جان توما:جواز سفر حنين مهاجر ويراع الى كل الوجوه مسافر … جان توما، الرسام الشاعري للميناء

Views: 786

Nivrette El Dalati Grégoire

(Paris) 

 شكرا دكتور توما لكتابيك (العمر شراع مسافر- وهويات معاصرة)، هدية جميلة وصلتني من لبنان، حيث نامت بين الصفحات رائحة الوطن والأحباب.أعود وأشكرك مرة ثانية لاختيارك نصا لي كمقدمة لكتابك “والعمر شراع مسافر” فهذا فخر واعتزاز لي، وجزء من ترميم حنيني لوطني الجريح لبنان.

– رحلة الى ذاكرة الماضي

عندما نبدأ بقراءة هذين الكتابين: “والعمر شراع مسافر – هويات معاصرة”، نشعر وكأننا في قطار يتغلغل بنا بين ضباب الطرقات العتيقة، في رحلة الى ذاكرة الماضي، نحاول رؤية الذكريات التي تمر بسرعة من نوافذه، وهو يغرقنا في تأملات حول الزمن الضائع، يبعدنا عن واقع لم يعد يشبهنا، في زمن تفتتت فيه القيم الانسانية، وضاع في خضمه الانسان. زمن امحت فيه ذاكرة الأيام، ولم نعد فيه فاعلين، كأننا تحولنا الى حجارة تسير عليها السنين.

بالأمس، أتانا جان توما من خلف الأزمان، حاملا معه خوابي الذكريات، مسح غبار السنين عن “قناديل البحر” فانقشعت “وجوه بحرية” لوجوه كانت منسية، في حارات وأزقة، نسجتها “يوميات مدينة”. واليوم، ونحن نتجه نحو غربة الانعزال والصمت القاتل، وقد اختفت الوجوه، تكسرت اللقاءات، وتشابهت الأيام والحوادث، بدا جان توما وكأنه يشعر بغربة العمر في وطن مهاجر، تحت وطأة زمن غادر، فسألناه :”لم اطلت غيابك”؟

فرحّلنا معه في مركب الحنين “العمر شراع مسافر، وهويات معاصرة”، وأخرج سلة احلام عمر جميل كان يغفو على وسادة من ياسمين، وتركنا نسرق أسرار الحكايات الغافية على رفوف النسيان، نبحث فيها عن فتات أحلام، علّها توقف مركب عمرنا المهاجر، وتبعدنا عن واقع سوريالي مؤلم طال ليله. رحلة رمتنا بين أمواج تعلو مع العمر المهاجر، فنسمع أصداء حكايات وجوه شحبت معالمها، وضاعت كأوراق بلا عنوان. وأمواج تتكسر، فنصحو على واقع لوجوه واعدة، تخط على الرمال رسماتها، وتعيد للشواطئء نجوم ليلها، لتستمر رحلة العمر المغامر.

كتابان، يتأرجحان بين الماضي والحاضر، فيهما الكثير من التأمل، ويبرزان كل مشاعر الكاتب، كأنهما أتيا لتحرير كل مشاعرنا المحبوسة منذ سنين، من: الحنين، الحزن، الوجع، القلق، الضحك، الندم، ونحن في وقفة عمر تساؤل!

إنّ التغير السريع الحاصل في العالم، يعكس قلقا عند الانسان، وخاصة الانسان اللبناني الذي اصبح زمنه شبه متوقف، وكأنه تحوّل الى صخرة لا تتزحزح، وتمنعه الالتحاق بعجلة القطار العالمي الذي قطع أشواطا من المسافات، مما انعكس قلقا عند جان توما، تمثل بافراغ حقيبة عمره دفعة واحدة، مع كل ما تحويه من ذكريات وأسرار من الماضي البعيد، والحاضر المزدهر بأقلام تنشر عطرها كالياسمين، لتلطف من حاضر يتخبط بالضياع، وبالمصير المجهول.

د. جان توما

 

– جان توما، هوية الميناء

عندما ندخل الى عالم جان توما، يختفي عن انظارنا وننساه، ونغرق بجمال اسلوبه وهو يحيي مدينته، فنخال انفسنا نرى وجهنا في المرآة، امام مذكراتنا، نتصفح أوراق حياتنا، حتى ولو أننا لسنا من مدينته، لكننا نتمسك بهذا الماضي الجماعي الباقي من ذكريات وطن.

عندما يحكي عن مدينته، ينطلق من واقع حقيقي معاش، كأنه يبحث عن ذاته بطريقة مباشرة او غير مباشرة، ويتحوّل الى مرآة لنفسه وللقارىء، من خلال دخوله الى عمق أشخاصه ومجتمعه. فيستحضر واقعه بكل مجالاته: الذكريات الخاصة والعامة، الأشخاص الذين عايشهم وعاش واياهم نفس الأحداث، الأمكنة التي ارتادها ويرتادها، التحول العمراني، البيئة، الكنائس والجوامع، الوجوه التي التقاها ويلتقيها، والتي أصبحت كأنها من عائلته، والمواقف التي طبعت مجتمعه، تقاليده وعاداته، أزمات الوطن والمواطن التي يعاني منها كل لبناني وعربي، كل ما يطال المجال الثقافي والحركات الثقافية في محيطه الاجتماعي. لا يقتصر بحثه عن الماضي والحاضر، على السرد والوصف فقط، انما هو بحث ناشط، دينامي، يتداخل بكل ما يرى، يسمع ويسجل. إنّ الحياة الشخصية عند توما تتشابك بالحياة العامة، فتصبح مرآة لوجه واحد لا يمكن فهمها الا كوحدة لا تتجزأ، تشبه عقد لؤلؤ، اذا هربت منه دمعة، تهاوت وراءها كل الدموع.

في بحثه الدائب عن الماضي، ركز على عامل الزمن، كما جاء عند مارسيل بروست في “البحث عن الزمن الضائع” حيث تشابك الخاص بالعام من خلال: الذكريات الشخصية، العائلية، الثقافية، الاجتماعية، السياسية، الأزمات، الحروب، والفنون لتنعكس ابداعا في روايته. وما استحضار توما لكل هذه الوجوه والأمكنة التي كان يعرفها وتعرفه، الا بمثابة جسر يربطه بالانتماء الى عالم كان يسوده الاستقرار النفسي، الاجتماعي، والاقتصادي، في محاولة منه للتغلب على الشعور بقلق المصير، في زمن مبعثر، وفي وطن بدا يفرغ من شبابه وأهله، وأوضاع معيشية سيئة لم يعرفها من قبل. اضافة الى التغير العمراني الذي غيّر او محا معالم تاريخية، وجغرافية كانت تخبىء ذكرياته، وتشكل بالنسبة له اطارا ذاتيا آمنا.

تظهر أهمية المكان بوضوح عنده، فهو لا يراه بيتا يسكنه، أو زقاقا، أو شارعا من حجارة واسمنت يسير عليه، بل هو يتفاعل معه، ويتحول عنده الى جارور حكايات، يخبىء وجوه كل من عبره أو يعبره. هذا المكان، أصبح رفيق عمره، كبر معه ويعرف كل اصدقائه وأحبائه، يحاكيه ويسأله عن السنوات التي مرت برفقته، وواكبت شيطنة طفولته. والمرور به أو عليه، كأنه يمر بين حقل من الذكريات التي تضفي عليه البهجة في لحظة حزن وضياع. ازاء كل هذا التحول المقلق، بدأ توما يشعر بفراغ الوجود، ولم يجد أمامه الا البحث عن استمرارية حياتية يخشى انقطاعها، فوجدها في ماض سعيد يألفه، فاستدعاه من ذاكرة الزمن ليكون له بديل زمن يضيع ويصعب القبض عليه، ريثما ينقشع ضباب الحاضر.

هذا الماضي المنسوج بدينامية بينه وبين مجتمعه، حبك مسرى حياته وحياة من عاشه وعايشه، فاشتبكت السيرة الذاتية بالسيرة الجماعية، لتؤلف وحدة تصلح أن تكون مرجعا لدراسة حياته والحياة اليومية لمدينته، في هذه الحقبة من الزمن، وكأنه اصبح هوية الميناء وهي هويته.

– رحلة تاريخية جغرافية

كتابات جان توما، تظهر العلاقة الوثيقة بين الأدب والواقع، بحيث ان هذه الكتابات أتت كخرائط أدبية، نسير عليها وكأننا في رحلة تاريخية، جغرافية، مماثلة  لتلك الرحلات الأدبية الى فرنسا ما بين (1920-1880)، التي كانت تستقطب العديد من السواح، خاصة الناطقين باللغة الفرنسية والانكليزية، متأثرين بجمال ما قرأوه عند الكتاب الفرنسيين، للأماكن التي زاروها وخاصة  في كتابات Balzac الذي لقب ب “بلزاك فرنسا”

كذلك كتابات جان توما عن الميناء، فهي تستقطب كل من يقرأها، من خلال ابداعه الرومانسي بوصفه للأمكنة والحياة اليومية فيها، بكل تفاصيلها: تواريخ، كنائس وجوامع، أديرة، جبال، مناظر، أزقة وحارات، أصوات، روائح، بحيث انها تجعلنا نعيشها، ويخيّل الينا اننا فعلا نشم روائح القهوة في المقاهي العتيقة، رائحة الزعتر من بين الوديان اللبنانية، شجر التين والتوت، الأدراج والأبواب العتيقة، ندخل الى البيوت ذات العمار العربي القديم، المصطبات والساحات، نسمع أصوات الأموج وكأنها تداعب مراكب الميناء.

كل ذلك، يأتي بأسلوب ابداعي مميز، خاص به، وكأنها توميات جان توما، كفيروزيات فيروز. مازجا الواقع بالخيال، مما يضفي على التاريخ نزعة شاعرية تجعل من قارئها حالما، يتخيل نفسه كأنه فعلا في زمن آخر، من أبداع الكاتب الذي اصبح مميزا بكلماته التي نعرفها حتى ولو ان اسمه لم يكن موجودا. لقد حوّل مدينته الى قصيدة يتغنى بها اهلها وكل من يقرأ عنها في كتاباته. وكأنها اصبحت ميناء توما.

– النزعة الانسانية وخلق سجل نفوس أدبي

تظهر النزعة الانسانية عند توما في كل الوجوه والأمكنة، حتى الوجوه الممحية التي نقّب عنها في ذاكرة الزمن، أحياها وحوّلها من مجرد لائحة أرقام لأسماء، الى حكايات عمر خلّدها في سجل نفوسه ألأدبي، فنخال اننا نعرفها وتعرفنا، نحاكيها وتحاكينا ونتفاعل معها.

عندما يتناول الأشخاص لا نرى تمييزا في المهن أو في الطبقات الاجتماعية عنده، فهو يتحدث عن البائع العادي الجوال، وصاحب المحل البسيط، كما يتحدث عن الدكتور والمهندس. الكل عنده ينضوي تحت طبقة واحدة، الا وهي، طبقة الانسان، فلكل مهنة قيمتها الخاصة بها، وليست اهم أو أقل اهمية من مهنة اخرى. كل اهتمامه ينصب على داخل الانسان وعلاقته مع الآخرين، مركّزا على القيم الانسانية الثابتة، القائمة على الاحترام والتعاطف، كل في دوره ومهنته دون حواجز بينهم. فنرى مثلا، الدكتور الذي يأتي لزيارة المريض، فيجلس معه ويستمع لهمومه ووضعه المعيشي الذي يمنعه من شراء دواء مثلا، فيقوم بالعمل على تأمين ما يلزمه “لغياب الاهتمام الرسمي بالمواطنين”. أو الدكتور، الذي يكشف عن مريض “وقليلا ما كان ينال اجرا او اكرامية”

تناول توما اشخاصا واقعيين من مجتمعه، وليس من صنع خياله، وكان يعرف الكثيرين منهم، وعايشهم. وعندما يحكي عنهم، يتماهى بهم ويدخل الى اعماقهم، يحكي أوجاعهم ومعاناتهم في حياتهم ومهنهم، محاولا اظهار الدور الفاعل لكل شخص من خلال مهنته، بالتعامل مع الآخرين. مركّزا على سلوك الأفراد من خلال تشابك المهن، وأهمية التعاون بينهم، الذي يجعل الكل يكمّل بعضه، مما يخلق الشعور بالانتماء الى محيط شبه عائلي يسوده الاطمئنان النفسي والأمان. وما يخشاه توما اليوم، هو ان يختفي هذا النسيج العائلي، الأخوي، القائم بين كل اهل المدينة، تحت وطأة التغيرات السريعة في العالم ككل، وفي وطنه بشكل خاص. بحيث ان المصلحة الشخصية بدأت تطغى على المصلحة العامة.

 

  الحنين الى  الماضيLa nostalgie

        جان توما فنان يتقن أسلوب الحنين، كلماته تؤرجحنا كالأمواج بين الماضي والحاضر، بين الوعي واللاوعي، وكأننا نعيش حاضرنا من سراج ذاكرتنا اللاهث، دون ان نغرق في الماضي بشكل مرضي. فالنوستالجي الجماعي في الحنين الى الماضي الذي احدثه عندنا، اتى ليفسر الواقع المفروض والمرفوض. هوشعور بسعادة زمن ولى، يخفف من وطأة الحالة النفسية التي تشبه الزمن الرديء، الذي يكبلنا في هذا العالم المجنون، فتناوبت هموم الحاضر مع أحلام جاءت ترمم حجارة السنوات المتكسرة من وجع العمر، في وطن مجروح، تنكّر لأبنائه ولم يعد يعرفهم.

         لقد نجح توما في ادخالنا الى مدينة الحنين التي تشبه احلامنا، وما احوجنا اليها اليوم، لنضيع في ماض كانت الهموم فيه تتكىء على ألفة الجيرة، “أيام الدشك، بابور الكاز، قناديل السهر، وشجرة الزفير، ترك المفاتيح في الأقفال لتدخل مرحّبا بك، دواوين اللقاءات مع كراسي الخيزران وفناجين القهوة”.

كل هذه الأجواء اللبنانية الآتية من الماضي الجميل، تشعرنا وكأننا فعلا في رحلة عبر ضباب نضيع فيه بين حارات ووجوه، نغفو بين كلماته، نتوه في حوانيت ذكريات الماضي المتثائب بين ايام  منسية، نتسلل الى البيوت العتيقة عبر أبواب غفت خلفها حكايات واسرار، نسمع اصوات الجيرة من على أسطح تغازل القمر، وضحكاتها المختبئة خلف عباءة الليل، المزروعة بالياسمين علنا نرمم ذاكرتنا المخبأة  في قنديل شح زيته.

انه يعود الى ماض مليء بالأشخاص، بالحكايات ، هادىء، بطيء التغير، كباحث عن الاستقرار النفسي في مرحلة تشبه القطار السريع: هموم وطنية تعكس زمنا مضطربا، وصوله الى مرحلة التقاعد التي تتسم عادة بالهدؤ والاستقرار النفسي، واذ بها، مرحلة ضياع واضطراب، وقلق على المصير، والشعور بفراغ داخلي أشبه بغربة في الوطن، فحاول ملأه بكل الوجوه والأمكنة التي احياها من مدينته .

هذان الكتابان اتيا عنده  كسلاح ادبي لمواجهة هموم العمر والوطن، والشعور باستمرارية الهوية الذاتية، لحياة اصبحت كل أبوابها مشرّعة لأعصار المجهول: من وباء “الكورونا” الذي غيّر وسيغيّر مجرى الانسان والانسانية جمعاء، اضافة الى وطن مصيره مجهول، في سفينة تائهة في كل الاتجاهات.

لقد عرف هذا الأديب، كيف يدخلنا الى هذا العالم دون ان يحبسنا او يتركنا نغرق داخل ذاكرة تجعل منا مرضى الماضي، فكان يعيدنا الى الواقع كساحر متفنن، يخشى غرق قارئه في اعماق روائع ادبه.  فبينما هو يدخلنا الى حلم في “العمر شراع مسافر”، يخرجنا الى الواقع في “هويات معاصرة”، تستدعي التواصل في الحياة وتوحي بالأمل المشرق.

-المعاناة الانسانية من وجع وطن

جان توما ككل لبناني، يعاني بصمت من وطن خان أحلامه وأحلام مواطنيه، حيث شحت فيه رؤية المستقبل، واختفى خلف ضباب المجهول، فطبع زمنه بمشاعر الانسان اليائس، الضائع، المقهور، منطلقا من معاش واقع لم يألفه، يسوده: فقر، حزن، قمع، هجرة.

ونحن لا ننسى انعكاس كل ذلك على الوجوه التي يئست من أوطانها العربية بما فيها لبنان، الذي البسوه رداء غربة مفروضة، فهرب ابناؤه من سمائه كالعصافير المجروحة، في قوافل مراكب اليأس، لتختفي بصمت بين أمواج بحر النسيان.

وفي مواجهة الكاتب لماضيه، شاءت الأيام ان يلتقي ببعض تلاميذه الذين رحلوا للخارج طلبا للعلم في كل انحاء العالم، فهالته المراكز العالية التي يتبوأها اليوم تلاميذ الأمس، من (العالم الفلكي الى الطبيب والمهندس)، فكان اعتزازه بهم كبيرا، ولم يظهر أمامهم حزنا أو خيبة من وطن سرق عمره ورزقه، كي لا يقتل شعاع الأمل المتبقي عندهم في حلم العودة .

هذا الوطن  الذي آمن به توما وقرر البقاء فيه، وهو العاشق، المخلص لمدينته، أصبح اليوم يعد فيه الأوجاع، دون ان يحلم بغربة، وقد امتدت جذور شجرة عمره في كل مدينته، واصبح البعد عنها من عداد السفر المستحيل.  فعكس مخاوفه في “العمر شراع مسافر” من الزمن الذي يرحل كالمهاجر، وهو ما زال على صخرة الانتظار، فنراه يتماهى في “النورس والفضاء”:”كسفينة تبحث عن مرسى اتوه نورسا في مجاري المياه فلا اروح مطرحا باق على جذع، او على سن صخرة في العراء المالح خارجا الى مرمى العالم.”

انه يحكي عن وجع وطن،عن معاناته ومعاناة أبنائه، من خلال أدب موجع، فيدير وجهه للعنف وللهموم السياسية القاتلة، وينطلق بصمت صارخ، من عمق المأساة اللبنانية التي قضت على كل شيء في لبنان، رافضا واقعا لا يشبه واقع وطنه، لكنه لا يلفظ عنفا، ولا يشكو، بل انه يرحل بعيدا كالطير الموجوع، يحاكي “منديل السفر”، تاركا ضجيج الموج يحكي اسراره، خائفا من غربة العمر في “السؤال المستحيل”. انه في بحث دائم عن الانسان الضائع في زمن منسي، يحاول ان يستعيد في أدبه ذاكرة مدينة، ليخبئها بين تجاعيد صفحاته، خالدة في دهاليز التاريخ، في وطن فقد ذاكرته ومنارته، فغاب وتاه في أعماق زمن مجهول .

– جان توما رسام الأدب والشعر للميناء

جان توما رسام لوحات لمدينته التي عشقها، كعشق الرسام العالمي الفرنسي

« Edouard – Léon Cortès »  لمدينة باريس، التي كرّس لها اغلب لوحاته التي عمل على رسمها أكثر من خمسين عاما، من: ساحات، مقاهي، كنائس، شوارع، أماكن ثقافية، اكثر معالم المدينة. فأصبحت سجلا تاريخيا لحضارة باريس خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأطلق عليه معاصروه لقب “الشاعر الباريسي بالرسم” و” المؤرخ الشاعري لباريس” كذلك يمكن ان نعتبر كتابات جان توما، لوحات أدبية للحياة اليومية لمدينته التي كرّس لها أغلب سنوات عمره الأدبي، لوحات تصلح لأن تكون في المتحف الأدبي لسجل ذاكرة الميناء.

يظهر لنا توما في لوحاته الشعرية أغلب الأماكن التاريخية والأثرية التي تحكي مدينته وطبعت حياته. فيستعرض منها  ما غاب وبقي أثره، والبعض الآخر الذي ما زال بعد ان دمّر ورمم مرات ومرات.” أنفة الممر التاريخي حيث كل المنعطفات تقود الى كنيسة سيدة الريح.التي بنيت في العهد البيزنطي – ترب المسيحيين كانت ساحة الترب او المدافن قبل 1875 ملاعب الطفولة والصبا – كاتدرائية القديس جاورجيوس في الميناء، التي بناها الارثوذكس من حجارة طرابلس التاريخية 1289م – الجامع الحميدي في الميناء في سوق الاسلام وهو السوق الاقتصادي الأساسي في مدينة الميناء بني عام 1884 م – الجامع الكبير العالي في الميناء، الذي يعود للعهد المملوكي العثماني، وتم تجديده عام 1722م – سوق الذهب او باب التبانة المعجوق زمانا بأربعين خانا (أوتيل) لاستقبال تجار المناطق والجوار، وبسوق تجارة القمح، وبالصناعات الخفيفة الميكانيكية – آثار سوق الخراب 1289 م حيث القناطر الافرنجية والبيوت العربية – محطة القطار التي كانت تربط طرابلس بأوروبا ودمرت 1908- 1911 – دير البلمند الغارق في سكينة التاريخ – حي السراتي 1920 بناية من الطراز الايطالي – التل وساعته التذكارية 1902م لمناسبة مرور 25 سنة على ولاية السلطان عبد الحميد الثاني”.

لا شيء يخفى على جان توما، انه حريص على التقاط كل التفاصيل للأمكنة، المناظر والأحداث، الروائح، محاولا اظهار الوجه التاريخي لمنطقة الشمال، من خلال ريشته وعدسته الأدبية التي اضفت جمالا تجلى ابداعا بأسلوبه الخاص به، فأشرقت كل هذه الأمكنة، صورا وألوانا في لوحات شعرية خالدة لمدينته.  (للأسف لا مجال هنا لذكر تفاصيل الوصف الشاعري، الرومانسي لكل من هذه الأماكن التاريخية، التي ابرع الكاتب في احيائها،.وجعلنا نعيشها ونغرق في كنوزها لنسافّر عبرها الى زمن آخر.

لا يمكننا ان نقرأ كتابا واحدا من كتبه، دون ان نربطها ببعضها البعض، انها امتداد لذاته، كأننا نسير على جسر متواصل يصعب تجزئته للوصول الى نهاية الطريق. انها رحلة على جسر الزمن، كلما تقدمنا خطوة ننظر الى الوراء، فتتراءى لنا الحكايات، تلاحقنا وتسائلنا، وكأنها صدى الخطوات الأولى.

هذان الكتابان، لم يأتيا بشكل عبثي في زمن العزلة من وباء “الكورونا”، والوباء السياسي في الوطن، بل انهما اتيا كمرآة للتأمل في فاتورة الزمن الراحل، وفي وطن مهاجر الى مسافات، لا عناوين فيها ولا حكايات. فحاول توما جلب الوجوه والأمكنة التي كانت تملأ عالمه وتشعره بالاستقرار النفسي، وأسكنها في عالمه الحاضر الذي بدأ يفرغ من الأحلام وتضمحل فيه الذكريات.

انه جاء يلملم أوراق ذاكرة تهاوت، في زمن تغيرت فيه كل معالم الأشياء، واصبحنا فيه غرباء. وأتى ليرمم حنين المغترب لوطنه الجريح، فرحّلنا معه بعيدا عن غربة في الوطن سرقت اعمارنا، وقتلت الأمل فينا ونحن نعد السنين يائسين، وغربة عن الوطن، محت وجوها من صفحات ايامنا، ونحن على مرافىء الانتظار يقتلنا وهم الحنين.

كتاباته جاءت تسائلنا من نحن، ولم رمى اغلبنا عمره خلف بحار اغرقت في اعماقها وجوها وأماكن نسجت معنا ماضينا، فوجدنا صدى السؤال في أشرعة مراكبه التي أبعدتنا خلف حدود الألم، لنستعيد احلاما تسافر بنا خارج أسوار عمر ضائع، جريح. عندما نعبر جسر كلماته، نتنهد، كتنهدات السجناء على “جسر التنهدات في « Venise »  عندما كانوا يتذوقون طعم الحرية لآخر مرة، بانتقالهم من سجنهم الى المحاكمة. ونحن نخشى ان نرى لآخر مرّة حلم الوطن الجميل، عند عبورنا من أحلام “الشراع المسافر” الى جنون البحر في شراع العمر التائه، في بحر المصير المجهول. فنأمل ان يحوّل الشراع اتجاهه  ليمنع سفن العمر ان تغادر، ولتشرق شمسا في ميناء الوطن قبل ان يهاجر.

هذان الكتابان بالاضافة الى “وجوه بحرية – يوميات مدينة – وقناديل البحر”، تصلح لدراسة نفسية للزمن والذكريات، العلاقة بين الثابت والمتغير، الماضي والحاضر، الواقع والخيال، الوعي واللاوعي. اذا اردنا تلخيص الكتابين، بامكاننا القول ان توما انطلق من الشعور بقلق يشبه ” قلق في الحضارة”  للعالم والمحلل النفسي، سيغموند فرويد، فحاول البحث عن عامل استقرار ولو مؤقت من خلال القبض على الزمن الضائع “كالزمن المفقود” عند مارسيل بروست،. لكنه لم يترك الحاضر يندثر في الماضي الجميل، فخلق “هويات معاصرة” كي لا يموت الزمن عنده، وليكمل الطريق مع وجوه أخرى ، جديدة، تزرع الأمل في حكايات ووجوه جديدة، وفي وطن جديد.

يبقى القول: إن جان توما هو بوصلة الميناء وخزنتها الأدبية، انه قاموس لذاكرة مدينته. اذا كان “العمر شراع مسافر” فجان توما هو جواز سفر حنين مهاجر، ويراع الى كل الوجوه مسافر.

26- 1- 2021

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *