بيروت التي في ذاكرتي

Views: 785

زكي الميلاد

مثَّلت بيروت محطّة مهمّة ومبكّرة في سيرتي ومَسيرتي الفكريّة. وصلتُ إليها أوّل مرّة بقصد التواصُل المُباشر مع فعاليّاتها الفكريّة والثقافيّة مطلع العام 1992، أي قبل ما يزيد على ربع قرنٍ من الزمن، وبقيَتْ صلتي بها دونما توقُّف إلى اليوم. صارت بيروت محطّتي المدينيّة العربيّة الأولى لناحية التردُّد عليها في زيارات عمل قصيرة، ولا أعلم حتّى عدد الزيارات التي قمتُ بها لكثرتها ودواميّة تكرارها.

لسنواتٍ كثيرة كنتُ أصل إلى بيروت قادماً من دمشق، قاطعاً المسافة برّاً، عابراً الطريق الجبليّة الجميلة المعروفة بـ “ضهر البيدر”، الواقعة ضمن سلسة جبال لبنان الغربيّة، وترتفع قرابة 1500 متر عن سطح البحر، ويبلغ طول هذه الطريق حوالى 112كم، وتمثّل الحدّ الفاصل بين محافظتَي جبل لبنان والبقاع. عبرتها صيفاً وشتاء. صيفاً بهوائها الجبليّ العليل، وشتاء، وهي مكسوَّة بالثلوج المُتغازِرة، وتكون الطريق أحياناً مقطوعة بسبب تراكُم الثلوج.

في بيروت نشرتُ أولى كتاباتي الفكريّة، متخيّراً دوريّات فكريّة عديدة، في طليعتها: “المستقبل العربي”، الصادرة عن “مركز دراسات الوحدة العربيّة”، وقد نشرتُ فيها ثلاث مقالات مبكّرة، أولاها في شهر آذار (مارس) من العام 1992.

كما نشرتُ في دوريّة “منبر الحوار”، وهي فصليّة تُعنى بحوار الأفكار والثقافات، وكان يترأَّس التحرير فيها يومذاك د. وجيه كوثراني أستاذ التاريخ في الجامعة اللّبنانيّة. وأولى المقالات التي نشرتها كانت في ربيع 1993. ثمّ نشرتُ بعد ذلك في مجلّة “المنطلق” عام 1995، وفي “الاجتهاد” عام 1997. وتوسّعت قائمة النشر لديّ بعد ذلك واستمرّت حتّى وصلت إلى ما يُقارِب خمسة عشر منبراً، ما بين صحيفة ومجلّة ودَوريّة، منها ما توقّف ومنها ما يزال مُواظباً على الصدور.

كنت أعدّ هذه المقالات تحضيراً لكلّ مرّة كنتُ أقوم فيها بزيارة بيروت. أحملها بنفسي، وأسلّمها باليد، متّخذاً منها طريقاً للوصول والتواصُل مع هذه المَنابر النشريّة، ومعها مَراكز البحوث والدراسات التي كانت تنتعش بها بيروت. وفي كلّ هذه المرّات، كنتُ ألتقي برؤساء تحرير هذه المَنابر أو المجلّات، متبادلاً وإيّاهم الأحاديث الفكريّة والثقافيّة التي تشغل اهتمام الساحة العربيّة آنذاك.

تطوَّرت علاقتي ببيروت، المدينة والمكان، وقويت وترسَّخت مع صدور مجلّة “الكلمة” التي تولّيت رئاسة التحرير فيها؛ وهي دوريّة فكريّة فصليّة اتَّخذت من بيروت مكاناً للطباعة والتوزيع. صدر العدد الأوّل منها في خريف العام 1993، وما زالت مستمرّة في الصدور إلى يومنا هذا. وقد أردنا عبرها (أي مجلّة الكلمة) أن نطلّ على العالَم العربي ونتواصل معه فكريّاً وثقافيّاً من بوّابة بيروت، المدينة التي فيها من فضاءات الحريّة وفُرص التواصُل ما لا يتوافر في أيّ مدينة عربيّة أخرى.

الانطباعات الأولى

وفي بيروت التي تُعَدّ، بلا منازع ولا مُنافِس، مطبعة العالَم العربي، تواصلتُ أيضاً مع العديد من دُور النشر، وأصدرتُ فيها أولى مؤلّفاتي، ابتداءً من العام 1991، وتوالت بعد ذلك مؤلّفاتي صدوراً من بيروت، حتّى وصل تعدادها إلى تسعة وعشرين كِتاباً، وعبر تسع مؤسّسات نشريّة، منها “المركز الثقافي العربي”، حيث نشرتُ فيه سبعة مؤلّفات بدءاً من سنة 1999، ومنها أيضاً “مؤسّسة الانتشار العربي”، و”الدار العربيّة للعلوم”، ودار “الجديد” وغيرها من مؤسّساتٍ نشريّة ذات صلة.

أولى انطباعاتي المبكّرة التي كوّنتها عن بيروت ورسخت في ذاكرتي، أنّها المدينة العربيّة الوحيدة التي ما إن تدخلها، حتّى تخال نفسك أنّك صرت خارج العالَم العربي، وخصوصاً لجهة حريّة التعبير والرأي، وعدم الخوف المُسبق من كلّ مَن تلتقي بهم. فالكلّ يُشعركَ بالأمان على لسانك وعقلك، بما في ذلك سائق الأجرة والبائع والرجل العاديّ، وحتّى رجل الشرطة والأمن، وتكفي هذه السمة عظمة لبيروت وسبباً لمحبّتها والتعلّق بها.

نعم، تعلّقتُ ببيروت وجدانيّاً. أصبحت مدينتي، أفرح لفرحها وأحزن لحزنها وأتلهّف لزيارتها وأترقّب شوقاً للحظة وصولي إليها. لذا تراني، وبعفويّة أتسقّط أخبارها وتطوّرات ما يجري فيها. صُورها تسكن لبّ مخيّلتي ولا تُفارق ذاكرتي، وهي، ربّما، المدينة العربيّة الوحيدة التي تظهر مُبتسمة للجميع، تُرحِّب بزوّارها أيّما ترحيب، وتتباهى بجمالها، جبلاً وبحراً.

وبيروت أيضاً، هي المدينة العربيّة الوحيدة التي لا تٌعرّف نفسها إلّا بتنّوعها البديع، وهو تنوّع يصادفه الفرد/ الزائر لها في كلّ لحظة، أينما ذهب، وكيفما اتّجه فيها: من الفندق ومكان السكن إلى المطعم والمقهى والسوق وسيّارات الأجرة… إلخ.

في وقتٍ واحد، قد يجد الإنسان الزائر نفسه من دون أن يعلم في حديث مع المسيحي والمُسلم من دون أن يلحظ أيّ تفريق بينهما. المسيحي على اختلاف تشكيلاته المذهبيّة الدينيّة والمُسلم كذلك؛ فمجموع الطوائف والمَذاهِب المُعترَف بها رسميّاً في لبنان هو ثماني عشرة طائفة وكلّها تُشكِّل مُجتمعاً واحداً راسخاً في تاريخه ووجوده على أرضه، وعندما تكون بينهم من الصعب عليك أن تفرزهم في يوميّاتهم الحياتيّة وميولهم وأذواقهم وفي مأكلهم ومَشربهم وحبّهم للحياة وطرائق عيشها.

ومَن يصل إلى بيروت وتطأ قدمه أرضها، سرعان ما يتملّكه الإحساس بفكرة العودة إليها. ومثل هذا الإحساس راودني شخصيّاً لدى أوّل زيارة لي لهذه المدينة الجميلة والحيّة. وأحسب أنّ بيروت هي أكبر من مدينة، أُفقاً ورحابةَ صدر ومناخَ عَيش حرّ ومُتنوِّع، ومساحات من الدمقرطة وحريّة التعبير، وهي لا تُقارَن بأيّة مدينة عربيّة أخرى على هذه الصعد وغيرها.

قوّة حادثة انفجار المرفأ

أردتُ من سرْد هذه الانطباعات الذاتيّة، تصوير مدى قوّة الصدمة التي شعرت بها بعد حادثة انفجار مرفأ بيروت في الرّابع من شهر آب (أغسطس) الماضي، الانفجار الذي كانت قوّته في الوجدان أشدّ وأكثر إيلاماً من قوّته على الأرض، مع أنّ الذي حدث على الأرض فاقَ التصوّر والخيال، مُخلِّفاً أضراراً بشريّة وماديّة، هي بحجْم أضرار حربٍ بعَينها، وأكبر من مجرّد انفجار.

شَعَرْنا به حَدثاً جارِحاً للكرامة، مؤلِماً، فاجِعاً، عصيّاً على النسيان، وما كان البتّة في حسبان أحد منّا، بخلاف سائر الأحداث والتطوّرات المُفجعة التي شهدتها بيروت على امتداد حقبتها الحديثة؛ وهو حدث لا يُقارَن حتّى بأيّ نظير له عرفه لبنان الحديث وحتّى العالَم العربي برمّته.

سيظلّ حدث الانفجار هذا مُحيِّراً لزمن طويل، يصعب فهمه، ويلتبس تفسيره. إنّه يكتنفه الغموض من كلّ جهاته، وكأنّه كان مقصوداً لتدمير المدينة بأكملها وإزالتها من الوجود، أو تحويلها إلى مدينة مشلولة في كلّ شيء.. مدينة لا جمال فيها ولا حياة، لا مُستقبل لها ولا أمل.

انفجار مرفأ بيروت، سيظلّ علامة تُعرف بها العاصمة اللّبنانيّة على غرار علامة “حريق القاهرة” الذي اندلع في العام 1952 من القرن الماضي، وكما عُرفت مدينة أغادير المغربيّة بزلزالها المدمِّر سنة 1960، وهو أقوى الزلازل فتْكاً وتدميراً، مغاربيّاً وعربيّاً. وكما عرفت هيروشيما اليابانيّة بعلامة قنبلتها النوويّة التي أبادت المدينة بَشَراً وحَجَراً سنة 1945… وهكذا بالنسبة إلى مُدنٍ أخرى شهدت مثل هذه الكوارث والفجائع الكبرى في التاريخ بوجهَيه القديم والمُعاصِر.

والمؤلم بعد في كارثة بيروت الأخيرة، أنّ هذه المدينة التي تعافت حديثاً من كابوس حرب أهليّة بغيضة دامت عقداً ونصف العقد، وأخذت ذاكرة الحرب فيها تتلاشى شيئاً فشيئاً لتُصبح أثراً من الماضي المَنسي، أقلّه بالنسبة إلى الأجيال الجديدة، وبدأت تستعيد مَكانتها المتألّقة في كلّ شيء، جاءت هذه الكارثة لتردّها إلى نقطة الصفر من الانكسار والدمار والخراب الأسود، عقاباً وانتقاماً. ولكنْ هل سينجح مدبّرو الشرّ بإلحاق “الشرّ العظيم” الذي من شأنه (بحسب نواياهم وأغراضهم طبعاً) أن يكسر إرادة بيروت ويُطفىء أنوارها؟

لا نعتقد ذلك البتّة، فهذه المدينة عوَّدتنا دوماً على النهوض من أيّة نازلة تنزل بها. لكأنّ قدرها هو كذلك، فتستعيد، من فَورها، ذاكرتها المُنتعِشة بأسطورة طائر الفينيق الذي ينبعث من قلب رماده، مُسطِّراً إرادة التحدّي وقوّة البقاء.

هكذا، ستظلّ بيروت مدينة ذات فرادة استثنائيّة، ليس بإمكان أيّ مدينة عربيّة أخرى أن تحلّ محلّها، أو أن تأخذ دَورها، أو تتمثّل سيرتها، لا في مَشرق العالَم العربي ولا في مَغربه.

نعم، لا توجد مدينة عربيّة تقوى على التنوّع في “صورته البيروتيّة” كما بيروت، ولا توجد مدينة عربيّة توفِّر أجواء الحريّة والديمقراطيّة كما توفّرها بيروت، وليس ثمّة مدينة عربيّة تزيل عنك الإحساس بالخوف من قول الكلمة التي تريد قولها كما تتيح لك ذلك بيروت.

هذه هي بيروت التي عرفها الفينيقيّون قديماً، وأطلقوا عليها اسم “المدينة الآلهة”، وعرفها الرومان وأطلقوا عليها اسم “أمّ الشرائع” (نظراً لوجود أكبر مدرسة للقانون أنشأوها فيها). أمّا العثمانيّون فقد سمّوها “الدرّة الغالية”. ولاحقاً، أي في العام 1902، سمّتها مجلّة “الهلال” المصريّة “زهرة الشرق”، وناداها الشاعر العربي الكبير نزار قبّاني قبل سنوات بـ”ستّ الدنيا”.

هذه التسميات والألقاب القويّة والبديعة والعريقة التي ترتدّ إلى عصور ما قبل الميلاد، وما بعده، وصولاً إلى أيّامنا هذه، يجري تذكّرها اليوم لبنانيّاً وعربيّاً، ولفت الانتباه إليها، والحديث عنها في ظلّ هذه الكارثة المُرعِبة، في دلالة قويّة على أنّ بيروت بتاريخها وإرثها ومَكانتها وتنوّعها، لا تقبل بالهزيمة ولا بالانكسار، فبيروت هي بيروت وكفى.

***

(*) كاتب وإعلامي فكري من السعوديّة

(*) مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *