سلسبيل
منى دوغان جمال الدين
سكبت القطرة الاخيرة في دلو نحاسي بلطفها المعهود، حزمت حاجياتها لتعود أدراجها.
انتابتها رعشة علت ملامح وجهها حتى فقدت وجنتاها الورديتان خمرتهما الصباحية؛ غزا الشحوب روحها مع آخر خيط ابيض عقدته السماء في افقها السرمدي، وبخطوات مترددة سلكت دربها وعيون خفافيش الظلام تحدق في قامتها الهزيلة التي ارهقها وجع السنين وظلم الايام.
منذ نعومة اظفارها، عرفت سلسبيل طهر الروح ونقاء النفس مع كل قطرة تنثرها على قلوب متعطشة لجرعة ماء. بحب، كانت تروي الاراضي القاحلة وتسقي من تعمد بتربة الحقول والبساتين. كانت في الايام العجاف تحلق بشفافيتها فوق سحب السماء، تناجي ربها كلما لاحت في الافق غيوم قاتمة، تدعوها لتأتي بالغيث لقطوف غمرها الجفاف واكلها اليباس.
لم تكن، رغم جنون الظلام، تهم مسرعة لولوج دارها. لم تعد تأبه لنباح الكلاب وعواء الذئاب المفترسة وهي التي مع مرور الوقت اصبحت تأنس الليل بجماله ووحشته.
لم تكن رغم شقاء النهار والتعب الذي يثقل كاهلها تركض مهرولة باحثة عن دفء المساء وحرارة الدار وشوق المحبين.
كيف لا؟!! وهي، منذ سنوات، تعيش وحشية رجل لا يعرف الرحمة والشفقة، رجل يتسكع نهارا ويفتش عن ملذاته ليلا غير آبه بآلام وشقاء زوجته واحتياجات اولاده.
كيف لا؟!! وهي التي تعرف جيدا ان ما ينتظرها هو جدار بائس وأنين أولاد جائعين وسوط زوج ساخط.
كم من مرة فكرت ان تحزم امتعتها وان تهرب مع دلوك الليل او مع اول صرخة من صباح غاضب. كم من مرة عزمت وهي تحضن طفليها ان تحلق بهما فوق هذه التلال الواعدة والجبال الحالمة.
لكن، الى أين؟ احتارت في أمرها… كيف تجازف بعائلتها وهي لا تملك مكانا يأويهم بعيدا عن جحيم الواقع، ولا قوتا يسكت جوعهم.
كل ما تملكه هو بئر ماء ودلو لا يمل ولا يكل من العطاء ودموع تذرفها ليلا تروي بها ظمأ متعطشين لحلاوة نديها السخي وبسمتها الصافية.
كل ما تملكه هي دعوة من شيخ بسيط وامرأة عطوفة وقهقهة طفل بهيّ.
فإلى أين؟ كان السؤال يراودها في صحوتها ومنامها الى ان جاء اليوم التي تسلحت بشجاعة امرأة متمردة.
ركلت دلوها، ثم دخلت غرفتها وارتدت فستانا حريريا يفوح منه عبق الياسمين، سرحت شعرها ثم وضعت سلسلة ذهبية حول عنقها قبل ان تزج ولديها في عربة أجرة لتنطلق بهم الى حياة جديدة، حياة نهايتها مجهولة لكن بدايتها محفورة على جبين امرأة متمردة.
