“بيادر الحنين”… قراءة في ديوان “عيناك مرفأ لحنيني” للشاعرة كلود ناصيف حرب

Views: 659

د. جوزاف ياغي الجميل

“عيناك مرفأ لحنيني”، عنوان ديوان للأديبة كلود ناصيف حرب. والعنوان مفتاح. ومفتاح الديوان هو الوطن.

عيناك.. وهل أجمل من العينين تمخران العباب، إلى بلاد الأرز، من بلد اليباب؟

عيناك، يا حبيب القلب، مرفأ المغامرة، في رحلتها السندبادية. والمغامرة لا تنتهي لأن البحر واسع وبعيد. هو بحر الحنين إلى عودة ليست قريبة.

البحر يبتلع المرايا؛ فمتى الوصول؟

البحر مارد من ألف رحلة ورحلة. ومركب الأديبة حرب يمخر الأمواج منتظرا ساعة العودة، العودة إلى أورفليس، إلى حيث يشتعل القلب بحنين لا ينطفئ أواره، ولا يستكين.

بين أستراليا ولبنان لجج من الأشجان، بساطها الريحي البحري لا يتوقف عن الطيران. ولا مرفأ يبدو، في المدى المنظور، إلا مرفأ الحنين.

بين لبنان وأقاصي المسكونة حوار قلبين شاء لهما القدر أن يفترقا، أن يعانقا البحر المحيط، بيدر الأحزان، يزرعان فيه سنابل البوح، ولا حصاد.

أي موج يغامر بالروح فيشجيها، وينحت في جنباتها قببا من الغربة السمراء؟

أي زرقة في سماء تائهة كصحراء لا واحات فيها، ولا نخيل، بل أي قدر بخيل، تواجهه أحلام المساء؟

بين زرقة الحلم والسحب الملبدة بالشوق خيوط عسجدية تشد الأديبة حرب إلى أعراس الوطن التي فارقتها، منذ ولادة شهريار.

بين موج الغربة، حيث بلاد حوريات العز، وبلد الأرز، تشتعل في القلب أحلام الفرار.

وتضيق مساحة الحلم/الضوء، حين ينبت في الذات مشعل القرار.

إنه مشعل الكتابة، مركب العودة إلى موطن الأسرار.

هو الشعر مركب السندبادية العاشقة، مركب الحنين إلى أرزة باسقة، تولم في الذات شجن انتظار.

وتزهر في ديوان الحب ظلال حصار.

 

شاطئ الغد المسحور

عيناك مرفأ لحنيني، شاطئ الغد المسحور، كمقلة الزمان. والمرفأ الفضي بعيد، كما الوطن، والشجن، وشرفة الحوار.

بين الشاعرة والوطن رسائل عشق بلا نهاية، وفي الموج غابات عذراء يشتعل في أدغالها المطر، والخطر، وثلج البعاد.

في ديوان حرب حرب على غربة/تيه/ جليد ليس يكسره مداد.

ولا تملك الشاعرة إلا السفر عبر أثير الحروف والكلمات.

ما أضيق العيش لولا. . . هذه النغمات!

ما أضيق العيش لولا ثلاث هن من لذة الشاعرة حرب: البحر والحب والأمنيات. ثلاثية تكشف عمق اتساع بحجم الحب، وامتداد انتظار كأحلام البحر، وسمو اعتراف كشرفة الأمنيات.

بين الحب والبحر رسائل وشيفرات لامتناهية الأبعاد. رسائل بوح يخطها التوق والشوق.

البحر رمز اغتراب يصل الغربة بالوطن. وعلى الضفتين أريج حنين لذكريات تعيد الشاعرة إلى طفولتها الأولى. تقول الشاعرة:

أيّها البحر الغاضب حيناً

والهادئ أحياناً. . .

أنت تشبهه وتعرفه

فاخبرني عنه:

هل يفكّر بي؟ (من قصيدة أيها البحر)

هذا الـ”هو” قد يكون حبيبا بعيدا. ولكنه، في الواقع، وطن الشاعرة. لا يغادر تفكيرها والجنان. هو الجنة التي تحلم أن تعود إليها، ولو في الأحلام. وتسأل البحر عنه، لأنه وحده الذي يراه، ويزور ثراه.

في البحر كنوز وآهات، محار يسكن في أعماق الوجد والجراح. وهكذا الوطن، على الرغم من أمواج الأحزان التي تصطخب في عبابه والشطآن. تتماهى به الشاعرة كي تصبح موجة من أمواجه تنكسر على شاطئ الحنين. تقول الشاعرة:

قل لي أيّها البحر الغريب الكئيب:

أصحيح أنّ الأمواج تموت؟

رأيتها تتكسّر عند الشاطئ

(من قصيدة أيها البحر)

هذه الإسقاطات تعكسها آلام الفراق. وهي آلام تصيب الحبيبين في آن: الشاعرة ولبنان.

أما الحب فكان له في الديوان غير قصيدة وقصيدة، تكشف عمق بيادر الحنين والاشتياق. تتفجر النفس عاطفة نورانية الصفات. تقول في قصيدة حبك يكفيني:

حبيبي

لا شيء قادراً على أن يبعدك

وتقول في قصيدة “رائع حبك يا حبيبي”:

كم هو رائع حبّك يا حبيبي. . .

وجدتُك وغرقتُ في روحك. . .

وفي قصيدة ثالثة بعنوان”أخبرني حبيبي”تقول الشاعرة:

حبيبي الغالي…

كيف افتقدك؟

وكيف أشتاق إليك . . .

وأنت قيد الاقامة الجبريّة

في قلبي وحياتي؟

كفراشةٍ حبيسة في معطف أتمزّق

بين شهوة الحرّية ولذّة الدفء. . .

أشتَاقُ إليك

هو حب الوطن يتربع عميقا، على عرش القلب. وطن تراه الشاعرة حرب يتجسد في جمالات الطبيعة، وفي رحم الذكريات الفضية العبير. بتمزق خافقاها بسبب البعد، والمحبة، كما يقول جبران خليل جبران، لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق.

 

البحر والحب

بين البحر والحب جناس، كما بين لب الشاعرة ولبنان. لبنان الذي تشتاق إليه الشاعرة كفراشة تتمزق، في شرنقة الغربة، ولا تستطيع الخروج، إلى عالم الضياء.

البحر والحب، في شعر الشاعرة كلود ناصيف حرب خطان يتقاطعان في ذاتها، عند خط استواء العواطف الجياشة، كبركان الغربة المتفجر حمم انتظار. ويتم التقاطع بين هذين الموضوعين، في دائرة الأمنيات. وأية أمنيات أشهى إلى القلب، من العودة إلى رحم الوطن.

تقول الشاعرة مخاطبة أناها:

عودي إلى هناك

فهناك بقايا أمنية

والـ “هناك”هو عالم الذكريات المعتقة بالشوق، والحنين، والحب. عالم الوطن الذي نما أمنية في القلب، بل بقايا أمنية حطمتها أمواج السفر، على صخور الغربة الرعناء. لهذا تناجي الشاعرة حبيبها الوطن، كي يحقق لها أمنيتها الحلم، فيعيدها إليه، إلى خافقه العرفاني الرحب. تقول الشاعرة في قصيدة خذني إليك:

خذني بعينيكِ ضوءاً

على شاطىء الذكريات

لأترك في زمن الحلم

كلّ هموم السفرْ

بين عيني الوطن وأحلام الشاعرة مناجاة، دعوة إلى اللقاء الذي ينسي الشاعرة هموم السفر. فالسندبادية لم تعد تغريها الرحلات والمغامرات. همها الأوحد أن تعود إلى روايتها الأولى، إلى صدر الحبيب/الوطن، كي تستعيد لذة الحياة. تقول الشاعرة:

كنت وستبقى في كلّ مكان

وكلّ زمان

وفي مطلع كلّ حكاية

أهمس لك:

خذني إليك…

***

ما أقساك، أيها البحر، تذهب بأحلام العشاق لترميها على صخور الواقع السيزيفي!

إنه التحدي الأكبر بين الذاتين الصغرى والكبرى. تنتظر الشاعرة كلود ناصيف حرب، كما في القصص الشرقية، وصول الفارس، على حصانه الأبيض، كي يعيدها إلى فردوسها المفقود. وهذه مأساة كل مغترب، في بلاد الانتشار، يمزقه الحنين، ويخترق صدره سنان البعاد. فهل يتحقق الوعد، وتصدق الأمنيات؟

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *