القدس في رحلة الشّيخ عبد الغنيّ النّابلسيّ الموسومة بـ “الحضرة الأنسيّة في الرّحلة القدسيّة”

Views: 715

أ.د. محمد العويسات

 

هذه دراسة بعنوان “القدس في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي” الموسومة بـ “الحضرة الأنسيّة في الرحلة القدسيّة”، التي قام بها لفلسطين في مطلع القرن الحادي عشر الهجري الموافق لأواخر القرن السابع عشر الميلادي، والتي استغرقت خمسة وأربعين يومًا، ابتدأها من دمشق متوجّها إلى بيت المقدس، ومنها إلى الخليل، وتستهدف الدراسة توثيق صورة عمرانّية حضاريّة للقدس في زمن الدولة العثمانيّة.

 

للقدس تاريخ طويل مديد يجب أن يبعث، ويجب أن ترسم صورة القدس كما كانت، كي لا تطغى على أجيالنا الصورة المصطنعة الزائفة، وقد استذكرت كتاب كنت قد درسته في مرحلة الدراسات العليا في مساق الأدب العربي في العصر العثماني، لأحد أشهر علماء المسلمين وأشهر الرحالة في ذلك العصر الشيخ عبد الغنيّ النابلسيّ، هو كتاب “الحضرة الأنسية في الرحلة القدسيّة”، وهو من عيون أدب الرحلات عند العرب والمسلمين، فوجدت فيه وصفًا حيّا لوجه القدس الحضاريّ والتاريخيّ والعمراني قبل ما يقارب ثلاثمائة وخمسين عامًا، كانت رحلة النابلسيّ من دمشق إلى القدس فالخليل، قد استغرقت شهرًا ونصفًا، قضى الكثير منها في بيت المقدس، فوصف المدينة وأبدع في الوصف، فكانت محور زيارته، فوجدت في أوصافه توثيقًا للعمران من مساجد ومقامات وقبور ومزارات وتكايا ومدارس وعلى رأسها المسجد الأقصى، ووجدت صورة حضاريّة رسمها الرّحالة، بالجملة والتفصيل، ووجدت معالم ما زالت قائمة، ومعالم طمست، وحقائق ماثلة وأخرى قد غابت، ووجدت في وصفه لوحة فنّيّة نُسجت بخيوط صوفيّة أتقن تلوينها، تجذبك نحوها لغة غاية في الجمال، وكأنّ للسجع وقع السّحر، وكأنّ المزج بين النثر والشعر شرَك نصب بإحكام، وكأنّ اللغة الصوفيّة تستهوي النّفس والعقل وتبعث الفضول للمعرفة، ولكنّ الجذب الأكبر كان لحديث القدس وذكرها، ولا أبالغ إن قلت إنّي كنت أستشعر الوجود بأنس الحضرة وحضرة القدس، فأحببت أن أنقل لمن يعشق في القدس مغانيها وحضارتها وتاريخها ملخّصًا أو شذرات مُغنية، أو شربة تروي الصادي المتعجّل، وتعرّف بتراث القدس، وتبعث من استكنّت فيه ملكة البحث وموهبته، واتبعها بدراسة موجزة تجمع بين وصف اللغة وفن الرحلة لدى النابلسيّ، لذا جاء البحث على أقسام في الأول منها تناولت الرحلة في الأدب العربي على وجه موجز، ثمّ عرّفت بالرحلة القدسيّة، وتناولت أهمّيّة هذه الرحلة بشكل موجز، ثمّ ترجمت للشيخ عبد الغني النابلسيّ، ومنها دخلت إلى القسم الثاني وهو صلب الموضوع  وهو وصف القدس وكانت على محاور الآتية: مقابلة القدس بمكّة، وبحث أسماء القدس، وحدود بيت المقدس، وفضائل بيت المقدس، ووصف الصلاة في المسجد الأقصى، ثمّ وصف المعالم المكانية في القدس من الجانب التاريخيّ والعمرانيّ وما تعلّق بها من جوانب تعبديّة وتعليميّة، وكان القسم الثالث هو الدراسة في جوانب عدة أهمها الجانب الوصفي والجانب الأدبي والجانب الدينيّ فكنت في كل هذا متبعًا نهج الوصف والتحليل، أمّا القسم الرابع فكان نظرة في أسلوب النابلسيّ في كتابة رحلته، وختمتها بثبت بقائمة المصادر والمراجع، على الرغم من أنّني لم أجد هذا العنوان قد طرق من قبل.

 

القسم الأول      

الرحلة في الأدب العربي

تعدّ الرّحلة من فنون النّثر التّأليفيّ في الأدب العربيّ، إذ يعمد المرتحل أو الرّحالة إلى وصف رحلته أو كلّ ما تقع عليه عينه في رحلته، في البلاد التي يقصدها أو يمرّ بها، فيصف المكان والعمران والنبات والحيوان والناس وما هم عليه من دين وعادات وطبائع، وما اعترضه من عقبات في مسيره، ويصف انطباعاته ومشاعره، ولوصف الرحلة في الأدب العربي أوّليات، هي وصف الشّعراء منذ العصر الجاهليّ الرّحلة والرّاحلة، وهذه كانت من التقاليد الفنيّة في القصيدة الجاهليّة، وبخاصة في المعلّقات،  وإذا ما نظرنا في معلقة امرئ القيس، وجدناه يصف أطلال الحبيبة، ورسمه الذي لم يعف بتناوب ريح الشمال والجنوب عليه، وما فيه من آثار لحيوانات الصحراء، وهذه المقدمة الطللية أشبه ما تكون بوصف بداية الرحلة، وبعد أن يصف مغامراته مع المحبوبة، نجده ينتقل إلى وصف الليل، ووصف الحصان وسيلة هذه الرحلة، وما وقع له من الصيد، وينهيها بوصف المطر (الزوزني، 1990: 11-42)، وكذلك زهير بن أبي سلمى ينتقل من الوقوف على الأطلال إلى وصف رحلة ظعائن فيهن محبوبته في تسع أبيات (الزوزني،1990: 81-83)، ولكن فنّ الرحلة النثري التأليفيّ لم يعرف عند العرب إلا بعد الفتوحات الإسلامية، وما اقتضاه هذا التوسع من دواعي سياسيّة وإداريّة، ودينيّة، وتجارية، لمعرفة البلاد المفتوحة وما يجاورها جغرافياً وبشرياً وثقافياً، وكذلك اطلاع العرب على تراث الأمم الأخرى وثقافاتها، من مثل الإغريق، وبخاصّة على أدب الرحلة عندهم، من أمثال رحلة هيردوت الذي زار مصر وبلغت رحلته إيران وأودع مشاهداته في كتابه التاريخ الكبير، وبطليموس الإسكندري وهو صاحب كتابين في والجغرافيا والفلك، وصف فيهما البلدان التي زارهما، (شوقي ضيف،1956: 8)،  ومن أشهر الرحلات في الأدب العربي “المسالك والممالك” لابن حوقل في القرن الرابع الهجري، و” أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” للمقدسي في القرن الرابع الهجري أيضاً، ورحلة البيروني في القرن الخامس الهجري، و”نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” للإدريسيّ في القرن السادس، وابن جبير الأندلسيّ في القرن السادس الهجريّ من الأندلس إلى بيت الله الحرام، وامتازت رحلته بأن كانت مذكّرات يومية موثّقة باليوم والتاريخ، وأسماها تلامذته (تذكرة بالأخبارعن اتفاقات الأسفار)، ومن الرحلات المشهورة رحلة ابن بطوطة” تحفة النّظارفي غرائب الأمصار”  في القرن الثامن الهجري وغيرها(شوقي ضيف،1956: 13-95). وقد أحصى فؤاد قنديل في كتابه ” أدب الرحلة في التراث العربي” من القرن الثالث الهجري حتى القرن الثامن الهجريّ الرّحالة، فبلغوا خمسة وثلاثين رحالة، تناول كلّ واحد منهم على حدة ذاكراً كتابه وجهة رحلته ومضمونها في إيجاز  (فؤاد قنديل، 2002:  85 ـ 541).

 

تعريف بالرحلة القدسيّة

تقع في حوالي ثلاثمائة وخمسين صفحة، بدأها بمقدمة يربط  فيها بين فلسطين والحجاز، وبين بيت المقدس ومكّة المكرّمة، والتعريف باسم المدينة، وحدودها الجغرافية، وفضائل القدس وزيارتها، ويعتمد في هذا العديد من الكتب، أهمّها (الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل) للحنبليّ، (وإتحاف الأخصّا في فضائل المسجد الأقصى) لإبراهيم السيوطي وغيرها، ويورد في ذلك الكثير من الأحاديث من كتب السّنن، وأقوالاً في فضل بيت المقدس ينسبها للصحابة دون سند، ويختمها بمناقشة حديث (لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) مناقشة فقهية ولغوية، خرج منها بجواز زيارة قبورالأنبياء والصالحين ومقامات الأولياء من المتصوفة وغيرهم .

ويقسم النابلسي كتاب رحلتة على خمسة وأربعين يوماً، يرصد في كل يوم المواقع التي زارها، ويذكر من التقاهم في ذلك اليوم، ويذكر فيها مشاهداته وانطباعاته ، ويورد في ثناياها كثيراً من أشعاره وأشعار غيره في مواضيع شتى، معظمها في فضائل الأمكنة المزورة وأوصافها، وبخاصة القدس والخليل، ومدائح الأنبياء، وغيرهم من الأولياء.

أهمية هذه الرحلة

تكمن أهمية هذه الرحلة في أمور عدة أهمّها أنّها تمثّل أدب الرّحلة في تاريخ الأدب العربيّ  في العصر العثمانيّ، فتعطي صورة جليّة لخصائص الأدب العثمانيّ بشقّيه النثريّ والشّعريّ، فكتاب الرحلة هذا ليس مؤلفاً نثريّاً يصف الرحلة بنصّ نثريّ فقط ، بل يجمع أيضاً أشعاراً تجعل منه ديوان شعر، يحوي أشعاراً تختلف أحجامها وأغراضها، ليس لمؤلفها وحسب بل لشعراء آخرين، لتمثّل الشّعر في العصر العثمانيّ أحسن تمثيل، وهذا ما ميّزها عن رحلات أخر لرحّالة آخرين، وثاني مكامن أهمّيتها هو ما تشترك فيه مع باقي الرّحلات في الأدب العربي، من الأهمّية الجغرافيّة والاجتماعيّة، أضف إلى ذلك أهميتها الفكريّة والدينيّة، فهذه الرّحلة  تؤرّخ لظاهرة التّصوّف في العصر العثمانيّ في بلاد الشام وبخاصّة فلسطين، وتبيّن مدى شيوعها بين النّاس، فالنابلسيّ كان من كبار المتصوّفة في عصره، فرسم في رحلته هذه صورة جليّة للفكر الصّوفيّ وجوانبه التّعبديّة، وثالث مكامن أهمّيتها هو في تعلّقها ببيت المقدس، وما كان من وصف جغرافيّ وعمرانيّ ودينيّ واجتماعيّ، وذكر لأعلامها في ذاك الزّمان، وذكر للقبور والمزارات الصوفيّة في فلسطين عامّة، والقدس خاصّة، فهي وثيقة لحالة بيت المقدس في أواخر القرن الحادي عشر الهجريّ الموافق لمنتصف القرن السابع عشرالميلاديّ، وما أحوجنا اليوم لمعرفة هذه الحقائق وتلك المعالم التي طمست بفعل احتلال اليهود لهذه المدينة وما يقومون به من تهويد لكلّ شيء فيها، وهناك أهمّيّة أخرى لهذا الكتاب، لا أراها تغفل، تكمن في حشد من أسماء المؤلفات في التاريخ والرحلة والتصوّف والحديث والتفسير وفضائل بيت المقدس وغيرها، والأعلام الصوفيّة وغير الصوفيّة، والكُتَّاب والشّعراء.

 

الشيخ عبد الغنيّ النابلسيّ :

هو عبد الغنيّ بن إسماعيل بن عبد الغني بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم النابلسيّ، كانت أسرته تعرف ببني جماعة، سكن جدّه إبراهيم نابلس فنسبوا إليها، ولد في دمشق عام 1050 للهجرة، الموافق 1641 للميلاد، وتوفي فيها عام 1143 للهجرة، الموافق 1731 للميلاد، وكان تلقى علومه على علماء كثيرين منهم والده والنّجم الغزيّ وعليّ الشبراملسي والملّا محمود الكردي وغيرهم، ومن أشياخه الذين أثّروا فيه عبد الرزاق الكيلاني الذي أخذ عنه الطريقة القادريّة في حماة، وأبو سعيد البلخيّ الذي أخذ عنه الطريقة النقشبنديّة، وأمّا تلامذته فقد زاد عددهم على مائة وثلاثة وأربعين أشهرهم الشيخ محمد الدكدكجي المتوفى 1131للهجرة، وقد تأثر النابلسي بأشياخ لم يجتمع بهم، منهم الشيخ محيي الدين بن عربيّ والعفيف التلمسانيّ وعبد الكريم الجيليّ، والذين أخذ منهم فكرة وحدة الوجود.

له مصنفات كثيرة أربت على مائتي مصنّف تتراوح بين الكراسة والمجلدات الكبيرة، وتتناول الحياة العلميّة والاجتماعيّة والأدبيّة والصوفيّة والسياسيّة، لا يزال أكثرها مخطوطاً، منها رحلاته الخمس إلى استانبول 1075هـ، وإلى البقاع المسمّاة  (حُلّة الذهب الإبريز في الرحلة إلى بعلبّك وبقاع العزيز) 1100هـ،  وإلى

 القدس والخليل (الحضرة الأنسيّة في الرحلة القدسيّة)  1101ه،ـ وإلى مصر والحجاز(الحقيقة والمجاز في رحلة الشّام ومصر والحجاز)1105 هـ، ورحلته الأخيرة إلى طرابلس الشام ( التحفة النابلسيّة في الرحلة الطرابلسيّة) 1112هـ .

 من أشهر ما عرف عن الشيخ عبد الغنيّ النابلسيّ موقفه من الدّخان والقهوة، فقد دخلت القهوة والدّخان العالم الإسلامي في القرن العاشر الهجريّ وانقسم الناس فيهما، ولا سيّما الدّخان، بين مؤيّد ومعارض، ومحلّل ومحرّم، وكثر الخوض في ذلك وخشيت الفتنة فانبرى الشّيخ عبد الغنيّ إلى وضع رسالة حاسمة في الموضوع سمّاها (فتوى الإخوان في حلّ شرب الدّخان) وقد بيّن فيها بالأدلة الشرعيّة أنّ تحريم الحلال مثل تحليل الحرام، وأنّه لم يرد في الدّخان شيء، وأنّه لا يجوز مقارنته بالخمر والحشيش، وقد ذكر طرفاً من ذلك في رحلته، وقد دلّ ذلك على شجاعته واندماجه في مشكلات المسلمين. ينظر: (مقدّمة التحقيق لأكرم العلبي،1990: 10) وينظر: (الزركلي، 2007: 4/32-33).

(يتبع)

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *