانَ موضوعُ هذا “البيان” الذي تتشكَّلُ مِنْ خلالِهِ هذه الفاعليَّةُ، ليست سوى شهادةً للمُسْتَقْبِلِ العربيِّ أو عليه. إنَّها شهادةٌ واضحةٌ لا تَتَحمَّلُ الخِداعَ؛ولعلَّها، في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ، شهادةً قد تُفاجئ الدَّارسينَ والمُحَلِّلينَ الموضوعيينَ بنتائجِها. ولعلَّ البحثَ في موضوعِ “المرأةِ” يُوَفِّرُ، في هذا المجالِ،أنموذجاً مقبولاً لتوضيحِ هذهِ المظاهِرِ مِنْ حَرَكِيَّةِ الفِكْرِ العَرَبِيِّ.

(وإلى اللِّقاءِ مع الحلقة الثَّالثةِ والأخيرةِ “مِن فاعليَّةِ البَيانِ الأدبيِّ عِنْدَ نِزارْقبَّاني”)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *