رمضان 2024… ضوءٌ لم يتغيّرْ!

Views: 1593

د. جورج طراد

  كلّ شيء تغيّر.

  تغيّر نحو الأسوأ بالتأكيد.

  فنظرةٌ واحدةٌ إلى كلّ ما يدور حولنا تكفي لنكتشفَ مدى اليباسِ الذي نحن فيه.

  لم يعدْ هناك بقعةُ ضوءٍ تتنفّس منها الإنسانيّة التي قاربتْ أن تكون حجرًا وتفقد كلّ نبض. وها ان الذكاء الإصطناعي يلوح في الأفق ليهدّد ما تبقى من قيمةٍ للكائن البشري.

وحدها الروحُ قادرةٌ على أن تبقى طليقةً تسبح في فضاء نظيف وتسمو على الصغائر. وليس أفضل من رمضان، شهر البٍر والإحسان، مناسبة لتتفتّحَ فيها الروح وتتفلّت من اليباس الذي اجتاحنا ، وما يزال.

وفضائل شهر رمضان المبارك تكتسب، بالنسبة إلى الكثيرين، وأنا منهم بالتأكيد، بُعْدًا روحانيّا رحْبًا إذا ما أمضيْتَ بعضًا منه، في ربوع الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة.

 

  فهناك، في قصره المشرّع الأبواب، كما قلبه، لكلّ الضيوف، يلتقي سنويّا محبّوه الكثر لينعموا بالروحانيّة السامية التي تتدفّق في ليالي الشهر الفضيل، لاسيما في خلال صلاة التراويح التي تتصاعد تقوىً ووَرَعًا  لتغمرَ أجواء محيط مسجد القصر، وتحلّق مرفْرفةً بخشوع في جنبات الحديقة المحيطة.

ويكتشف ضيوف الشيخ نهيان، من كلّ الأقطار والألوان والمعتقدات، كمْ أنّ سيّد المكان يمثّل  الإعتدال والإنفتاح. فهو، بحق، وبصرف النظر عن مسمّى حقيبته الوزاريّة، رمزٌ للتسامح والحوار. وهذه ميزةٌ باتتْ نادرةً في أيامنا هذه، ولا يمتلكها إلاّ من فُطِرَ عليها وتربّى على خصالها الحميدة في عائلته.

  وبالفعل، فإن الشيخ نهيان تكسّب كلّ هذه الصفات الحميدة في بيته، حيث تدرّب على يد والده المغفور له الشيخ مبارك بن محمد الذي عرفنا فيه حبّه الناس وقبوله الآخَر، أيًّا كان ومهما كان، فإذا بالإبن يأتي سرَّ أبيه، كما يقول المثل العربيّ المعروف.

  ليس هذا فحسب. فالشيخ نهيان معروف بوفائه الشديد لمحبيه ولأصدقائه، مهما باعدتْ بينهم الأيام والمسافات. وقد كنتُ، قبل اسابيع قليلة، شاهدًا على واقعة وفاء إنساني معبّرة قام بها الشيخ نهيان. فقد عرف، من خلال صديق مشترك، أن أحد روّاد مجلسه السابقين قد أصيب بفاجعة أودتْ بحياة نجله الشاب. ومع أن الوالد المفجوع لم يعد يزور مجلس الشيخ نهيان منذ سنوات طولة، بعد انتقاله مع عائلته للعيش في كندا، فإن مكانته ظلّت محفوظة لدى الشيخ المحبّ، بدليل أنه ظلّ يسأل عن وسيلة اتصال بالأب المفجوع حتى اهتدى إلى رقم هاتفه فاتصل به معزيًا.

  وهذان التسامح والوفاء يتضاعفان عند الشيخ نهيان في أيام الشهر الفضيل حيث تصفو النفوس أكثر وتنفتح أبواب السماء. وليالي رمضان في ربوع الشيخ نهيان تبدأ منذ الغروب حيث يكون عشرات محبيه، من ضيوف ومواطنين ووافدين، متحلقين حوله في انتظار الأذان، بعدها ينتقلون إلى مسجد القصر، ثم يعودون إلى موائد الإفطار العامرة التي يحرص سموّه على إقامتها لضيوفه ليليًّا ومنذ عشرات السنين. بعدها جلسة قصيرة إلى وقت صلاة التراويح التي يتردّد صدى خشوعها في كلّ جوانب القصر ومِن حوله. ثمّ يغادر الجميع وقد اكتسبوا غنىً روحيًّا ينير طريقهم وسط كل هذه الظلمات.

  ولا تنتهي الليلة الرمضانيّة في ربوع الشيخ نهيان هنا. فثمّة خيمةٌ رمضانيّةٌ يقيمها لضيوفه ومحبّيه كلّ ليلة، يتحلّقون حوله ويتسامرون ويتعارفون، وهم يأتون من كلّ المشارب والجنسيات لتجمعهم محبّة سيّد المكان وتحوّلهم أصدقاء ورفاقًا.

 

  هنا أيضا، لا تنتهي الليلة الرمضانيّة. فهناك جلسة سحور في قصر الشيخ نهيان يدعو إليها عددًا من أصدقائه والمقربين فيغمرهم بضيافته ومحبّته ويحرص على أن يهتمّ بهم شخصيّا ويسهر على راحتهم بنفسه. حتى إذا ما انتهى السحور انطلق كلّ منهم إلى مكانه ليستريح بانتظار موعد إفطار الليلة التالية.

  هكذا تشع الروح الرمضانيّة فتملأ النفوس صفاء والقلوب محبّة.

  إنها بقعة الضوء الوحيدة تقريبًا التي لم تتغيّر، والتي نرجو جميعًا ألاّ تتغيّر، فنتمكّن من الاستمتاع بما تبثّه من فضائل وحسنات تساعدنا على تحمّل كل هذا الذي يجري من حولنا، ونحافظ على ما تبقى في داخلنا من روح انسانيّةلم تقْوَ عليها هجمات اليباس.. ولن تقوى!

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *