القدس في رحلة الشّيخ عبد الغنيّ النّابلسيّ الموسومة بـ “الحضرة الأنسيّة في الرّحلة القدسيّة”

Views: 792

أ.د. محمد العويسات

هذه دراسة بعنوان “القدس في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي” الموسومة بـ “الحضرة الأنسيّة في الرحلة القدسيّة”، التي قام بها لفلسطين في مطلع القرن الحادي عشر الهجري الموافق لأواخر القرن السابع عشر الميلادي، والتي استغرقت خمسة وأربعين يومًا، ابتدأها من دمشق متوجّها إلى بيت المقدس، ومنها إلى الخليل، وتستهدف الدراسة توثيق صورة عمرانّية حضاريّة للقدس في زمن الدولة العثمانيّة.

وتعجّ نصوصه بالمفاهيم الصوفيّة ومصطلحاتها ورموزها التي تلزم القارئ أو الباحث بالرجوع إلى معاجم المصطلح الصوفيّ.

ومن الجدير بالذكر أنّ أشعار النابلسيّ في تلك الرحلة كانت على صنفين، صنف أشعاره فيه مرتجلة على البديهة، وكان كثيراً ما يشير إلى ذلك كقوله: ولنا في مدحه هذه الأبيات على البديهة: ( النابلسي،1990: 156)

“ألا إنّ عقلاً أفضل النّاس كلّهم/ولولاه في الأحكام ما ظهر النقل/فتىً هو في البيت المقدّس كوكب/مضيء وفي أرض الكرام هو البقل”.

وصنف آخر من أشعاره معدّ ومحبّر ومحكّك، وتجده يشير إلى هذا بوصفه نظمًا بديعًا، يقول:”ولنا من النّظم البديع في مدح الجميع: (النابلسي،1990: 156)

إنّ الأكارم أهل بيت المقدس/أهل المحامد في المقام الأقدس/ أهل المراتب والمناصب والنّدى/شـمّ الـعرانين الكـرام الأنـفس”.

إلى أن يقول:

“نزعوا ثياب الكبر عنهم وقد/لبسوا من المعروف أفخر ملبس”.

ومنها مدائحه النبويّة، فقد امتازت بالإحكام وحسن الإعداد، وكشفت عن شاعريّة فيه فذّة، منها قصيدة عينيّة له في معارضة قصيدة لعبد الرحيم أفندي، ومطلعها: (النابلسي،1990: 167)

“عيوني لأنوار الحبيب مَطالع/وقلبي لأسرار الجمال مُطالع”

وتراوحت قصائدة من حيث الحجم بين البيتين والمقطوعة والقصيدة المطوّلة.

الجانب العلميّ

1.حشد النابلسيّ في رحلته فيضاً عظيمًا من أسماء الكتب في التّصوف والرّحلات والكتب المتعلقة بتاريخ القدس من مثل كتاب الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل للحنبلي، وكان يشير إليه بتاريخ الحنبليّ، وفضائلها مثل كتاب إتحاف الإخصّا في فضائل المسجد الأقصى لإبراهيم السيوطيّ، وكتب الأحاديث من مثل سنن النّسائيّ، وسنن ابن ماجة، وبعض التفاسير من مثل تفسير البيضاوي وتفسير النّسفيّ، وبعض معاجم اللغة من مثل معجم المصباح المنير، وغيرها الكثير، وهذا يشير إلى نهج علميّ في التأليف هو التوثيق، وإسناد الكلام أو المعلومة أو إحالتهما إلى أصحابها، وإن لم يكن هناك ذكر لصفحة أو غيرها من معلومات توثيقية شائعة في يومنا، وقد كان لتوثيقه أهمّية علميّة وتاريخيّة كبيرة.

2ـ حشد النابلسي في كتابه هذا عددًا كبيرًا من الأحاديث النبويّة الصحيحة والضعيفة والموضوعة دون الإشارة إلى درجتها من الصّحة، وهذا نهج يغلب على أكثر المؤلفات الصّوفيّة.

3ـ كان للنابلسيّ مناقشات فقهيّة، وفكريّة، وتفسيريّة لبعض الآيات، تعدّ من العلوم الشّرعيّة، وكان ينقل أقوال معارضية فيها، من مثل مناقشة حديث لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وحسم الخلاف فيه بأنّ المقصود هو نهي عن الزيارة بقصد الصلاة والتقرّب. (ينظر: النابلسي،1990: 31-37) ومنها مناقشته لرأي ابن تيمية وابن القيم اللذين ينكران فيه وجود أثر لقدم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في صخرة المسجد الأقصى، وفي سياق تلك المناقشة يورد النابلسي أقوالا لعلماء عدّة يردون فيها على ابن تيمية منهم الإمام السّبكي، وقد كان للنابلسي رأي في حدّ الإجماع وحدّ التواتر، والأمران من علم أصول الفقه. (ينظر: النابلسي1990: 128-137).

4ـ عالج النابلسيّ في كتاب رحلته الكثير من القضايا اللغويّة، منها قضية أن تنطق بالحرف تريد به الكلمة، يقول في تفسير كلمة ( را ) في آخر بيت من قصيدة مدحه بها رجل يسكن المدرسة البسطامية في القدس اسمه اسماعيل أبو قاسم النّجار المقدسيّ، والبيت هو:

“محبّكم جاء في التاريخ يبسط را/أهلاً وسهلاً ببحر العلم والكرمِ”.

وقد ذكر النابلسي أنّ في عبارة (يبسط را) تأريخ الزيارة بحساب الجُمّل، وهو ألف ومائة وواحد، يقول: ” وقوله يبسط را أي رداءه تواضعاً ومحبّة ، فإنّ ذكر الحرف من الكلمة يطلق على الكلمة نفسها “، ثمّ يأتي بالشواهد من أقوال المفسرين في قوله تعالى: ” ألم”، منهم البيضاوي الذي أورد رأياً فيها أسنده لابن عباس رضي الله عنهما، عدّ الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه.( النابلسي،1990: 239).

يضاف إلى ذلك معالجاته ومناقشاته لأسماء الأمكنة التي زارها أو مرّ بها في القدس وغير القدس.

5ـ الإجازات العلميّة ، والتقريظ:

ومن البعد العلميّ لرحلة النابلسيّ الإجازة والتقريظ، و الإجازة مصطلح علميّ ابتكره علماء الإسلام في بداية عصور الرّواية ، كان يهدف إلى توثيق العلوم المتمثّلة في ذلك الوقت بالقرآن الكريم ومرويّات السنة المطهرة ، يحصل من خلالها الباحث على حقّ الرواية ، أي الإذن في الرواية والمشاركة في السّاحة العلميّة، فمن نال إجازة في تلاوة القرآن الكريم أو رواية حديث أو كتاب فقد دخل صرح العلوم الشرعيّة، ونال الإذن في المساهمة في نقل العلم ونشره بين النّاس. (صالح المنجد، موقع الإسلام جواب وسؤال،https://islamqa.info/ar/about,)، وتطورت الإجازة لتكون مكتوبة أو وثيقة، ولتعمّ باقي العلوم، وقد نقل القلقشندي في كتابه نصّاً لإجازة موقَّعةً من شيخه ابن الملقن، وفيها: ” أذن وأجاز لفلان المسمّى فيه، أدام الله تعالى معاليه، أن يدرّس مذهب الإمام الشافعيّ، وأن يقرأ ما شاء من الكتب المصنّفة فيه، … ولا يستنكف أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم” . (القلقشندي،1919: 14/325(،

وشاعت الإجازات عند المتصوّفة فيما بعد في علوم الشريعة والتّصوّف، ونجد للنّابلسيّ عددًا من الإجازات منها النصّ النثريّ ومنها المقطوعات الشعريّة والتي تقدّر بإحدى عشرة، وكلّها إجازات لمشايخ الصوفيّة، في التّصوف أو في العلوم عامّة كما في إجازته لأمين الدين أفندي في القدس، ومنها إجازة لمنشد لقصائد صوفية في أحد المجالس.

وللنابلسي شعر في التقريظ، وهو مدح شخص لكتابه أو مؤلّفه، وهو من الأغراض الشائعة في العصر العثمانيّ، ويعدّ التقريظ هو إجازة من الشاعر لذلك الكتاب أو الرسالة، ومن شعره في التقريظ، مدح كتاب لمحمد بن العلميّ، وهو رسالة ألّفها في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: الشهر هكذا وهكذا، يقول: ( النابلسي،1990: 180-181)

مـنّ علينـا ربّنـا هـكذا/بنبـذة فـي هكـذا وهـذا/

“رسالة غرّاء جاءت بها/يد لمن أضحى الفتى الجهبذا/محمّد اللطفي نجل الذي/كلّ أمر بالفضل منه اجتذى/علاّمة الإسلام مفتي الورى/ينفي عن العين هذا القذى/لا زال بالتوفيق مع نجله/والله ينـفي عنـه كـلّ الأذى”.

الجانب الدينيّ الصوفيّ

والمنعم النظر في هذه الرحلة يجدها تتخذ في جانبها الدينيّ التعبّديّ الاتجاه الصوفيّ، فقد صبغت بالفكر الصّوفيّ الذي أعطى المدينة المقدّسة وجهًا تعبديًا صوفيّا محضًا، مغيّبًا كلّ الاتجاهات غير الصوفيّة في الجانب التعبديّ والفكريّ والتعليميّ، بل غيبت الجانب الشّعبيّ وحياة العامّة في القدس، ولا تعدّ إشارته العابرة لحفلة زفاف أو مجلس طرب في إحدى المقاهي موفية بوصف حياة العامّة، وعلى أيّة حال نستطيع إجمال أبرز مظاهر الاتجاه التّصوفي في رحلته فيما يأتي:

1ـ المصطلح أو الرمز الصّوفيّ، لا يكاد يخلو مقطع شعريّ أو فقرة نثريّة في كتاب الرحلة من مصطلح أو رمز أو فكرة صوفيّة، حتى إنّ القارئ المتعمّق يشعر بالحاجة لمعجم متخصّص باللفظ الصوفيّ، وأول المصطلحات الصوفيّة كان في الاسم الذي أطلقه على هذه الرحلة (الحضرة الأنسية في الرحلة القدسيّة)، فالحضرة في الفكر الصوفي تعني الاجتماع الذي يلتقي فيه الشيخ بمريديه، وهي أنواع منها الحضرة الأسبوعية أو اليوميّة للمريدين الذين يرغبون في العلم والدرس وتناقش فيها بعض كتب الفقه والتفسير، وهناك حضرة للذكر والسّماع وفيها يقرأ أحد المريدين نصوصًا في علوم الشّريعة يفسّرها الشيخ ويجيب على استفسارات المريدين، وهناك حضرات للخاصّة من المريدين وفيها يعرض مشكلة اجتماعية أو أخلاقية أو صوفيّة يدلي فيها الشيخ برأيه، وللحضرة تقاليد معينة منها شرب الشّاي، والاستمرار من بعد صلاة العشاء إلى منتصف الليل وتختم بصلاة العشاء جماعة(ينظر: الشرقاوي، 1987: 124-125)، أمّا الأنسيّة ” فالأنس عند الصّوفيّة يطلق على أنس خاصّ وهو الأنس بالله وكذا المؤانسة، والأنس عندهم حال شريف، هو اِلتذاذ الروح بكمال الجمال، وفي موضع آخر منه الأنس ضد الهيبة. وقال الجنيد: الأنس ارتفاع الحِشمة مع وجود الهيبة. ومعنى ارتفاع الحشمة هو أن يغلب الرجاء على الخوف منه” ( التهانوي، 1996: 1/277)

2 ـ قبول الروايات الضعيفة والموضوعة، بل إنّ النابلسيّ وهو من مشايخ المتصوّفة لا يرى داعياً للسّند القويّ في الخبر كما في الأحكام الشّرعيّة، وإنّما يكفي فيه الاشتهار بين العلماء أو أن يتناقله النّاس ليكون صحيحًا مقبولًا، يقول في الرّدّ على منكر وجود أثر قدم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في صخرة المسجد الأقصى: ” وإنّما في ذلك ثبوت بركة وخير وفضيلة وكمال خشوع وحضور وتعظيم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لا سيّما وقد اشتهر ذلك بين العلماء المتقدّمين، فذكروه في نظمهم ونثرهم بقصد الفضيلة وحصول البركة للنّاس، فكيف يجعل ذلك حكمًا شرعيّا ويطلب له سندًا قويّاً كما يطلب للأحكام الشرعيّة، بل يقول إنّ ذلك ثابت بطريق التواتر لأنّ القدم الشّريفة في الصّخرة يخبر به جميع أهل بيت المقدس أنّه قدم النبيّ عليه الصّلاة والسّلام، يحدثون بذلك عن آبائهم وأجدادهم” (النابلسي،1991: 130 )، وممّا يلاحظ على النابلسيّ، وهذا نهج صوفيّ أيضَا اعتماد الجانب الخرافيّ في بعض رواياته لبعض الوقائع، ومن أمثلة ذلك قوله في عمودين متلاصقين في المسجد الأقصى بينهما مقدار الشبر:” والعامّة يمرّون بين هذين العمودين ويعتقدون أنّ الذي يمكنه المرور لا ذنب عليه والمذنب لا يقدر أن يمرّ بينهما، وبلغني مرّة أنّ رجلاً كان جسيمًا فلم يمكنه أن يمرّ بينهما، فلمّا توسطهما انكسر شيء في ظهره فحسب أنّه ضلع من أضلاعه فأغمي عليه حتى رشّوا الماء على وجهه، فلمّا أفاق وقد أخرجوه فنظروا فإذا ملعقة قد انكسرت له موضوعة في ظهره وقد نسيها، وذلك من العجائب أنّه أغمي عليه من جهة الوهم” (النابلسي،1991: 142).

والاستغراق في حشدّ كلّ ما وقع عليه من أحاديث، وبخاصة الضعيفة والموضوعة تشي بحالة نفسيّة تقديسية متعلّقة بالمكان، وتريد أن ترى فيه المعجزة والكرامة بالمعنى الصوفيّ، وهذا ما يعكس شخصية الشّيخ الصّوفيّ الذي يبغي التميّز عن العامّة في العلم والمعرفة بالله وما يسمّى بالقرب والكرامات.

3 ـ الولوع بزيارة القبور والمقامات واعتقاد كرامات الصّالحين من الموتى، والدّعاء عندها والتوسّل بها، واعتقاده استجابة الدعاء لديها، ومن أمثلة ذلك قوله: ” فزرنا في طريقنا تربة الشيخ الإمام والعارف الكامل الهمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد القرمي، بكسر القاف وفتح الراء، قدّس الله سرّه، وأعلى في درجات القرب مقرّه، … ودفن بزاويته المشهورة، وله كرامات ظاهرة والدّعاء عند قبره مستجاب … فدخلنا إلى زاويته المشهورة، وتبركنا بحضرته المأنوسة المعمورة ووقفنا تجاه ذلك الشّبّاك، وقرأنا الفاتحة لحضرته بغير اشتراك” (النابلسي،1990: 182) وهكذا كانت القبور والمقامات موضع اهتمام في رحلة الشيخ النابلسيّ بل فيها جانب تعبّديّ مقصود.

4 ـ كثرة الزوايا الصّوفيّة في القدس، ووصف مجالس الذكر التي كان من معالمها الذكر وتلاوة القرآن، والمدائح النبويّة في ليالي الجمعة، والطبل والدفّ والعزف،( ينظر: النابلسي،1990: 241).

ولا شكّ أنّ الرحلة تكشف جانبًا مهمًا من التقاليد التعبديّة لدى المتصوّفة. وتكشف رحلة النابلسيّ عن تاريخ صوفيّ عريق في بيت المقدس.

5 ـ ـوظّف النّابلسيّ المعاني الصوفيّة في وصف رحلته، منه توظيف أسماء الأمكنة التي زارها في بيت المقدس في التعبير عن المعنى الدّينيّ الصوفيّ، ولا أدلّ على ذلك من قصيدة له عدّد فيها الأماكن المزارة بعد أن استفاض في وصفها نثرًا، حتى ليخيّل للقارئ أنّها في تلك الأماكن والحقيقة أنّها في التعبير الدينيّ على سبيل التورية، وقد بلغت خمسة وعشرين بيتًا، منها :(النابلسي، 1991: 191-192)

في قدس قلبي عين أشجان/من حبّه لا عين سلوان/

يا قبلة الصخرة أقصى المنى/لقياك عند الواله العاني/ووصله الأقصى العتيق الذي/عمّر بالتحقيق أزماني/إنّي لباب التـوبة الملتجي/وفتح باب الرحمة الداني/وقبّة الجـسم لروحي بها/معراج سرّ ظاهر الشان/ونشأتي سـلسة عـلّقت/بقــبّة الغيــــب لإنــسان/ والكأس فيما بيننا دائر/بخـمر تحــقيق وعرفان”.

ومنها في وادي جهنم والطور:

جهنّم الأشواق وادي الحشا/وفي صراط الصّبر ميزاني/وطور نفسي اِندكّ من هيبة/كانت وموسى الرّوح ناجاني”.

القسم الرابع

أسلوب النّابلسيّ في كتاب الرحلة

ولنا أن نسمّيه فنّ الرحلة عند النابلسيّ، فهو من رحالة القرن الحادي عشر الهجري إذ له خمس رحلات، إلى الشام ولبنان، وإلى استانبول، وإلى مصر، وإلى الحجاز، وقد وثقناها في بداية البحث حيث ترجمنا له، ويغلب على الظنّ أنّ هذه الرّحلة تمثل نهجه وأسلوبه الفنّي في كتابة الرحلة.

1ـ وأول ما يشار إليه في هذا الجانب أنّه اعتمد فيها أسلوب اليوميّات، فالرحلة خمسة وأربعون يومًا يوثق في كلّ يوم بتاريخه والشهر بالتقويمين الميلادي والهجريّ، ويحصي فيه أعماله ومشاهداته، وقد افتتحها بمقدّمة أو توطئة طويلة جعلها للقدس فبيّن أهمّية زيارتها، وقرنها بمكّة، وناقش أسماءها، وحدّ حدودها الجغرافية، واستفاض في الحديث عن فضائلها،

2ـ وممّا ميّز أسلوبه في رحلته أيضًا التوثيق لكلّ شيء ذكره من تاريخ وأحاديث وأراء وبعض مشاهدات الرّحالة السابقين له، بذكر المصادر أو المراجع التي اعتمدها واستقى المعلومة أو النّصّ منها، وهذا ما أعطى الرّحلة قيمة فنّيّة وعلميّة.

3ـ وقد اتبع أسلوبًا شائقًا جذّابًا، ففوق عرضه لمشاهداته وانطباعاته واستقصائه للوصف العمرانيّ بلغة نثريّة وشعريّة امتازت في أغلبها بالبساطة والجمال، نجده حرص على ذكر المعلومات التاريخيّة والدينيّة والوقوف عند التسميات، وطعّم الحديث بلفتات لغويّة أو أدبيّة، وقد بدا بها عالمًا مثقّفًا في مناح علميّة كثيرة، وكان لاعتماده السّجع وبعض المحسّنات اللفظيّة، وكذلك لغته الصّوفيّة بما فيها من رمزيّة، وكذلك بعض الروايات الخرافيّة، من خوارق وخيالات أسطوريّة، شيء من المتعة والجذب للقارئ.

4ـ ويضاف إلى كلّ ما سبق هو كثرة ما في هذه الرّحلة من الأشعار له ولغيره في أغراض متنوّعة، ولا نجانب الصّواب إن قلنا أنّها قد تشكّل ديوان شعر له.

5ـ كانت النظرة أو النزعة التي تحكمت في النابلسيّ هي المعتقد الديني الصوفيّ، فكان حريصًا على صبغ رحلته بل كلّ مشاهداته بالصبغة الصّوفيّة، فكانت محوراً آخر من محاور الرّحلة.

6ـ بدا النابلسيّ حريصًا على إظهار قدراته الأدبيّة النثريّة والشعريّة، واستعراض أعلميته، وبخاصّة في الجانب التصوّفيّ، فلم ترسم الرحلة معالم القدس وحسب، ولا معالم الطابع التّصوفيّ في المدينة، بل رسمت أيضًا معالم شخصيّة النابلسيّ، فكانت شخصيته المحور الثالث لهذه الرحلة .

الخاتمة

وهكذا نكون قد تناولنا القدس في أهم رحلة لأحد أعلام الرحلة في مطلع القرن الثاني عشر للهجرة، أواخر القرن السابع للميلاد، أي قبل ما يقارب ثلاثة قرون ونصف، وثّق فيها جوانب كثيرة من الحياة في القدس أهمّها الجانب العمرانيّ، وبخاصّة المسجد الأقصى وما تعلّق به، والمزارات والقبور والمقامات، والمدارس، والتّكايا وغيرها، ولم ينس فيها المعالم النّصرانيّة، ككنيسة القيامة والجثمانيّة، فوصف وأرّخ، وظهر من خلالها الطابع الديني الصّوفيّ الذي كان يطبع المدينة، على الأقل فيما أورده النابلسيّ، والحقّ أنّ هذه الرحلة جديرة بالاهتمام والدراسة، في وقت تتعرض فيه القدس، من جانب العمرانيّ لحملة من التهويد والطمس والإلحاق، ولما مثّلته الرحلة من صورة للأدب في العصر العثمانيّ، بشقّيه النثريّ والشّعريّ. ومن الجدير بالذكر أنّ هناك قضايا كثيرة وجوانب مختلفة في هذه الرحلة تستحقّ الدّراسة.

(إنتهى)

***

قائمة المصادر والمراجع:

التهانوي محمد علي : موسوعة كشاف مصطلحات العلوم والفنون ،تحقيق علي دحروج، ط1، مكتبة لبنان ناشرون- بيروت، 1996.

الشرقاوي، حسن: معجم ألفاظ الصّوفيّة ، ط1، مؤسسة مختار – القاهرة، 1987م.

الحكيم سعاد : المعجم الصوفي ، ط1 ، وندزة للطباعة ، بيروت، 1981م/1401هــ

الزركلي،خير الدين : الأعـلام ، ط17، دار العلم للملايين ، بيروت- لبنان ،2007م .

ضيف، شوقي: الرحلات، ط4، دار المعارف، القاهرة، 1956م.

القرطبيّ، محمد بن أحمد الأنصاريّ: الجامع لأحكام القرآن، دار الفكر، بيروت ـ لبنان،1995م/ 1415هـ

القلقشندي،أبو العباس أحمد: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، المطبعة الأميريّة ، مصر، 1919/1338هــ

قنديل فؤاد: أدب الرحلة في التراث العربي ، ط1-2، الدار العربية للكتاب، القاهرة ،2002م/ 1423هـ .

ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق سامي السلامة، ط2، دار طيبة، الرياض، 1990م/2420هـ

النابلسي عبد الغني:الحضرة الأنسيّة في الرّحلة القدسيّة، تحقيق أكرم العلبي، ط1، لبنان- بيروت، 1991م- 1411هــ .

مواقع في الانترنت :

1) صالح المنجد، موقع الإسلام جواب وسؤال، https://islamqa.info/ar/about

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *