السمفونية الخالدة… قراءة أولى في كتاب “بلاد القصرين” لـ جميل ميلاد الدويهي، رائد النهضة الاغترابية الثانية

Views: 470

د. جوزاف ياغي الجميل

“بلاد القصرين” عنوان كتاب للأديب الصديق جميل ميلاد الدويهي.

كتاب حكم هو. وحكمة الدويهي تستمد نسغها من مدينته الفاضلة المشبعة بتعاليم البشارة الإنجيلية الجديدة.

أين تقع بلاد القصرين؟ وما المقصود بها؟

بداية نقول: الحياة في قاموس الدويهي جسر عبور بين الأزلية والأبدية. عبور من قصر إلى قصر: قصر الأرض وقصر السماء.

في القصر الأول خيرات مدنية زائلة، رفاهية فانية، وغوص على ثروات تسرق القلوب .

القصران هما الجسد. والروح. الجسد هو المزمار والروح موسيقاه. ولا فصل بينهما، ولا قيمة لأحدهما من دون الآخر.

بلاد القصرين هي الأدب واللغة. وأي فصل بينهما إنقاص من قيمة الاثنين. ولا بد أن يتحدا كي يكون لهما قيمة كبرى.

الآلة والموسيقى إن افترقتا تتحول الآلة إلى جثة ليس فيها حياة.

بلاد القصرين هي الغربة والوطن. جناحان يحلق بهما الدويهي، نحو الآفاق. وأي فصل بين الجناحين يمنع الطائر من التحليق.

بلاد القصرين هي اللقاء بين الأرض والسماء. وهذا اللقاء هو غاية الإنسان، في هذه الحياة، حيث لا منطقة وسطى بين الجنة والنار، كما يقول الشاعر النزاري. لقاء بين واقع ومرتجى، أو بين الحقيقة والأحلام.

ولعل القصرين يمثلان الحياة والموت. في قصر الحياة طموحات وأحلام تتجسد حينا، في هيولى مادية لا تعي ذاتها في مكان أشبه باللامكان. أما الموت فهو القصر الأبدي الذيلا قيمة فيه للروح بعيدا من ماهيتها الأرضية

في قصر الحياة آلة موسيقية بامتياز. إن نزعنا عن ماهيتها الكليةجوهر موسيقاها تضمحل وتذوب.

وفي قصر الموت سمفونية خالدة لا يدرك عمقها إلا المبدعون، خبراء المتحف الإنساني، عبر العصور.

ولا تظهر قيمة الإنسان إلا في اللقاء السرمدي، بين القصرين الحقيقتين، حيث لا قشور ولا لباب، بل حقيقة كلية واحد اسمها الإبداع.

جميل ميلاد الدويهي، أردت فيكتابك الفكري هذا الوصول إلى نهضة اغترابية ثانية. وأي نهضة يمكن أن تتم بغير الحوار بين قصري التراث والحداثة. ولعلهما ركيزتان مهمتان في بناء الحضارة الجديدة، حيث لا انقطاع، بل تكامل وانسجام.

الآلة والموسيقى عنوان لثنائية تتحد في جوهر الأشياء لتعلن ولادة الإنسان الخارق القادر على اختراق قشرة جسد الحياة، وصولا إلى الأعماق.

في القرن الخامس قبل الميلاد، أعلن أفلاطون مدينته الفاضلة. وتستند هذه الجمهورية، بتأثير واضح من أستاذه سقراط، إلى مبدأي الحق والجمال، النور والظلال.

وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، بعد الميلاد، أطلق جميل الدويهي، أفلاطون الجديد، مبادرة الحوار، بين لبنان المقيم والمنتشر. وهو حوارخارج مفهوم التقوقع والانعزال الطائفيين.

إن كان أفلاطون قد طرد من مدينته الفاضلة الشعراء، فالدويهي بنى مدينة القصرين على التلاقي بين مفهومي الالتزام والحرية، وطرد من مدينته الفاضلة الجديدة، كل طارئ على الأدب والفكر والفلسفة، في بعديها الخاص والعام.

جميل الدويهي، مباركة لك إمارتك على بلاد القصرين. مباركة نهضتك الثانية، ارتقاء بالحضارة العربية، إلى مصاف الخلود، على أمل أن بنهض العرب، فيخرج مارد الإبداعمن قمقمه، وطائر الفينيق من بين الرماد. حينذاك يحق لنا أن نردد مع الشاعر أبي فراس الحمداني:

“ونـحــن أنـــاس لا تـوســط بـيـنـنـا/لنـا الـصـدر دون العالمـيـن أو القـبـر”…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *