الجماعات المتظلّمة والجماعات الظالِمة

Views: 527

د. عبد الله إبراهيم*

لا شاغل للمرء الذي تستبدّ به فكرة التظلُّم إلّا التفكير بالموت الذي يتوقّعه، ولكنّه لا يرغب فيه، فقد وضع نفسه في منزلة الضحايا الأحياء، وقَبِل بمصيرهم المؤجَّل، وما عاد من المُتاح له أن يفكّ أسره من انتظار ذلك ليكون شهيداً، وقد يبحث، في لا وعيه، عن أيّ فرصة ليُحقّقَ مضمون فكرة الانتظار التي لازمته جيلاً قَبل جيل، وعصراً قَبل عصر، لأسبابٍ فرديّة تتمثّل في علاقاته بالآخرين، أو أسبابٍ عامّة لها صلة بانتمائه إلى جماعة مهمّشة أو مضْطهدة.

تخيِّم على المظلوم مشاعر الأذى، وربّما حبّ الأذى، ويشعر بأنّه دون ما ينبغي أن يكون في مجتمعه، فيبالغ في التظلّم، ويلبس لبوس التوجّع، ويُصدّق مرويّاته، ويصطنع له هويّة تطفح بالشكوى، وتفيض بالحزن، وتستجيب مشاعره لأحواله، فلا ينفكّ يتباهى بقدرته على احتمال المظالم، والصبر على الأذى. ويعتقل نفسه بين أسوارٍ لا أبواب لها، ويواظب على التشكّي، فوقائع الحياة عنده هي من متواليات الأضرار. وفي حال الأقليّات، غالباً ما تُصاغ هويّة جماعيّة لا تهجس إلّا بالشكوى، فتنكفئ على ذاتها في نزوعٍ نرجسيّ ينفخ في المظالم، ويجعلها حقيقةً شديدةَ الوقع، فلا يُقدِم المتظلّم، ولا يبادر للعمل، ولا يشارك في الرأي، باعتقاد أنّه ليس في موقعٍ يؤهّله للانخراط في ذلك كلّه، لأنّه من حصّة الظالمين الذين سوف يستحوذون عليه بأيّ ذريعة. يحبس المتظلّم نفسه في حالٍ من الانتظار متوقّعاً أن ينصفه القدر في نهاية المطاف، حينما يُعاد الحقّ إلى أهله، وبذلك ينجو ممّا هو فيه. النجاة آتية من دون شكّ، وإن طال انتظارها. ومع ذلك، يتوقّع المتظلِّمُ مُخلِّصاً ينبثق من الغَيب فينقذه من الجور الذي أُطبق عليه.

هل يمضي الزمن بالمتظلّم على هذا المنوال أبد الدهر؟ لا، فقد يقع ما يخالف ذلك حينما تحدث فوضى جماعيّة أو تقع حربٌ أهليّة، وينحسر غطاءُ قوّة الظالمين، وينكشف وهنهم.. آنذاك فحسب، سيدّعي المتظلِّم أنّه وراء انقشاع الظلم، وبأنّه رفع الغُمّة عن جماعته، ولا يجرؤ على ذلك إلّا حينما يختلط الحابل بالنابل. فجأة يقع تبادُلٌ في الأدوار، فحينما يتأتّى للمتظلّم أن يتولّى زمام أمره، أو حتّى زمام غيره، فيفرط في الانتقام حتّى على الشبهات، ويبالغ في الاقتصاص على التخمين، فليس في وارده التدقيق والتحقيق، ولا ترتوي شهيّته لعقاب الذين ظلموه، أو حتّى مَن اشتبه عليه أمرهم. تغمر المظلومَ بسالةٌ عمياء تنقله من رتبة المظلوم إلى رتبة الظالِم، فيَجعل الحقدَ هدفاً من أهداف حياته، وبمقدار ما كبح جماح نفسه حينما كان مظلوماً، فإنّه يُطلق لها العنان في النيل من الآخرين، وليس في وارده التسامح، ناهيك بالصفح، فقد جاءه القدر بفرصةِ الانتصاف من الظالمين بعد طوال صبر، ولن يتوانى في التعبير عن ذلك بالعنف، فكلّ فعلٍ مؤذٍ بحقّ الأغيار يكون حقّاً من حقوق المظلوم، ولا تخامره أيّة شكوك في أنّه أصبح ظالماً، فما برحَ أسيراً لشبكة المظلوميّة التي صاغت وعيه ولا وعيه، ولكنّه تحرَّر من عبء الظالمين، وصار من المُتاح له الثأر منهم، والنَّبش في تاريخ أسلافهم، وإسقاط المساوئ عليهم، فالمظلوم الذي انتهى ظالماً يغوص في سراب الأوهام، ومن بين كلّ ما يقوم به، فليس للعدالة مكان في خياله وأعماله، لأنّه يحسب نفسه أداةً من أدوات القدر الذي به يقطع دابر الظلم والظالمين.

يخلع المظلوم على ذاته الهويّة الجديدة، ويشرع في تزوير تاريخٍ يوافق رغباته، ويستجيب لتوقّعاته، ويتمادى في رواية مظلوميّته، وفيها يُعيد ترتيب الأحداث، بما يَجعل الظلم بعيدَ الجذور شمل الأسلاف والأخلاف، ويروح يدافع عن تلك المظلمة التي انتهى إليها، ويجعل منها طقساً مهيباً يخلع عليه القدسيّة، فلا يجوز الارتياب به، فذلك من مقوّمات هويّته الجماعيّة، ومع أنّه، في واقع الحال قد أصبح ظالماً، فالشعور بالمظلوميّة ينتعش ويتنامى، فيمسي ركناً من أركان الهويّة يتجسّد بالأعمال والطقوس والأفكار. وينتهي بحالٍ يرى فيها المظلوم نفسه منذوراً للنيل من الظالمين، فيمارس القهر بشعور المقهور، أيّ أنّه في الوقت الذي ينذر نفسه لمُجازاة الظالمين، والاقتصاص منهم، يُمارس أبشع أنواع الظلم بحقّهم، ويفتخر بذلك، ويضخّم من تلك الهويّة المنقسمة على نفسها من دون أن يشعر أنّه يقوم بالشيء ونقيضه في آن واحد. وفي حالته الجديدة يكون مستعدّاً لوهْبِ حياته ثمناً لما يؤمن به. ينفد صبره، ويُصاب بداء الانتقام متعجّلاً من دون رويّة.

ليس بجديد القول إنّ انشطار المظلوم على نفسه بعدما انتهى ظالماً، يعود إلى حالة الانقسام التي عاشها، وقد أعمته ظروف التظلّم عن التعرّف إلى نفسه، والتعرّف إلى ماضيه، فغايته أن يتماهى مع حالةٍ شعوريّة تُسهّل له أمرَ الانتساب إلى جماعةٍ أُزيح عنها غطاء الظلم بفعل ليس لها دَور فيه، فإذا بها جماعة شبه ضالّة تقوم بعمل الأعاجيب، فتؤذي نفسَها وغيرها في أعمالٍ لا تمتّ بصلةٍ إلى الوعي، إنّما تجعل من الغيب حقيقة، وتأخذ بسرديّته المضمرة في غياهب النَّفس، وتُكافح من أجل إرغام الآخرين على الأخْذ به، بزعم أنّها تتولّى تصحيحَ مسار التاريخ، فلا تتخيّل نفسها إلّا في كونها مظلومة، وقد تبتزّ الآخرين تحت طائلة تلك المظلوميّة التي تزدهر في أوساطها، على الرّغم من زوال أسبابها ومسبّبيها. وتكشف وقائع التاريخ أنّه ما من جماعة وقع الظلم عليها، أيّاً كان نوعه، إلّا وأفرطت في مُمارسة الظلم بعد زوال الظالمين، فديمومة التظلُّم لا تنتهي بانتهاء الظالمين، إنّما ينبغي أن تمضي بمنوالٍ تكراريّ لإذكاء فتيل التظلّم الذي استعذبه أصحابه، فلا حياة من دونه. يُستعاد الماضي المأسويّ للجماعة المتظلّمة ليكون مكافئاً سرديّاً يخلع الشرعيّة على ظلمها، ويؤكّد على أنّه حقٌّ مطلق من الحقوق المقدّرة لها.

ذلك ملمح شبه ثابت ميَّز سلوكَ المظلومين، واستبطنَ خواطرهم ومشاعرهم، حتّى وقد أمسوا ظالمين، وداومت عليه الجماعات الدينيّة، والمذهبيّة، والعرقيّة، والسياسيّة في معظم حقب التاريخ، فأمعنت في مُمارسة ظلمٍ يساوي أو يفوق ظلم الجماعات الظالمة. وبالقطع لم يكُن ظلم تلك بأقلّ من ظلم هذه، فالخيال الجماعيّ بعيد عن الصفح، ويربض الانتقام لابثاً في منطقة مخفيّة، ثمّ يندلع بتغيُّر الأحوال، فتعيش الجماعات الشاعرة بالظلم هوسَ الانتقام، فلا تشعر بضررِ أفعالها، ولا تُدرِك مدى الأذى في أعمالها، وتنسى المصير الذي ربطها بالجماعات التي تُساكنها، وتُشاركها العيش، ويصبح التطهير العرقيّ أو الدينيّ أو المذهبيّ سنّة شائعة من السنن المشرِّفة، تغذّيه الجماعة بكلّ المقوّمات حتّى تُصيّره فعلاً من أفعال الخير العظيم. وأمثلتي على ذلك انتقيها من لائحة كبيرة ازدان بها التاريخ الإنسانيّ: الجماعات الدينيّة الناشئة، الجماعات المذهبيّة المُغلقة، الجماعات الجهاديّة، الجماعات الاستيطانيّة، الكتائب العقائديّة، الفِرق الدينيّة المهمّشة، الإخوانيّات التبشيريّة، وغير ذلك كثير.

قد تتعالى أصواتٌ فرديّة تدعو إلى كبْحِ الهياج الجماعيّ للمظلومين الذين انقلبوا إلى ظالمين، ودعوتهم إلى إحلال الصفح محلّ الانتقام، ولكنّ الهياج العامّ يلتهم الأصوات الفرديّة، أو أنّ تلك الأصوات الخافتة لا تبلغ أسماع الزعماء الذين تولّوا قيادة تلك الجماعات، ولا يُوضَع حدٌّ لذلك، إلّا بظهور قوّة مضادّة تكبح الجماح، وتتبوّأ مقام الظلم، وعلى ذلك الشكل من التعاقُب يتبادل الظالمون والمظلومون أدوارهم في التاريخ، فذلك نهجٌ لا ينحسر إلّا بالتمدُّن الحقيقي، وتفكيك العلاقات المتوارثة القائمة على فكرة الغالب والمغلوب التي استبدّت بالأُمم مدّةً طويلة.

وليس من اليسر تخلّي بعض الأُمم عن تلك الفكرة الشائنة، فلا يُراد للشعور بالظلم والتظلُّم الزوال، ولا يُتاح له أن يضمحلّ، فتُختلق لديمومته ألف ذريعة وذريعة بجماعاتٍ تعمل على تحقيقه، حتّى ليؤمن به الناس على أنّه طبعٌ أصيل من طِباع الخَلق، تحتمي بها الجماعة خشية الذوبان في المجموع العامّ، وتغذّي نزوعها صَوب العزلة، وهي تعدّ عدّتها للانتقام، وغالباً ما تتجسّد تلك الفكرة بإله، أو نبيّ، أو إمام، أو قائد جامح، أو حتّى فكرة برّاقة، أو أيديولوجيا مُغرية، أو وعدٌ خلاصيّ، يكون ذلك، أيّاً كان نوعه أو شكله، حامياً للجماعة، وحافِظاً لها من التفكُّك، ومُلهماً لها في القيام بأعمالٍ تستردّ فيها هَيبتها، فتروح الجماعة بمرور الزمن، تخلع عليه من القدرات ما يفوق تصّور العقل، فهي تُكافِح لشقّ طريق حياتها بصعوبةٍ بالغة، وغايتها تحقيق فكرة سامية، ووسيلتها شخص جسور اتّخذ لبوس إله أو نبيّ أو ولي أو زعيم؛ وفي الوقت الذي تطيل فيه أمد الفكرة، وتتوسّع بها، فتأتي بها من الماضي البعيد، لتجعل منها مقوّماً رمزيّاً من مقوّمات حياتها بالطقوس والتقاليد والأعراف والأعمال، فإنّها تعمل على تجسيد تلك الفكرة برمزٍ أو بشخصٍ لتجعلَ منها مُستودعاً جامعاً لكلّ آلامها وأحزانها. وفي أحوالها العاديّة تضع نفسها في حال دائمة من ترقُّب ظهور المخلّص لينقذها ممّا هي فيه، ولكنّها، حالما أَمست ظالمة لا تريد له القدوم، فظهوره يقطع دابر الشقاء الذي داومت عليه، وأمسى جزءاً من هويّتها، وبين هذا الارتداد إلى الماضي، والارتماء في مرويّاته، والتغذّي من أوهامه، والرغبة غير الواعية بتغيير الأحوال، من جهة، وبين الإفراط في الارتماء في أحضان الأساطير، والمُبالَغة في الطقوس الجماعيّة، للإبقاء على جذوة الانتماء إلى تلك الفكرة، تتمزّق الجماعة بين قطبَيْن، وقد تتعرّض للتشقّق، بحسب السياق التاريخي الذي تعيش فيه بين الجماعات الكبرى. وفي جميع الأحوال، فإنّها تعتصم بذاتها وتحوك لها هويّة بأنّها الجماعة الأفضل، فهي الجماعة الناجية، وسوف تُتاح لها الفرصة، حتّى ولو كان ذلك في آخر الزمان، لتعديل الموازين المختلّة، حيث يحلّ العدل محلّ الظلم، وتستوي تلك الجماعة حاكمة بأمر الله أو النبيّ أو الوليّ أو القائد. وحينما يتحقّق شيء ضئيل من ذلك، بفعل تقلّبات التاريخ، وليس بفعلها، تتخلّى عن وعودها، وتستوي جماعة ظالمة، تفوق ما كانت تمارسه الجماعة الغالبة من جور، فكأنّها بإفراطها في الظلم ترغب في الانتصاف لذاتها من دون النظر لأفعالها.

لا يقتصر حال الجماعة المظلومة على التعلُّق بأوهام الماضي، وانتظار العدل على يد مُنقِذ، إنّما تأخذ في نشْرِ الكراهيّة، وحجّتها في ذلك، شعور زائف بالتفوُّق، والسموّ، ووصْم سواها بالدونيّة والانحطاط، فهي جماعة مُختارة تترقّب أن تأخذ دَورها في صنْعِ التاريخ. تُلازِم الكراهيّة، الواعية وغير الواعية، تلك الجماعات، فتُعيد تأويلَ أيّ حَدَثٍ على أنّه فضل لها، وسوء لغيرها. ينحبس مسار الأحدث، بالنسبة إليها، بين أخيارٍ بإطلاق، وأشرارٍ بالقطع. تُصبح الكراهيّة نغمةً ساريةَ المفعول في الطقوس، والمرويّات، والعلامات، وعلى خلاف ما تقوم به، فهي تتخيّل أنّ الأغلبيّة هي مصدر الكراهيّة والنّبذ. لا يُمكن تبْرئة الأغلبيّة من الكراهيّات، فقد تتغذّى منها، ولكنّها ليست جزءاً من هويّتها العامّة، إنّما تشعر الأقليّة، غالباً، بتميّزها عن الأغلبيّة في كثيرٍ من شؤون الحياة، بما في ذلك المَأكل والمَلبس والطقوس والعلاقات الاجتماعيّة، وهي تديم هذه الفوارق، لأنّها تحقِّق لها الانتماءَ إلى فكرتها الأصليّة القائلة بخصوصيّتها، فبتخلّيها عنها تذوب في الأغلبيّة، وتفقد هويّتها الافتراضيّة، فلا عجب أن تأنف عن قبول الأعراف العامّة، وتتأبّى عن التقاليد الجماعيّة، وتختلق رفعةً تُميِّزها عن سواها من الجماعات.

ويلزم الإقرار بأنّ ذلك شعور ترسَّخ بفعلِ حال الجماعة المتظلّمة، وموقعها، وإيمانها بأنّ المستقبل سيكون من نصيبها في قادم الأيّام، ويجب الاعتراف بأنّ ما تقابلها به الأغلبيّة من سوءِ ظنّ، ومن سوء تقدير، ليس طبعاً لابثاً في نفسها لا يتغيّر، إنّما هو ردود فعل على حالة الانكفاء على الذّات التي تأخذ بها تلك الجماعة، وكلّ جماعة، أقليّة أو أغلبيّة، تغذّي تخيّلاتها، من مرويّاتٍ يقع استدعاؤها من الماضي ليُشارِك في زيادة الفرقة في ما بينها، وبزوال الظروف التاريخيّة، وبالتحوّلات الاجتماعيّة الجذريّة، تخفّ تلك التمايزات، وتنخفض حدّة الكراهيّات، وينتهي الأمر بالصهر الجماعي. لكنّ الأقليّة لا تقبل بذلك الصهر، وتعرض عنه، لأنّ الغلبة ستكون لثقافة الجماعة الكبرى، وذلك، يؤدّي لا محالة إلى اختفاء هويّة الجماعة الصغيرة، فلا تقبل بالسبك الذي ينتهي بأمّة لا تجد فيها نفسها. سواء كانت أُمّة دينيّة أم أُمّة عرقيّة. وفي ظلّ شعورٍ مُتفاقِم بالظلم تُكافِح الجماعات المتظلّمة من أجل صَوْنِ معتقداتها وتقاليدها، وترتقي صورة تلك المعتقدات والتقاليد إلى درجةٍ عالية من القداسة، فالمسّ بها مسّ بهويّة الجماعة، ومع أنّها تعيش في بحر الجماعة الكبرى، وتعمل في إطارها، لكنّها غالباً ما تفصل نفسها في علاقاتٍ خاصّة لا تمتدّ خارج مدار تصوّراتها، فتنهمك في صياغةِ اختلافاتٍ تبلغ، في غالب الأحوال، درجةَ الخلافات؛ وكلّ فعلٍ تقوم به الجماعةُ الكبرى، يُفسَّر على أنّه عدوانٌ مقصود للنيل من الجماعة الصغرى، وبتراكُم الأفعال وتأويلاتها، تنفصل الجماعةُ المظلومة عن سياق الجماعة الظالمة، وتتطلّع إلى أحوالٍ خاصّة مُغايرة لأحوال تلك الجماعة، قد تنتهي بتفكُّك البلدان، وانقسام الأوطان.

تأبى الجماعاتُ الصغرى قبولَ التحوّلات التي يجريها الزمن على الجماعات الكبرى، فتتعلّق بهويّاتها، وتفسّر كلّ تغييرٍ على أنّه ينال منها، والحال، فنوازع الخوف أو الزوال أو الإقصاء، تُلازِم تلك الجماعات، وحتّى الضمانات الدستوريّة والقانونيّة، والارتهان لقوى خارجيّة أو الحماية الذاتيّة بالسلاح والمال، لا تفلح في تبديد مخاوفها الثابتة أو شبه الثابتة في مخيالها. من الصواب أنّه قد يقع استغلالُ تلك الضمانات، وتتقوّى الأقليّات بقوى أجنبيّة، ولكنّ دوام الحال من المحال، ولا يُمكن الاحتماء بأيّة قوّة مدى الدهر، ولكنّ منطق علاقات الجماعة الصغرى بالكبرى يَرتهن لمَخاوف تخفت حيناً، وتتّقد حيناً آخر بتقلُّب الأحوال، وفيها تسعى الجماعةُ الصغرى إلى تحصين مكاسبها، وصوْنِ مُعتقداتها. لكنّ الإعلان الدائم عن الظلم، والإفراط في ذلك، مع زوال أسبابه ومُقتضياته، والأخْذ به ركناً من أركان هويّة الجماعة المتظلّمة، يدفع بالكبرى للعزوف عن الصغرى، ويُرغِم الأخيرة على نسْجِ مخاوف دائمة من الأخطار التي تُحدق بها، فالنزوع إلى التشكّي سمة ثابتة تغلغلت في أخلاقيّات الجماعات الصغرى، فضلاً عن أنّه حافزٌ للتشارُك في تراجيديا الأخطار التي لا نهاية لها.

***

*كاتب وناقد من العراق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *