سجلوا عندكم

إضافات إلى اللغة وإلى تراث الوجد هدى النعماني  

Views: 682

شوقي أبي شقرا

السيدة الآتية من هناك، من ذلك الهودج التراثي والذي هي ضمنه وفي مخابئه وفي عطوره وفي رياحه الهوجاء والناعمة، وتحمل منه على منكبيها على سن قلمها وسن ريشتها، ما تحمل من المروءة الصلبة الصلاة، وكذلك من شبه صلاة وشبه دوخة درويشية في الكلام المتمادي في موج البركة والوقوف على الحق الذي يظهر لها وتظهر له، وتنتقل في جواره وفي رفقتها وفي الإتجاه عينه، إلى مسالك العشق، إلى غابة الوجد والتواجد. ولها، في مجمل ذلك، تلك الصبغة وذلك الإنسان الذي يذرف من إبريقه الأسطوري، ماء الترف، وتلك الرشاقة الذاتية، وتلك الغنائية العامرة والجلابة، وكلّ ما تفعل وما تذكر وما تبغي وما تحاول أن تقبض عليه ولو هنيهات، أنما يقع من النور، من السجود في برية الخلاص وليست أبداً برية الصراخ، وحيث لا أمل ولا واحة، وأنما رمال في رمال وسهاد في سهاد.

-2-

وهدى النعماني في أولى الدرجات، في تلك الفسحة من الشعر، من معبد القصائد، على مقعدها الطيّب والمتصدر، ولها عصاها هي القائدة، وأنما تمنح الكلمات في أوركستراها الكثيرة الجمهور، والكثيفة الآلات، نفحاً من لدى الأنس والجان، كما تعمد إلى المزيج، إلى ذلك الخليط مما هو قبل ومما هو بعد. وتجلب دائماً قافلة من العبارات تتمادى في الخطاب وفي قول الأقوال، وفي الضرب على الجملة من الأحداث. وتنطلق على طول السكة، طول القطار، إلى الفيافي، إلى مخازن الصفات الألوهية أو الأنسية، حتى بلوغ ما ليس قيد البلوغ، وتحفل بالشهادات فهي تهتف وتصلّي وتنبّه وتصّور ماذا يكون وهل يحدث شيء من الأحداث. كما تنظر إلى الغد البعيد والقريب، وأنها لناظرة في أي وقت وأيّ ساعة، إلى الحسن، إلى الذهول، إلى الهدف الذي تنشط له عبر كيانها العاطفي، وترسل قاموسها من شتى الأصقاع، سحابة من المطر، ومن الرذاذ، ومن النقاط المباركة. ومن شانها، كلّ مرّة، منذ مؤلفاتها الأولى والتالية، أن تعقد عقدة المعركة، وأن تهب من موضعها نحو المواضع الأخرى، ولا تحتجب البتة، بل أنها في صلب الإشتعال وصلب الدخول إلى حيث لا يدخل غيرها. وليس لي، من قبيل النقد والتعريف، سوى أن أذكر كونها على هذه الوتيرة، على هذا الخيط الثمين، وهي تنشره وتنفرد في نشره وفي أن تذيعه للناس. وما زالت تفعل وما زالت تنشد ما هو تدبير موروث ومن السلالة التي طالما إشتاقت إلى الحلول، إلى سدرة الله، وإلى أن تفسّر الوجود تفسيراً هو لها. ولم تفارق، أدنى مفارقة، ما كان وما سيكون من التنزيلات الصغرى والكبرى، وفي أن تهتف وأن تدفع باب الظلمة نحو الإنكسار ونحو أن يقع في الجحيم، وفي الرماد الذي هو على جمر الإختلاف وجمر المحبّة والتواري خلف حجاب المعرفة وستارة الأسرار.

-3-

وهدى النعماني أنما تبدو فريدة وعليها وشاح الرهبة والوجل، ووشاح الأمل الذي يصدح في الصحراء وفي الأرجاء العدة، ولا درب سواها إلى ما تكشف عنه هدى النعماني وما يعدّ، من ثم، مذهباً لها، وكوناً لها، ومطاراً لها، وكلها مسائل فنية، بل أنها عميقة في ذاتها، وفي الناحية الطلقة من العمل، من تلك الكتابات منذ عام 1970 إلى 2010.

ولا شك أنها وحدها في مجال الصلة والإتصال تقود دفّة الخيال إلى المطارح الرحبة وإلى بحر الشروق. وهي في “لا عذر للدم” تكاد تكون واقعية، وفي نبضات وأحاسيس من اليوميات المنفلتة في أي إتجاه محتمل. لكنها، كما في جملة الجملة، تملك أسلوب العزف على الداخل، على روحها التي تبذلها في المواقع العدة، في الخطابات طراً.

وإذا نحن، في الحساب الذي لنا، والذي نمارسه في الوسط الأدبي، أمام ضوضائية من اللغة النعمانية، من ذلك التأثير الذي لا يهدأ ولا ينضب، وهو يكاد يكتمل من مرحلة إلى مرحلة، ومن حقبة أولى إلى ثانية.

-4-

وهدى النعماني تؤسلب الوحي العلوي والرباني، ومن علاماتها أنها تغطّي الفقر، فقر النفس بعباءة الأغاني الهادئة والتي تبوح بوحاً ليس غائماً وليس في فلاة مطلقة، وليس في إحتمالات النأي عن عالم العيش والعادات واللقاءات المجانية. وأنما هي، وهنا إنفرادها، ترى إلى الأشياء إلى الموضوعات، رؤية مغروسة في حديقتها التي لا تضلّ أزهارها عن الصراط، عن الطريق، وعن أي سلوك يطمح إلى الحق، وإلى الضوء والسجود له.

والنعماني ليست ألا منطلقة من الضيّق في بلادها إلى جسم التأملات وإلى نوع من الكشف، من المواقف المعسولة والتي موسيقاها تتناثر في أي قبو وأي قصر من قصور التفلت والإنقلاب من حال إلى حال. وكأن الشاعرة الخصبة السنابل، لن تدع أحداً، لن تدع القارىء، إلا لتقول له، في أطيب النثر، وعلى الوزن العفوي والمنفتح على دائرة المعنى، أنها تدحض ما سوى ذلك، وما إليه. ولها قلمها تشهره في الوجه، في المقدمة، ولعلها واعية أو ذات إنتباه أنها من نسائنا السيدات في المهنة هذه، وهي جليلة وفادحة الأثر، مهنة الشعر الذي يجعلها على رأس جيلها عندنا وأوسع ولها، من جهة مثلى، وفنية، أن تكون مرتاحة وفي شغف عام، وأن نعتبرها طليعية ولو دارت دورة كوكب، في فضاء من الغرابة، ومن اللغة العربية التي تزيد عليها صفات مجيدة، بل لغة لبنانية المقام، وأن هي بخبرتها وإتحادها بالتراث الحي، تفعل ما لا يصح إلا لها، تفعل المستحيل لتكون ثريّة وغنيّة وأن تقدم كلّ هذا الجمال، على طبق من المحبّة، نحاسي وعليه خطوط وعليه أمثال وعليه تحفر هدى النعماني محفورات من الحياة وكونها على صلة بالأعلى، بالسماء. وحفظها هو وحفظها الشعر وأنها أيضاً لحافظة.

هدى النعماني

 

 

-5-

دفء وعدمه

وفي الحاضر المضطرم لي أن ألجأ إلى دفء هو غير دفء الطقس أو عدمه. ولي أن أطالع بعض الكتب وبعض الأسماء، وأن أختلف إلى عادتي، وأن أسرق شعرة من التي لي في العين، أو في اللحية اللطيفة، وأن لا أكسر قلمي على الطاولة حين لا يطاوعه الكلام، أو تلك الهبة من الحلم أو الأحلام.

ولي أن أفسّر الميلاد وأنه على قرب وليس على بعد. وأن أتصورني ذلك الطفل وذلك المقدام من التلاميذ، إذ يمضي إلى الحقل المتاح، إلى حيث مياه عند العين، عند النبع، وإلى البساط من الأخضر النامي حواليه، والذي من نعومته ومن بساطته يصلح أن يكون قطعة قطعة نحن قطفناها لتكون سجادة في المغارة، مغارة الميلاد.

والسجّادة الملساء تتطلب الإمتداد، وعليها سيقف المجوس في زيارتهم وتقف عليها العائلة المقدسة، والطفل الذي جاء من الرسالة الكونية في سريره من القش، من التواضع الكامل، من هيبة المذود. ونحن في الصمت وفي الرسالة التي هنا، ويقرأها المؤمنون، وأنها التقاليد للبشرى والمسرّة، والتلاميذ أولئك في مطلع السباق إلى الرجاء إلى الطفل، لأنهم مثله، إلى هذه المغارة التي تفرح بالضيوف، بالذين قدموا والذين هم في الداخل. ونرتقي إلى الصمت، إلى الحديث بيننا وبيننا عن المخلص وعن الذي أنما أقبل إلينا من الإطار الواضح، عملاً بالمشيئة السرمدية. ونحاول اللمس ونيل البركة، ولا أي حاجز سوى الودّ والتقوى، وهكذا نتكرّر نحن الذين كبروا والذين تلوا وسوف يتلون من الألف إلى آخر الأبجدية، إلى أبد الآبدين.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *