السنغال – إسرائيل: بَيْنَ المُقاطَعة والتّطبيع

Views: 182

ممدوح مبروك

تحرص إسرائيل على تعظيم تواجُدها في القارّة الإفريقيّة التي باتت تُمثِّل عمقاً استراتيجيّاً، وقوّة استهلاكيّة ضخمة لا يُستهان بها، فضلاً عن حرصها على تحسين الصورة الإسرائيليّة السيّئة، وجرائمها ضدّ الشعب الفلسطيني أمام الرأي العامّ الإفريقيّ، مُعتمدةً في ذلك على سياسة الدبلوماسيّة الفاعلة والحضور السياسيّ والاقتصاديّ المؤثِّر.

يُمكن حصْر محدّدات السياسة الخارجيّة الإسرائيليّة تجاه القارّة السمراء بصفة عامّة، والسنغال بصفة خاصّة، في ما يلي:

  • القوّة التصويتيّة للدول الإفريقيّة في المَحافِل الدوليّة.
  • الأهميّة الجيوسياسيّة والأمنيّة للقارّة السمراء بالنسبة إلى إسرائيل، كونها تطلّ على البحر الأحمر، ولها علاقات مُتشابِكة مع الدول العربيّة، تستطيع من خلالها التأثير على المَوقف العربي.
  • المصالح الاقتصاديّة، حيث تُعتبر القارّة السمراء غنيّة بالمَوارِد، وتُشكِّل سوقاً للبضائع الإسرائيليّة، فضلاً عن توظيف إسرائيل ليهود إفريقيا، ومن ثمَّ زيادة معدّلات الهجرة إليها.

تحرص إسرائيل على توطيد علاقتها بالسنغال، ولاسيّما أنّ السنغال لها تاريخ طويل مُناهِض للاحتلال الإسرائيلي، ومُناصِر لحقوق الشعب الفلسطيني؛ وبالتالي، فإنّ توطيد العلاقات الإسرائيليّة السنغاليّة – من وجهة النظر الإسرائيليّة – يُمثّل انتصاراً إسرائيليّاً كبيراً داخل القارّة الإفريقيّة بصفة خاصّة، والمجتمع الدولي بصفة عامّة، ولاسيّما إذا نجحت إسرائيل في حمْل السنغال على التراجُع عن مَواقفها المُسانِدة للقضيّة الفلسطينيّة.

إنّ مَوقف السنغال من القضيّة الفلسطينيّة نابِعٌ من العناصر الأساسيّة الثابتة في الدبلوماسيّة السنغاليّة، وهي:

  • السنغال دولة قياديّة في القارّة الإفريقيّة.
  • السنغال دولة محوريّة في منظّمة التعاون الإسلامي، وترأس لجنة من ستّ لجان أساسيّة للمنظّمة تُعنى بشؤون الإعلام والثقافة، وتنوب أيضاً عن رئاسة لجنة القدس.
  • مَواقِف السنغال ثابتة بشأن دعم الحقوق الفلسطينيّة، وهي ترأس بشكلٍ متجدّد منذ العام 1975 أكبر اللّجان الأُمميّة حول مُمارَسة الشعب الفلسطيني لحقوقه.
  • السنغال لها دبلوماسيّة مُتوازِنة في حلّ النزاعات على أساس دعم الحوار وتعزيز السلام، وهي تملك سابع قوّة في العالَم لحفظ السلم والأمن الدوليَّين.
  • السنغال ذات الأغلبيّة المُسلمة الساحقة تُشكِّل نموذجاً للإسلام الصوفي المُعتدل، والذي كان سبباً رئيساً للسلم المُجتمعي فيها منذ الاستقلال في العام 1960 عن الاحتلال الفرنسي وحتّى الآن، وذلك بفضل قوّة انتشار الطُّرق الصوفيّة فيها.
  • تربط السنغال علاقاتٌ مصلحيّة كبيرة بدول العالَم العربي، وصناديق الاستثمار العربي، وتُسهِم بشكلٍ كبير في عمليّة التنمية، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه في العام 1967 قطعت السنغال علاقاتها الدبلوماسيّة بإسرائيل تضامُناً مع العرب بعد النكسة، وأعادتها بالعام 1995 بعد التوقيع على اتّفاق أوسلو.

في ضوء ذلك، يُمكن القول إنّ هناك تعارُضاً قويّاً في المَصالِح بين إسرائيل والسنغال؛ إلّا أنّ الواقع عكس ذلك. فقد أعلنت السنغال التطبيع مع إسرائيل، ويبقى السؤال هنا: كيف لدولة مُناصِرة لحقوق الشعب الفلسطيني أن تتمتّع بعلاقاتٍ قويّة بدولة تَنتهِك حقوق هذا الشعب؟

وفي محاولةٍ للإجابة عن هذا التساؤل، نستعرض أبرز الأحداث التي طرأت على العلاقات بين البلدَين خلال السنوات الأخيرة، والتي تعكس التحوّل التدريجي الذي طرأ على علاقة السنغال بإسرائيل، وتتمثّل في ما يلي:

1- القضيّة الفلسطينيّة وسحب السفير الإسرائيليّ

اندلعت أزمة سياسيّة بين السنغال وإسرائيل، بعدما تقدَّمت كلٌّ من السنغال، وفنزويلا، وماليزيا، ونيوزيلندا، بمشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي لإدانة البناء الإسرائيلي في المستوطنات الإسرائيليّة داخل الأراضي الفلسطينيّة، وهو القرار رقم 2334، الذي صدر عقب تصويتٍ في مجلس الأمن الدولي، حصل على تأييد 14 دولة، بعد امتناع الولايات المتّحدة عن التصويت.

اعتُبِر هذا القرار قراراً تاريخيّاً، نظراً لأنّ معظم مشاريع القرارات ضدّ إسرائيل تُرفَض باستخدام حقّ الفيتو، حيث قامت الولايات المتّحدة باستخدام الفيتو 42 مرّة من أجل حماية إسرائيل، وتُعَدّ هذه هي المرّة الأولى التي لا تلجأ فيها الولايات المتّحدة إلى هذا الحقّ، ما جعله قراراً سارياً؛ وبناءً عليه تمّ تبنّي القرار بعد إقراره من غالبيّة الأعضاء.

نتج عن ذلك سحْب السفيرَين الإسرائيليَّين من كلٍّ من السنغال ونيوزيلندا. وردّاً على سحْب إسرائيل سفيرها من السنغال، قال المتحدّث باسم الحكومة عبر التلفزيون العامّ “يجب الإشادة بمَوقف السنغال، المجتمع الدولي يُرحّب بمَوقف السنغال، وخصوصاً الدول المُسلِمة”. وأضاف “حرصت السنغال على أن تكون مُنسجِمة مع رؤيتها الدبلوماسيّة التي تبنّتها منذ العام 1975، والتي ترأَّست بموجبها لجنة مُمارَسة الحقوق الرّاسخة للشعب الفلسطيني، كما أنّ الدعم السنغالي للشعب الفلسطيني لا يعني أنّ السنغال ضدّ إسرائيل”.

لم تستغرق تلك الأزمة سوى أشهر معدودة، إذ سرعان ما تمّ حلّها، حين أعلنت إسرائيل والسنغال عن إعادة تطبيع العلاقات بينهما بشكلٍ كامل بعدما التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو” بالرئيس السنغالي “ماكي سال”، على هامش قمّة دُول غرب إفريقيا ECOWAS المُنعقدة في ليبريا، واتّفقا على إعادة السفير الإسرائيلي إلى السنغال، مقابل التزام السنغال بعدم العمل ضدّ مَصالِح إسرائيل في المَحافِل الدوليّة.

وفي الوقت نفسه تمّ الاتّفاق على تجديد المشاريع المُشترَكة التي تمّ تعليقها في أعقاب الأزمة، والتعاون الأمني والزراعي بين البلدَين. ودعا نتنياهو وزير الخارجيّة السنغالي لزيارة إسرائيل.

2- زيارة وزير الخارجيّة السنغالي لإسرائيل

تُشير معظم التقارير إلى أنّ التحرّكات الإسرائيليّة في دوائر النفوذ في السنغال باتت في تزايُد خلال السنوات الأخيرة، مدلِّلة على ذلك بالزيارة التي قامَ بها وزير الخارجيّة السنغالي السابق “سيديكي كابا” للمسجد الأقصى وسط حراسة الاحتلال الإسرائيلي، وبرفقة مُستوطنين إسرائيليّين، وقوبلت تلك الزيارة بالرفض من قبل السلطة الفلسطينيّة حيث أعلنت وزارة الإعلام الفلسطينيّة وقتها أنّ الطريقة التي زار بها “كابا” المسجد الأقصى “مرفوضة”، وعبَّرت في بيان نشرته عن أسفها لزيارة “كابا” للمسجد الأقصى بـحماية قوّات الاحتلال، الذين وضعوا عَلَمَ إسرائيل والسنغال على ملابسهم.

وطالَبت الحكومة الفلسطينيّة وقتها من نظيرتها السنغاليّة تقديم اعتذار عمّا حصل، مُعتبرةً أنّ الزيارة تشكِّل خرقاً لإجماع منظّمة التعاون الإسلامي، وسابقة خطيرة في تاريخ العلاقات الفلسطينيّة السنغاليّة، كما انتقدت دائرة الأوقاف المُشرِفة على المسجد زيارة الوزير السنغالي، كونها تمَّت من دون تنسيق معها، وتحت حراسة الشرطة.

ونشرَ المتحدِّث باسم الخارجيّة الإسرائيليّة “بول هيرشون”، على حسابه الرسمي على “تويتر”، صُوراً للوزير السنغالي في المسجد الأقصى، مُشيراً إلى أنّ “كابا” هو أوّل وزير خارجيّة سنغالي يزور إسرائيل.

3- تصريحات بأحقيّة اليهود بأرض فلسطين وإثارة الرأي العامّ السنغاليّ

في أيّار (مايو) 2018، تزايدت في الشارع السنغالي الأنشطة المؤيِّدة للقضيّة الفلسطينيّة والرّافِضة لجرائم الاحتلال الصهيوني ضدّ الشعب الفلسطيني. وطالَبت جمعيّاتٌ مُدافِعة عن القضيّة الفلسطينيّة حكومة البلاد بقطع علاقاتها الدبلوماسيّة مع إسرائيل. جاء هذا السخط ردّاً على التصريحات التي أدلى بها “إدريس سك”، رئيس الوزراء السنغالي السابق، حول أحقيّة اليهود بأرض فلسطين، وسرده لبعض المَزاعم التاريخيّة المغلوطة عن بَيت المقدس، ومكّة المكرَّمة. وبحسب قوله “بيت المقدس أهمّ من مكّة المكرَّمة”، “مكّة ليست مكان الحجّ الصحيح”، “اليهود هُم شعب الله المُختار”.

أدانت رابطة الأئمّة، والدُّعاة في السنغال تصريحات السياسي السنغالي ودعته للاعتذار، وقالت الرابطة في بيانٍ وقَّعه أمينها العامّ “أحمد دام انجاي” إنّ تصريحات “سكّ”، شوَّهت صورة الشعب السنغالي المُسلِم أمام العالَم الإسلامي.

وأضاف البيان أنّ اعتبار “سك” لما يجري في فلسطين كصراعٍ بين أشقّاء هو “جهل بالتاريخ”، مُشيراً إلى أنّ إسرائيل تأسَّست عقب إعلان وعد بلفور في العام 1917 المُتضمِّن إنشاء منطقة تكون مَلجأً لليهود في أنحاء العالَم.

أيضاً استنكر البيان الطريقة المُتغطرِسة التي استخدمها “سك” في التعليق على القضيّة الفلسطينيّة في تصريحاته، ولفت البيان إلى أنّ “تلك التصريحات صدمت ضمير كلّ مُسلِم، وشكَّلت انتهاكاً لرموز العقيدة الإسلاميّة”.

كذلك انتقد “بامبا انجاي”، وزير الشؤون الدينيّة الأسبق تصريحات “سك”، واعتبرها “تخريفات مُطابِقة للمَزاعم الصهيونيّة”، مُشيراً إلى أنّ تلك التصريحات تأتي في ظلّ مَوجة اختراقٍ مركَّزة ترعاها إسرائيل في السنغال.

وترتَّب عن تلك التصريحات أنْ دَعت منظّمةُ “الإيسيسكو” سلطاتِ السنغال لاتّخاذ إجراءات حازِمة ضدّ هذه التصريحات التي تهدف إلى إثارة الفتنة والتضليل، وتُعَدّ تكذيباً فجّاً للحقائق الثابتة التي يؤكّدها القرآن الكريم، والسنّة النبويّة.

في ضوء ما سبق، يُمكن القول إنّ إدلاء الوزير السنغالي السابق بمثل هذه التصريحات، وكذلك زيارة وزير الخارجيّة السنغالي للقدس وسط حماية إسرائيليّة هو بمثابة مؤشّر قوي نحو فعاليّة الدَّور والتأثير الذي تُمارسه إسرائيل داخل القارّة الإفريقيّة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يُعَدّ تراجُعاً للمَوقِف السنغالي تجاه القضيّة الفلسطينيّة، واعترافاً ضمنيّاً بأحقيّة إسرائيل بالأرض. وأغلب الظنّ، أنّه إذا ما أعاد التاريخُ نفسَه، ودخلَت إسرائيل في حربٍ ضدّ الدول العربيّة، لن تَقطع السنغال علاقاتها الدبلوماسيّة بإسرائيل، مثلما حدث في الماضي عقب نكسة 1967. وبالتالي يتوجّب على الدول العربيّة توحيد صفوفها للتواجُد بشكلٍ أقوى داخل القارّة الإفريقيّة، وإلّا ستنجح إسرائيل في إتمام مخطّطاتها التي تنفّذها بخطىً ثابِتة، وبطريقةٍ مُمنهَجة.

***

(*) باحث سياسي مصري

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

(Alprazolam)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *